الأحد، 14 أبريل 2019

الثقة بالله مفهومها وفضلها وأسبابها وثمراتها وكونها صفة الأنبياء والصفوة من الرجال والنساء


مقدمة
من غير الثقة بأن القوة من الله القوي يسقط الإنسان في مواجهة مُعضلات الحياة ، ومن غير الثقة برحمة الله الرؤف الرحيم يقنط المذنبون ، ومن غير الثقة بأن الصبر من الله تعالى نعجز فلا نصبر على البلاء .

ومن غير الثقة بأن الله قادر وقاهر لعجز أصحاب الحق عن مواجه الجبارين والظالمين ، ولولا الثقة بأن الله تعالى هو الناصر والمعين لعجز المجاهدون عن مواجهة أعداء الله تعالى الذين يفوقوهم عددا وعدة .

لذلك فإن الثقة بالله تعالى صرح شامخ في قلب المؤمن لا تهزه عواصف المصائب والمحن، بل تزيده شموخاً ورسوخاً، ولا يهدمه إلا سوء الظن بالله، والشك في حصول فرجه، وكثرة التعلق بالمخلوقين، وتناسي الخالق جل وعلا .


أولا : مفهوم الثقة بالله تعالى :

تنوعت مفاهيم الثقة بالله تعالى وتعددت تعريفاتها فنذكر منها الآتي :

الثقة بالله تعني : اليقين الراسخ بأن الله لا يخلف وعده وأنه على كل شيء قدير ، والإيمان الصادق بكل ما أخبر به سبحانه وأن ما قدره سوف يكون.

 والثقة بالله تعالى كذلك : أن يكون العبد أوثق بالله من نفسه، ومن ما يملكه بيده، أو مما يملكه الآخرون في أيديهم وهذا كله من علامات التوكل على الله .

والثقة بالله تعالى أيضاً : أن تبذل ما في قدرتك ووسعك من الأسباب لتحصيل المحبوبات ودفع المكروهات ، ثم تفوض أمرك إلى الكريم وتعلق قلبك به، وتتوكل في أمرك كله عليه .


ثانيا : فضل الثقة بالله :

1. الثقة بالله تجعل العبد راضيا بالله :

قال حاتم الأصم: "من أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلب في رضا الله: أولها الثقة بالله، ثم التوكل، ثم الإخلاص، ثم المعرفة، والأشياء كلها تتم بالمعرفة ،

2. الثقة بالله نجاة من كل كرب :

ومن وثق بالله نجاه من كل كرب أهمه؛ قال أبو العالية: "إن الله -تعالى- قضى على نفسه أن من آمن به هداه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَه ُ} التغابن11 .

3. ومن وثق بالله نجاه من كل كرب أهمه :

مادام واثقا به ، متوكلا عليه ، معتصما به ، قال أبو العالية: "إن الله -تعالى- قضى على نفسه أن من آمن به هداه، قال الله تعالى : {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} التغابن11) ،
ومن توكل عليه كفاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } الطلاق 3 ،
ومن أقرضه جازاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة ً} البقرة 245 .
ومن استجار من عذابه أجاره، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا}آل عمران 103 .
والاعتصام الثقة بالله، ومن دعاه أجابه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} البقرة 186 ،

4. من تحلى بهذه الصفة فقد فاز بالجنة :

قال شقيق البلخي رحمه الله : من عمل بثلاث خصال أعطاه الله الجنة:
أولها : معرفة الله -عز وجل- بقلبه ولسانه وسمعه وجميع جوارحه،
والثاني : أن يكون بما في يد الله أوثق مما في يديه،
والثالث : يرضى بما قسم الله له، وهو مستيقن أن الله تعالى مطلع عليه, ولا يحرك شيئا من جوارحه إلا بإقامة الحجة عند الله، فذلك حق المعرفة

5. الثقة بالله تعالى حصن المؤمنين من الشيطان وعدة المجاهدين :

 قال -تعالى-: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) البقرة: 268 ، فمن لا يثق بالله تتخطفه وساوس الشيطان من الفقر فيسقط في كل رذيلة، ويُلبّس الشيطان عليه الحق بالباطل فيستحل الحرام وينقض عرى الإسلام عروة عروة.


