الثلاثاء، 8 أكتوبر 2019

اليقين إعداد : محمد أبوغدير المحامي

    مقدمة :
اليقين  من اعظم شعب الإيمان، و من أجل صفات أهل التقوى والإحسان ، وهو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك ، الموجب للعمل ،

قال الشعراوي : إن اليقين هو تصديق الأمر تصديقاً مؤكداً، بحيث لا يطفو إلى الذهن لِيُناقش من جديد، بعد أن تكون قد علمته من مصادر تثق بصدق ما تَبلغك به ،
ولليقين ثلاث درجات :عِلم اليقين ، وعَين اليقين ، وحق اليقين .

وقال ابن القيم : لا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا من قلبه وبدنه ،
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصائب الدُّنْيَا .

وقال صاحب الظلال : والذي يجد راحة اليقين في قلبه يجد في الآيات مصداق يقينه ، ويجد فيها طمأنينة ضميره . فالآيات لا تنشىء اليقين ، إنما اليقين هو الذي يدرك دلالتها ويطمئن إلى حقيقتها . ويهيئ القلوب للتلقي الواصل الصحيح .

والحديث عن اليقين عبر العناصر الآتية : أولا : تعريف اليقين لفة وإصطلاحا و أقوال العلماء ، ثانيا : اليقين في الكتاب والسنة ، ثالثا : درجات اليقين ، رابعا : وسائل تحصيل اليقين وزيادته ، خامسا : ثمرات اليقين وآثاره ، سادسا : صور من يقين الأنبياء والمصلحين ، وبيان ذلك في الآتي :



أولا : تعريف اليقين
لغة وإصطلاحا وأقوال العلماء حوله :


أ - اليقين في اللُّغة :

 اليقين مشتق من الفعل أيقن يوقن إيقانًا ، وييقن يقينًا فهو موقن .

واليقين نقيض الشك ، فهو العلم وتحقيق الأمر وإزاحة الشك ، يقال : علمته يقينًا ، أي علمًا لا شك فيه .


ب - اليقين في الاصطلاح :


1- عرف الجُنَيْد اليقين بأنه هو :
استقرارُ العِلْم الذي لا يَنقلِب ولا يُحوَّل ولا يتغيَّر في القلْب.


2- أورد الجرجانيُّ في تعريفاته: أنَّ اليقين هو :

 طُمأنينة القَلْب، على حقيقة الشيءِ وتحقيق التصديق بالغَيْب، بإزالة كلِّ شكٍّ ورَيْب.


3 - قال البيهقي : في تعريف اليقين انه :

سكون القلب عند العمل بما صدق به القلب فالقلب مطمئن ليس فيه تخويف من الشيطان ولا يؤثر فيه تخوف فالقلب ساكن آمن ليس يخاف من الدنيا قليلا ولا كثيرا .


ج - اليقين في أقوال العلماء :


1 . قال ابن سعدي :

" اليقين : هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، والموجب للعمل " .


2 . قال ابن القيم :

" اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد ، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون .


3 .  قال ابن القيم أيضا :

اليقين مع المحبة ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامه، وهما يُمدان سائر الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تصدر، وبضعفهما يكون ضعف الأعمال، وبقوتهما تقوى الأعمال، وجميع منازل السائرين إنما تُفتتح بالمحبة واليقين، وهما يثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم" انتهى من "مدارج السالكين" .


4 . قال أبو بكر الوراق :

'اليقين ملاك القلب، وبه كمال الإيمان، وباليقين عُرف الله، وبالعقل عُقل عن الله '.



ثانيا : اليقين في الكتاب والسنة  :


أ - اليقين في القرآن الكريم :

عند التأمُّل في آيات القرآن الكريم نجد أنَّ مفهوم اليقين يختلِف معناه باختلاف مَظانِّه داخلَ النسق القرآني، ويُمكن تصنيفُ هذه المعاني كالتالي:


1- اليقين : العِلم الجازم الذي لا يَقبل التشكيك :

قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ﴾ الواقعة : 95 ،
جاءتْ هذه الآية تذييلًا لجميع ما اشتملتْ عليه السورةُ مِن المعاني المثبتة مِن "عظيم صفاته، وبديع صُنْعه، وحِكْمته وعدله، وتبشيره النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأمَّتَه بمراتبَ مِن الشَّرَف والسلامة، على مقادير درجاتهم وإيمانهم الجازم، وبنِعْمة النجاة مما يَصير إليه المشرِكون مِن سوء العاقبة .
وقال أيضًا: ﴿ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ﴾ الحاقة: 51 .
فهذه الآيةُ كانت تحقيقٌ وتأكيد منه تعالى أنَّ هذا القرآن الكريم هو الحقُّ اليقين، الذي لا شكَّ فيه أنَّه مِن عند الله، لم يتقوَّلْه محمد صلَّى الله عليه وسلَّم .


2- اليقين بمعني الموت :

قال سبحانه : ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ الحجر : 99 .

قال مجاهد والحسن  : يقول الله تعالى  لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: واعبُدْ ربَّك حتى يأتيك الموت .


3 .  الانتفاع بالآيات والبراهين طريق اليقين :

فقال: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ الأنعام: 75 .


4 . الموقنون هم أهل اليقين بالهُدى والفلاح :

قال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ البقرة: 4، 5 .


5 . ينال الموقنون الصابرون الإمامةُ في الدِّين :

 قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون َ﴾ السجدة: 24،


6 . اليقين أرقى درجات الإيمان وأخص صفات أهل التقوى والإحسان :

 قال تعالى ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )  سورة لقمان : 4-5


7. باليقين لا تتشابه على المؤمنين الأمور ولا يحيدون عن الحق :

 قال الله عز وجل ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )


8 . باليقين يحتكم المؤمنون لشرع الله في كل أمورهم :

 قال تعالي (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).


9 - باليقين يرى المؤمنون إعجاز الله وآياته :

قال سبحانه : ( إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )


ب - ثانيا : اليقين في السنة النبوية :


ذكر اليقين في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناسبات كثيرة مبينا فضله ومكانته نذكر منها الآتي :


1 . اليقين افضل ما أعطي الناس في الدنيا:

أخرج أحمد عَنِ الْحَسَنِ ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَطَبَ النَّاسَ ، فَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطَوْا فِي الدُّنْيَا خَيْرًا مِنَ الْيَقِينِ ، وَالْمُعَافَاةِ ، فَسَلُوهُمَا اللهَ ، عَزَّ وَجَلَّ.


2 . فضل اليقين بعد المعافاة :

أخرج أحمد والنَّسائي عَنْ عُمَرَ ، قَالَ : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ خَطَبَنَا ، فَقَالَ:إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِينَا عَامَ أَوَّلَ ، فَقَالَ : أَلاَ إِنَّهُ لَمْ يُقْسَمْ بَيْنَ النَّاسِ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنَ الْمُعَافَاةِ بَعْدَ الْيَقِينِ ، أَلاَ إِنَّ الصِّدْقَ وَالْبِرَّ فِي الْجَنَّةِ ، أَلاَ إِنَّ الْكَذِبَ وَالْفُجُورَ فِي النَّارِ.


3 . اليقين يهون مصائب الدنيا :

أَخْرَجَ الترمذي والنَّسَائي عن ابن عمر رضي الله عنه ، كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم قْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ , وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ , وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصائب الدُّنْيَا , اللهم أمتعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا , وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا , وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا , وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا , وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِى دِينِنَا , وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا , وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا , وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا.


4 . صلاح الأمة بالزهد واليقين :

قال صلى الله عليه وسلم : «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك آخرها بالبخل والأمل»(أَخْرَجَهُ الترمذي والنَّسَائي .، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير) أخرجه الترمذي والنَّسَائي ، .


5 . اليقين تهون به المصائب :

من دعائه صلى الله عليه وسلم : «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا... » أخرجه الترمذي .


6 . البناء على اليقين حال الشك في الصلاة :

ورد في سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُلْقِ الشَّك َّ، وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ، فَإِذَا اسْتَيْقَنَ التَّمَامَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ» .


7 . اليقين في الأذان طريق الجنة :

 روى النسائي وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام بلال ينادي - يؤذن للصلاة - فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  من قال مثل ما قال هذا يقينا دخل الجنة.