ثالثا : الثقة بالله من صفات الأنبياء   :

لقد كان أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام واثقين بالله تعالى ثقة لم تزعزعها رياح الابتلاءات وأعاصير الرزايا، فكان ذلك من أسباب نجاتهم ونصر الله لهم.

 1. ثقة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار :

حينما ألقي خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- في النار كان على ثقة عظيمة بالله؛ فقال :"حسبنا الله ونعم الوكيل" فكفاه الله شر ما أرادوا به من كيد، وحفظه من أن تصيبه النار بسوء، قال تعالى: { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيم َ} الأنبياء69 .

2.  ثقة  نوح عليه السلام حين كذبه قومه :

يقول تعالى عن نبيه نوح عليه السلام حال خطابه لقومه حين كذبوه : ﴿ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ﴾ يونس: 71-73 .

3. ثقة موسى عليه السلام حال حصاره بين العدو والبحر :

حينما خرج ببني إسرائيل من مصر والبحر أمامهم والعدو خلفهم ، تظهر ثقة موسى عليه السلام فيقول الله تعالى : ﴿ فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ﴾ الشعراء: 61-64 .

4. ثقة محمد صلى الله عليه وسلم وهو في الغار :

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- أن أبا بكر الصديق حدثه، قال: نظرتُ إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) مسلم ،
فيسجل الله هذا الحدث بقوله تعالى : { إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } التوبة 40 ،
وفعلا كان الله مع نبيه عليه الصلاة والسلام فحفظه وأيده ونصره، وجعل العاقبة له ولأتباعه من المؤمنين والمؤمنات.


رابعا : أسباب الثقة بالله تعالى :

لماذا يثق المؤمن بربه ويتوكل عليه؟

1. لأن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، ولأن الأمر كله لله ، يورث الأرض من يشاء من عباده :
قال الله تعالى : ( قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّه ) سورة آل عمران 154،
وقال الله تعالى : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) سورة ) يس82 ،
وقال تعالى : ( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) الأعراف:128.

2. لأن الأمور عنده سبحانه وليس إلى غيره، لأنه شديد المحال، فهو عزيز لا يُغلب،
قال ألله عز وجل: ( وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُور ) ُالبقرة:210 ، كما قال تعالى: ( وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ) الرعد:13،

3. ولأنه سبحانه وتعالى له جنود السموات والأرض وجمع القوة والعزة و قاهر من يخرج عن أمره وهو القوة المتين القابض الباسط الذي يُؤتي مُلكه من يشاء :
قال الله عز وجل: ( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الفتح:7، كما قال تعالى : ( وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) الأحزاب : 25، قال الله تعالى : ( هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) الزمر :4 ، وقال الله تعالى :( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) الذاريات: 58 ، وقال الله تعالى : ( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ) آل عمران:189،

5. ولأنه سبحانه وتعالى هو الذي يضُر وينفع والذي يخادع المنافقين ويمكر بأعداء الأمة :
قال عز وجل: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) النساء : 142 وقال تعالى : ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) الأنفال :31 ،


6. ولأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقدّر الاقتتال وعدمه ، القادر على إمضائه أو وقفه ، والقادر على نصر المؤمنين :
فأخبر  سبحانه نبيه ﷺ فقال : ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ) المائدة : 64 ،
وقال الله تعالى : ( فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ) سورة المائدة 52 .



خامسا : ثمرات الثقة بما عند الله تعالى:

إنَّ للثقة بما عند الله تعالى ثماراً عديدة تتجلَّى في حياة المؤمنين في معانٍ عدَّة أبرزها:

1- راحة النفس وطمأنينة القلب :

وذلك أنَّ الذي يثق بما عند الله تعالى يكثر من ذكره سبحانه وتعالى ويتعلّق به حبّاً وطاعة، ومن فعل ذلك حصلت له الطمأنينة، قال تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} الرعد: 28 .
لقد كان ذكر الله تعالى من أعظم المثبتات التي ثبتت الشباب في لحظات الفتنة وهجوم البلطجية، لقد سمعنا صيحات التكبير والتهليل في مختلف مفاصل المواجهة مع فلول الأنظمة البائدة، ممَّا يدل فعلاً على اطمئنان القلوب بذكر الله، وأثر هذا الاطمئنان في الصمود.

2- حصول الأمن والاستقرار وعدم الخوف :

ذلك أن المؤمن يعلم أن الله تعالى معه، وأن الأمّة لو اجتمعت على أن يضروه لم يضروه إلاَّ بشيء قد كتبه الله عليه، وقد بيّن الله تعالى أنَّ الأمن لا يكون إلاَّ للمؤمن، قال تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولـئك لهم الأمن وهم مهتدون}.الأنعام: 82 .
فالطغاة يظنون أنَّهم بإرهابهم للمحتجين سيجعلونهم يتفرقون، إنهم يجهلون ذلك الأمان الذي يستشعره المؤمنون المعتصمون بحبل الله المتين.


3- فتح باب الرِّزق والخير وإجابة الدُّعاء :

ذلك أنَّ الواثق بما عند الله تعالى قريب من ربّه متوكل عليه، قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} الطلاق: 3 . وهذا يعني أنَّه سبحانه وتعالى كافيه وشافيه ورازقه ومعطيه، وقد رأينا هذه الثمرة في أنَّ الكثيرين كانوا يضحون بوظائفهم لخدمة الثورة وأهدافها غير آبهين بما ينتظرهم من حرمان من الوظيفة عقوبة على تفاعلهم مع الثورة، لم يأبه مئات الآلاف في مصر واليمن وتونس بتهديدات أعوان النّظام بالقصاص منهم متوكلين على الله تعالى، وواثقين بأنَّ رزقهم عند الله مكفول لا تنتقصه القرارات ولا تمنعه الاقصاءات.

4- فتح باب القبول والمحبَّة عند الناس :

ذلك أنَّ الواثق بما عند الله تعالى لا يحسد الناس، ولا ينافسهم في أمور دنياهم، لأنَّه يعلم أنَّ ما عند الله خير ممَّا في أيـدي الناس، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنِ الْتَمَسَ رضى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ الِلَّهِ عَنْهُ، وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخَطَ الِلَّهِ عَلَيْهِ، وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ) رواه ابن حبَّان    بإسناد حسن .


سادسا : الثقة بالله صفة الصفوة من الرجال والنساء :


أ - والثقة من صفات الأولياء الصادقين والعباد الزهاد :
1. قال يحيى بن معاذ: "ثلاث خصال من صفة الأولياء: الثقة بالله في كل شيء، والغنى به عن كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء "شعب الإيمان للبيهقي .

2. وقد جاء رجل إلى حاتم الأصم فقال: "يا أبا عبد الرحمن أي شيء رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد؟ فقال: "رأس الزهد الثقة بالله ووسطه الصبر وآخره الإخلاص"،
صور من ثقة المرأة في الله تعالى :

ب - لقد ضربت المرأة المسلمة أيضاً أمثلة رائعة من الثقة بالله تعالى،

1. فها هي أم إسماعيل عليهما السلام حينما وضعها إبراهيم عليه السلام في مكة بوادٍ غير ذي زرع بلا أنيس ولا شيء قالت وهو يودعها وابنها: (يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يتلفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا) .
فحسن بعد ذلك حال هذه الأسرة المؤمنة هناك وجاءها القوت والجيران الصالحون.