ثالثا : درجات اليقين :


لليقين ثلاث درجات : الأولى عِلم اليقين والثانية عَين اليقين والثالثة حق اليقين ، وبيانها كالتالي :


1. عِلم اليقين :

هو قَبول ما ظَهَر مِن الحق تعالى، مِن أوامره ونواهيه، وشَرْعه ودِينه الذي جاء على ألْسِنة رُسُله، فنتلقَّاه بالقَبول والإذْعان والانصياع لله جَلَّتْ قُدرتُه ،
وكذلك قَبول ما غاب مِن أمور المَعاد، والجَنَّة والنار، وما قبْل ذلك مِن بعْث وصِراط وميزان وحساب، وإثْبات الأسماء والصِّفات.
فقَبول هذا كله هو عِلْم اليقين الذي لا يُخالِج القَلْب فيه ريبٌ ولا مِرْية، ولا تعطيل أو نفي.


2 . عَين اليقين :

ويُرَاد به أنَّ المعارِف التي حصَلتْ سلفًا ترْتقي مِن درجة العِلْم الجازم بها، إلى دَرَجة النظر إليها بالأنظار، والكَشْف عنها بالأبصار، فتخرق بذلك المشاهدةُ سِتارَ العِلم، فيُلامس هذا الأخيرُ القَلْبَ والبصر معًا.


3 . حق اليقين:

وهذه الدَّرجة تحصيلٌ لِمَا حصَل مِن العِلم والمشاهدة ، فالفَرْق بين مراتب اليقين كالفرْق بيْن الخبر الصادِق والعِيان، وحق اليقين فوقَ هذا كله.

وقد مثَّل ابنُ القيِّم لهذه المراتب الثلاث بقوله:
 (مَن أَخبَرك أنَّ عنده عسلًا وأنتَ لا تشكُّ في صِدْقه فهذا عِلم اليقين ،
ثم أراك إياه فازددتَ يقينًا وهذا عَين اليقين ،
ثم ذُقتَ منه وهذا حق اليقين .



رابعا : وسائل تحصيل اليقين وارتقائه :


لكي نرتقي بإيماننا لنصل الى منزلة اليقين ، علينا ان نلتمس أسبابا ، بيانها في التي :


1 • مجاهدة النفس في الله :

 وحملها على مراده بقوة، فلا يُسوِّف في طاعة، ولا يتباطأ في توبة، ولا يتردد في خيرٍ عَزَم عليه، وقد نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد، ويهلك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل.


 2 • تجريد المحبة لله ورسوله :

وذلك بأن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، وأن تحب المرء لا تحبه إلا لله،
وذلك ما روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْـمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لله، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».


3 • تدبر القرآن الكريم :

قال الله تعالى فيه: ﴿وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ﴾  الحاقة : 50، 51 .
وحق اليقين ما باشرته بنفسك فلا تشك فيه ، وتلاوة القرآن وتدبره من أقوى أسباب زيادة اليقين، بل هي الطريق إلى الوصول إلى أعلى مراتبه.


4 • التفكر في آيات الله في الأنفس والآفاق :

كما قال تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾}  الذاريات: 20 ، 21 .


5 • التفكر في أحوال السابقين:

وقراءة أخبارهم في القرآن الكريم، وتعلم اليقين من آياته العظيمة؛ كما قال الله تعالى: { هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُون َ} الجاثية: 20 .
ومثال لذلك ، روي ان  الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ - رحمه الله تعالى - مرض فقيل له : أَلَا نَدْعُو لَكَ طَبِيبًا؟ قَالَ: أَنْظِرُونِي ، فَتَفَكَّرَ ، ثُمَّ قَال قرأ : { وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } الفرقان: 38،
وذكر أن مِنْ حِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَرَغْبَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا ثم قَالَ : فَقَدْ كَانَتْ فِيهِمْ أَطِبَّاءُ وَكَانَتْ فِيهِمْ مَرْضَى، فَلَا أَرَى الْمُدَاوِي بَقِيَ وَلَا الْمُدَاوَى هَلَكَ ...)الزهد ، هناد بن السري


6 • صحبة الموقنين :
صحبة الموقنين تزيد من اليقين وتثبت عليه؛ ولهذا كانت الوحدة خيرًا من جليس السوء ، روي البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «إِنَّمَا مَثَلُ الْـجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْـجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْـمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً».