2. وهذه أم موسى عليهما السلام أيضاً تضرب مثلاً آخر في الثقة بالله تعالى، فهي لما خافت على ولدها من ذبح فرعون ألهمها الله تعالى أن تلقي فلذة كبدها في الماء الذي هو مظنة الهلاك المحقق،
قال تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * ﴾ [ القصص: 13.

فروض الكفاية تعريفها ، وأهميتها ، وأثرها على الأمة ، والأضرار المترتبة على التقصير نحوها ، ووسائل الإرتقاء بها

مقدمة :

قال الله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ...} آل عمران : 110 ، هكذا وصف الله الأمة المسلمة بأنها خير الأمم على الإطلاق ، ما أحوج أمتنا أن تستعيد خيريتها هذه .

ولن تتحقق مواصفات خيرية الأمة إلا بقيام أفرادها بفرائض الدين لتزكية النفس وتحقيق الطاعة وتجنب المعصية والمشاركة الضرورية في الواجبات الاجتماعية ، وجاء التكليف للجماعة والأمة بسدِّ الثغرات وكشف الأخطاء والإخفاقات سعياً للعلاج وحفظاً لكيان الأمة وإعلاء لكلمة الله، وتحقيقا لوظيفة الاستخلاف .

وقيام مجتمع المسلمين بتحصيل كافة العلوم والنهوض بمصالح الأمة على النحو السالف بيانه حتى تتحقق لها الخيرية التي ارادها الله فرض كفاية يقوم به البعض حتى يكفيهم ، وإلا أصبح فرض عين حتى يقوم من الأمة من يكفيها .

وقال الشيخ محمد الغزالي : إن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة ، ويستوي أن تكون هذه الفريضة فرض عين أو فرض كفاية ،  وفروض الكفاية هذه لها منزلة عظيمة ودور بارز في حياة الفرد والأمة وهي الطريق الى خيرية الأمة .

 والحديث عن فروض الكفاية يقتضي بيان تعريف فرض الكفاية وفرض العين والمقارنة والمفاضلة بينهما ، لنتعرف عليها وعلى مجالاتها وأثرها في حياة المجتمع ، وأسباب تعطيلها ، ووسائل إحيائها وبيان ذلك في هذه السطور .


أولًا : تعريف فرضي الكفاية والعين والمقارنة والمفاضلة بينهما :

أ - تعريف فرض الكفاية :

هو ما يُطالَب بأدائه مجموع المكلفين، وإذا قام به بعضهم سقط الطلب عن الباقين، وإذا لم يفعله أحدٌ أثموا جميعاً، كالذي يجب للموتى من غسل وتكفين وصلاة ودفن، وما يجب لخير الجماعة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنقاذ الغريق والقضاء والإفتاء وأداء الشـهادة وأنواع الصـناعات، قال الشاطبي، رحمـه الله: «الولايات العامة، والجهاد، وتعليم العلم، وإقامة الصناعات المهمة، فهذه كلها فروض كفايات».

وفي عصرنا هذا يدخل في الواجبات الكفائية : التصدي لحفظ المصالح العامة بصورة شاملة، والتي تشمل التنمية الاقتصادية والتكنولوجية، من الصناعة والزراعة وكل ما يحتاجه المجتمع لحفظ كيانه وقيمه ومصالحه


ب - تعريف فرض العين :

هو ما يُطَالب بأدائه المكلفون كلهم، وإذا فعله بعضهم لم يسقط الطلب عن الآخرين، كالصلاة والصوم... إلخ .

 وإنما سُمِّي هذا الواجب عينياً؛ لأن الخطاب يتوجه إلى كل مكلف بعينه، بحيث لو عجز عن فعل الواجب لم يطلب الفعل من غيره، ولا تبرأ ذمة المكلف إلا بفعله، حتى ولو أدّاه جميع المكلفين دونه لا يسقط التكليف عنه.


ج - الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية :

* فروض الأعيان الكل مكلفون بها شرعا ممتحنون بتحصيلها لزومًا ، في حين إن فروض الكفاية أمور كلية دينية ودنيوية يقصد الشرع حصولها ولا يقصد تكليف الواحد وامتحانه فيها .

* إن فرض العين مطلوب من المكلف، سواء كان رجلًا أو امرأة كالصلاة والصيام والزكاة، ولا يسقط عنه بحال من الأحوال ، أما فرض الكفاية فإنه مطلوب من الجميع ، ولكن إذا أداه جماعة سقط عنهم جميعًا، وإلا أثموا جميعًا.

* أن فرض العين لا يمكن أن يتحول إلى فرض كفاية ، أما فرض الكفاية قد يتحول إلى فرض عين على المسلم في بعض الحالات ، فإذا رأى مسلم منكرًا ولم يكن هناك غيره يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإن الأمر والنهي في حقة فرض عين .


د - المفاضلة بين فرض العين فرض الكفاية :

اختلف العلماء في المفاضلة على قولين :

1. القول الأول : أن القيام فرض الكفاية أولى من  القيام بفرض العين :

وممن ذهب إلى هذا القول أبو إسحاق الإسفراييني وأبو محمد الجويني وابنه إمام الحرمين .
والعلة من ذلك أن الذي يقوم بفرض العين إنما يسقطه عن نفسه فقط ، أما من يقوم بفرض الكفاية فإنه يسقطه عن نفسه وعن الأمة جميعًا؛ فالنفع في فرض الكفاية متعدٍّ، وأما نفع فرض العين فمقصور على الشخص.

2. القول الثاني : أن القيام بفرض العين أفضل من القيام بفرض الكفاية :

وهو قول جمهور العلماء واستدلوا على ذلك بالآتي :
* أن النصوص الشرعية قدمت فرض العين على فرض الكفاية، من ذلك تقديم بر الوالدين، وهو فرض عين، على الجهاد في سبيل الله، وهو فرض كفاية .
* وأن المصلحة في الفرض العيني تتكرر بتكرر الفعل ، بخلاف الفرض الكفائي فإن المصلحة فيه لا تتكرر لأنه لا يتكرر ، والفعل الذي تتكرر مصلحته أقوى في استلزام المصلحة .

3. التوفيق بين القولين :

على أنه يمكن الجمع بين القولين بأن تفضيل فرض الكفاية على فرض العين محمول على ما إذا تعارضا في حق شخص واحد، ولا يكون ذلك إلا عند تعينهما، وحينئذ هما فرض عين، وما يُسقِط الحرجَ عنه وعن غيره أولى، وأما إذا لم يتعارضا وكان فرض العين متعلقًا بشخص وفرض الكفاية له من يقوم به، ففرض العين أولى ، وهذا الرأي ذكره الشيخ الزملكاني، وحكاه عنه الزركشي .


ثانيا : أهمية فروض الكفاية :

لفروض الكفاية أهمية كبير نظرًا لما يترتب على القيام بهما من مصالح للفرد والمجتمع والأمة كلها، وارتباطهما بالحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولمساسهما بكيان الأمة في توفير احتياجاتها المختلفة، وتظهر أهميتهما من خلال الأبعاد الآتية:

أ - ارتباط فروض الكفاية بالمقاصد الشرعية :

الفروض الكفائية تحقق مقاصد الشرع من حيث حفظ مصالح الأمة وضروراتها ودفع المفاسد والمخاطر عنها وتلبية حاجياتها والنهوض بما يقيم كيانها .
وحول هذا المعنى: يقول الشاطبي: « أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق»
وقال العز بن عبدالسلام: واعلم أن المقصود بفرض الكفاية تحصيل المصالح ودرء المفاسد دون ابتلاء الأعيان بتكليفهم .