قال خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ - رحمه الله تعالى -: (تَعَلَّمُوا الْيَقِينَ كَمَا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ حَتَّى تَعْرِفُوهُ فَإِنِّي أَتَعَلَّمُهُ) اليقين ، ابن أبي الدنيا .


7 • الإلحاح بالدعاء واللجوء إلى الله :
فالدعاء يقوي اليقين، ويغير القدر،  ففي الحديث قال الرسول صلي الله عليه وسلم  (وسَلُوا اللهَ اليقينَ والمُعافاةَ ؛ فإنَّهُ لمْ يُؤْتَ أحدٌ بعدَ اليقينِ خيْرًا من المُعافاةِ) رواه أحمد .

 وكان الرسول يدعو فيقول: (اللهمَّ اقسِمْ لنا مِنْ خشيَتِكَ ما تحولُ بِهِ بينَنَا وبينَ معاصيكَ، ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنَا بِهِ جنتَكَ، ومِنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ علَيْنَا مصائِبَ الدُّنيا) .



خامسا : ثمرات اليقين وآثاره :


لليقين آثار كثيرة وثمرات عظيمة في حياة العبد ومعاده ، ومن تلك الثمرات ما يلي :


1- اليقين من أعظم أسباب حياة القلب ووقود الحياة :

  فهو حياة القلب وطمأنينته وقوة المرء ونشاطه وسائر لوازم الحياة ، فاليقين يزيل الريب والشك والسخط ، ويملأ القلب نورًاً وإشراقًا ورجاءً وخوفًا من الله ومحبة له ، ورضى بما قدر .

وهو من أسباب زيادة أعمال القلوب كالتوكل والإنابة والخوف والخشية وإحسان الظن بالله تعالى ، ولابد لليقين من علم صحيح يوصل بالخوف والرجاء فهما يدفعان إلى العمل بتحري الإتباع والإخلاص .

قال تعالى  : " رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي " (البقرة: 260) ،
 وجاء في تفسير القرآن العظيم أن إبراهيم عليه السلام بسؤاله هذا أحب أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين وأن يرى ذلك مشاهدة ،  فزاده الله الكريم باليقين إيمانًا وقوة حجة وبرهان .


2- اليقين من أعظم أسباب قوة الإيمان وزيادته، وبه تنال الإمامة في الدين :

في مدارج السالكين يقول ابن القيم : سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : " بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ثم تلا قوله تعالى : " وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ " (السجدة:24 ) .


3- اليقين سبب لتوفيق الله لعبده للجواب الصحيح حين سؤال الملكين في القبر :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «...ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار، فأوحي إلى أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة المسيح الدجال ، يقال : ما علمك بهذا الرجل ؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول : هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا واتبعنا ، هو محمد ثلاثًا ، فيقال نم صالحًا قد علمنا إن كنت لموقنًا به ، وأما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته» أخرجه البخاري ومسلم .

وكذلك جاء في سيد الاستغفار قوله صلى الله عليه وسلم : «من قالها من النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة» أخرجه البخاري .


4- اليقين من أعظم الأسباب المعينة على الطاعات :

ذلك إن اليقين يمنع ورود الشهوات والشبهات على القلوب ، ويدفع عن النفس ما قد تجده من ثقل أو صعوبة في بعض العبادات .
ويقول الحسن البصري : " ما طلبت الجنة إلا باليقين ، ولا هرب من النار إلا باليقين ، ولا صبر على الحق إلا باليقين "


5- اليقين من أسباب انشراح الصدر وسلامة النفس من الخوف والقلق والتردد :

قال تعالى : "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ " (التغابن: 11)
ويقول ابن رجب : " فمن حقق اليقين وثق بالله في أموره كلها، ورضي بتدبيره له ، وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاء وخوفًا ، ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة " (جامع العلوم والحكم) .