ب - فروض الكفاية حقوق لله وواجبات على الأمة :

إن أغلب حقوق الله التي لها ارتباط بالصالح العام فهي واجبات على الأمة كلها وعليها يتوقف كيان المجتمع ، وفي القيام بها نهوض بالمجتمع وقيام بمصالح الأمة ، ومن ثم كان القيام بالواجبات الكفائية قياما ورعاية لحقوق الله وتحقيق واجبات الأمة .


ج - تساوي فرضي الكفاية والعين في الأهمية :

لأن كلا منهما طلب الشارع حصوله وحتم وجوده، ورتب العقاب على تركهما وعدم القيام بهما .إذ لو لم يكن للواجب الكفائي أهمية كبيرة ومنزلة خطيرة ما طلب الشارع وحتم على الكافة إيجاده ، فكل منهما جزء من أحكام الشريعة ومصالح قصدها الشارع من وراء القيام بها على سبيل الحتم والإلزام .

د - توقف فرض العين على الكفائي :

الفروض العينية لا يمكن القيام بها والامتثال لها إلا إذا وجدت الواجبات الكفائية والمصالح العامة، لأن في الواجب الكفائي حفظ للأمة بالجهاد وضمان استقرار المجتمع بإقامة العدل عن طريق القضاء، ونشر للأمن ودفع للفتن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإذا غاب الأمن وافتقد العدل وانتشرت الفتن يتعذر أداء أفراد المجتمع للفرض العيني من زكاة وحج ووفاء بالعقود أو نحو ذلك

هـ- فروض الكفاية قد تتعين على الأمة كلها  فيصير فروض عينية على بعض الأفراد :

لأهمية فرض الكفاية وخطورته وارتباطه بأمور كلية في الدين وبقضايا كبيرة في الأمة فإن مسؤولية الأمة عنه لا تسقط بمباشرة أفراد منها لها وقيامهم به، وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي :
( يصح أن يقال إنه واجب على الجميع على وجه من التجوز ، لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة ، فهم مطلوبون بسدها على الجملة. فبعضهم هو قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلا لها، والباقون - وإن لم يقدروا عليها - قادرون على إقامة القادرين، فمن كان قادرا على الولاية فهو مطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها ) .


ثالثا : مجالات فروض الكفاية :

هناك عباداتٍ شرعها الله تعالى وبيَّن لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أنها مِن فروض الكفايات ، وكذلك كل ما يخدم الأمة ويُعْلي من شأنها من الأمور الدنيوية هو من مجالات فروض الكفاية على الأمة، وبيان ذلك في الآتي :

أ - طلب العلم الشرعي :

فطلب العلم الشرعي ليس فرض عين على جميع الأمة، بل هو من فروض الكفاية، والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ التوبة: 122 .
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله : الآيةُ تدل على وجوب تعميم العلم والتفقه في الدين والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة وتفقيه الناس فيه على الوجه الذي يصلح به حالهم، ويكونون به هداة لغيره .

ب - الدعوة إلى الله تعالى :

 والدعوة والإرشاد من باب فروض الكفاية، وليست فرض عين على جميع الأمة ، قال الله عز وجل: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ النحل: 125 ، وقال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ المائد ة: 2 الآية11ء
 يقول ابن باز - رحمه الله -: الدعوة فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي في أي بلد أو في أي قرية أو في أي قبيلة سقطت عن الباقين، وصارت في حقهم سنَّة، بشرط أن يكون عندهم علم وعندهم بصيرة، وأهلية للدعوة.

ج - صلاة الجنازة :

ومِن فروض الكفاية التي ضربها أهل العلم : صلاة الجنازة، وتغسيل الميت، والقيام بدفنه، إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وهذا من رحمة الإسلام بالأمة؛ إذ لو كانت صلاة الجنازة فرضَ عين على كل مسلم لتعطَّلت المصالح، وشق ذلك على أفراد الأمة.

د -  الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

روحى الإسلام هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو قطبُ الدِّين وبه نجاة الأمة من السقوط في براثن المعاصي والذنوب، وبه تحفظ الأعراض والأموال ، وهو مِن فروض الكفاية، كما دلَّت على ذلك الآيات والأحاديث الشريفة؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ آل عمران: 104.
يقول القاسمي - رحمه الله -: "وفي الآية دليلٌ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنَّة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهَّرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مَشِيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها - كذا في فتح البيان.

ه - رد السلام :
رد السلام فرض الكفاية على الجماعة، وهو فرضُ عين على الواحد؛ فابتداؤُه مستحب،ولا يستحب على المصلي عند بعض الشافعية، ولا على من يقضي حاجته، ولا في الحمام.
ولو أجاب الجميع دفعة واحدة كانوا مؤدين فرض كفاية، كما يلحقهم الذمُّ بأجمعهم لو تركوا.
ولو تعاقبوا، فأن الفرضَ يسقُطُ بالأول

و - العلوم الحياتية :

وهي التي لا علاقة لها بالشرع؛ كالطب والهندسة وغيرهما من سائر تلك العلوم، فتعلُّمه فرض كفاية.
الطب والحساب من فروض الكفايات؛ فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات؛ كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة؛ فإنه لو خلا البلد من الحَجَّام تسارع الهلاك إليهم، وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك؛ انتهى ، قالها الإمام الغزالي .

ز - البيع والشراء وغيرهما مما تتم به المعايش :

واعلم أن فروض الكفاية تشمل كل ما تتم به المعايش؛ كالبيع والشراء والحرث وتولي الإمامة والشَّهادة وأدائها والقضاء وإعانة القضاة على استيفاء الحقوق، وحتى تزويج العزب والعانس؛  لأن القرآن الكريم قال: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ النور : 32 ، والخطابُ في الآية الكريمة موجَّهٌ للأمة كلها، فلو عجز إنسان عن تزويج ابنه أو ابنته توجَّه الأمر إلى الأمة كلها؛ حتى لا يكون فيها عزَبٌ ولا عانس .


رابعا : أثر فروض الكفاية على الفرد والأمة:

1. إن الشارع قد أعطى أهمية كبرى لفروض الكفاية ، فلم يكلف شخصاً بعينه القيام بها، بل علق التكليف بالأمة جميعاً، لتكون هي المسؤولة عن ذلك، كما تكون آثمة عند التقصير فيها.

2. القيام بفروض الكفاية سبب للنهوض بالمصالح العامة للأمة، وسد لحاجياتها وضروراتها، وتقوية للقطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعليمية والصناعية والفلاحية، وقد أدى تعطيلُ هذه الوظائف والقطاعات الأساسية وقلة الاهتمام بها إلى تخلُّف الأمة وتراجعها، وضعف تحصيناتها ومقاومتها .

3. لا وسيلة لنجاة الأمة وخلاصها من الوضع الأليم الذي تعيشه إلا بإيجاد الحكم الصالح (المؤسسة السياسية الصالحة) الذي يتفاعل مع مشكلات الأمة وآلامها، ويسعى سعياً جاداً وحثيثاً، بكفـاءة ذاتية عالية، وقدرة بشرية فائقة، لتحقيق آمالها وتطلعاتها.

3. كما إن مقصود الشارع من فروض الكفاية حماية المصالح العامة للأمة ، من جلب مصلحة ودرء مفسدة ، لذلك فإن التقصير فيها يضر بالمسؤوليات المجتمعية للأمة الوسط الشاهدة على الناس التي تقوم بعملية البلاغ ونصرة الحق وردع الظالم ونصرة حقوق الإنسان .


خامسا : وسائل إحياء فروض الكفاية :

لمَّا كان بعث فروض الكفاية وإحياؤه سبيلًا لإقامة المجتمع المتضامن المستقر، والأمة المتراصة القوية، وسبيلًا للشهود الحضاري للأمة الذي يخوِّلها منزلة الخلافة والإعمار، ولن يتأتى هذا إلا عن طريق:

أ - تصحيح أبعاد فروض الكفاية في فكر الأمة :

فكان إحياء فقه الواجبات الكفائية والمصالح العامة، وأبعادها الحقيقية في الأمة، وإعمالها في الحياة الاجتماعية والسياسية عن طريق تجديد الفهم وفقه المقاصد - كفيلًا بإعادة الأمة إلى طريق الشهود، والحفاظ على خيراتها ووسطيتها، حتى تصبح هذه الواجبات طريق التنمية والتقدم، وسبيلًا لإقامة مجتمع الخلافة والإعمار.

ب - تربية المجتمع على القيام فروض الكفاية :

لا شك أن إحياء فروض الكفاية، وترسيخ فلسفته ، وتوضيح أبعاده داخل المجتمع ، رهينًا بتربية المجتمع المسؤول الذي يحرص على أداء واجباته وتحصيل المصالح العامة المقصودة من إقامته، فيساهم في حماية الكيان الإسلامي وإعماره .

ج - إعداد وتكوين من يقوم بفروض الكفاية :

 أن للأمة مصالح كثيرة لا بد مِن وجودها لتنظم أحوالها، وتسعد في حياتها، ومن هذه المصالح ما لا يقدر عليه إلا باستعداد خاص وتعلم ودراية، فمثلًا الطب لا يقدر على القيام به الفلَّاح الذي لم يتجاوز فكره دائرة مزرعته ، والقضاء بين الناس لا يقدر عليه إلا الفقيه ذو الفِراسة الذي عنده علم بأحوال البيئة التي يعيش فيها، إلى غير ذلك من الكفايات اللازم وجودها، ولا يقدر عليها إلا بعض من الأمة، استعد لها وأتقن مقدماتها ووسائلها...وإذا لم يكن في الأمة مستعدون فعليها تذليل الطريق لإيجادهم بالتعليم .


سادسا : القصور نحو فروض الكفاية وأضراره :

1.  مقصود الشارع من فروض الكفاية حماية المصالح العامة للأمة ، من جلب مصلحة ودرء مفسدة ، لذلك فإن التقصير فيها يؤدي إلى ضياع المصالح العامة مما يضر بالمسؤوليات المجتمعية للأمة الوسط الشاهدة على الناس التي تقوم بعملية البلاغ ونصرة الحق وردع الظالم ونصرة حقوق الإنسان .

2. القراءة الدينية المعاصرة لفروض الكفاية  انحسرت أبعادها عن القضايا المصيرية للأمة ، واقتصرت على قضايا المصير الفردي من كفن وجنازة ونحو ذلك ، الأمر الذي يقتضي الوقوف والمراجعة والتصحيح.

3. وفي مجال السياسة أدي القصور في فروض الكفاية في كثير من الأحيان إلى غياب إرادة الأمة في اختيار الحاكم الذي يأتمنونه على مقدراتهم كلها .

4. إن القصور في فروض الكفاية أدّى إلى عدم التأكد من صفة القوة والقدرة على أداء الواجب بمستوى التحدي ودرجة الكفاية المطلوبة، وعدم التأكد من صفة الأمانة والتجرد والتفاني لأجل مصالح الأمة؛ وهما الصفتان الضروريتان لأجل الحفاظ على مصالح الأمة،

5. كما أدى القصور في فروض الكفاية إلى ظهورالاستبداد، الذي أجهض كل محاولات النهوض والتقدم ، كما أدت سيادة الاستبداد إلى مصادرة حرية التعبير والنصح الفردي والمجتمعي (الاحتسابي) الأمر الذي أدّى بالتالي إلى تكريس الأخطاء .

6. في مجال العلوم الكونية أدى  عدم الاهتمام بفروض الكفاية إلى تأخرنا في مجال التقانية والصناعة والاقتصاد، وفوّت علينا فرص التسخير التي كان يمكن استخدامها لأغراض الدفاع ومقاصد الردع وتحقيق رفاهية الإنسان .