سادسا : صور من يقين الأنبياء والمصلحين :


أ - صور من يقين الأنبياء :

ولقد ضرب أنبياء الله ورسله الكرام المثل الأعلى في اليقين وحسن الثقة بالله تعالى ، ويزداد  اليقين بالله إذا انقطعت الأسباب ، وهذه أمثلة لذلك :

1- موسى عليه السلام :

كليم الله موسى عليه السلام يقول لأصحابه حينما أدركهم فرعون وانقطعت عنهم أسباب النجاة ، إذ وجدوا البحر من أمامهم والعدو من ورائهم ، فكانت لهم النجاة بعد يقينهم بنصر الله القوي القادر ،
قال تعالى  : ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴾ الشعراء: 67- 66 .


2- يونس عليه السلام :

بعد أن ابتلعه الحوت وغاص به في أعماق البحر وانقطعت عنهم أسباب النجاة ، إذ كان في الظلماته فعلم أن لا يغيثه ولا يقدر على سماعة وإنقاذه إلا الله ،
قال تعالى : ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾
فنجاه الله من بطن الحوت بدون أذى وهكذا ينجي الله كل من توكل عليه.


3- محمد عليه الصلاة والسلام مع صاحبه ورفيقه أبو بكر رضي الله عنه :

وهما في الغار فيأتي الكفار يقفون على باب الغار فيرى أقدامهم ويقول: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه يرانا فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر ما رأيك في اثنين الله ثالثهما. وقال ﴿ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾. فقوله: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)
وهذا دليل علي كمال توكل النبي صلي الله عليه وسلم علي ربه، وأنه معتمد عليه، ومفوض إليه أمره، وهذا هو الشاهد من وضع هذا الحديث في باب اليقين والتوكل.


4 - واليقين الآخر كان حين غادر الغار :

ومر هو وصاحبه ورفيقه ببعض العرب،فسمع الفارس المغامر سراقة بن مالك الجعشمي بجائزة قريش: للرسول مائة، ولرفيقه مائة، ويلحق بالنبي وصاحبه،
ولما انقطعت بالنبي صلى الله ليه وسلم،  الأسباب، يلجأ إلى مسببها، رافعا يديه لرب عوده أن يكون معه، ويقول: "اللهم اكفنا سراقة".
فما إن أتم دعاءه : حتى غاصت قوائم جواد سراقة في الأرض، وأدركه الوهن، وينظر إليه الرسول قائلا له كلمات ملؤها اليقين:
 "يا سراقة، كيف بك إذا ألبسك الله سواري كسرى؟". فيتعجب الرجل، ويقول: كسرى بن هرمز؟ فيقول: "نعم".
يعد صلى الله عليه وسلم صعلوك من صعاليك العرب بسواري كسري ، وهو الذي خرج متخفيا هو وصاحبه، لكنه اليقين بنصر الله، وأنه لا يخلف الميعاد.


5 .  وفي غزوة بدر :

وقد تلاقى الجمعان، وجيش قريش ثلاثة أضعاف جيش المسلمين، ومعهم من العدة والعتاد أضعاف ما مع المسلمين، وكانت حال المؤمنين كما وصفها الله تعالى: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } آل عمران:123.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم، يثق في موعود ربه، ويرى نهاية المعركة رأي العين حتى إنه يقول لأصحابه: "هذا مصرع فلان".
 قال أنس: ويضع يده على الأرض: "هاهنا، هاهنا" قال: فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.


6 . وفي غزوة الأحزاب :

هذه الفزوة ذكر الله تعالى من شأنها: { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } الأحزاب:10-12 .
قريش وغطفان ومن معهم من الأحزاب تحزبوا على رسول الله في عشرة آلاف مقاتل، والنبي لا يأمن غدر اليهود، والصحابة قد أصابهم الضيق والجوع، ودعاية المنافقين تحاول أن تعمل عملها، لتوهن النفوس، وتُضعف العزائم، وتفرق الصفوف، فقال الله تعالى { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } الأحزاب:22
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبصر النصر أقرب من منتهى بصره، ليس نصرا على هذه الأحزاب التي ينتظرون، ولكنه نصر على كبرى دول العالم وقتها،
فيقول لأصحابه وقد عرضت لهم صخرة لا تأخذ فيها المعاول في مكان من الخندق، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول بيده، وقال: "باسم الله".
فضرب ضربة وقال: "الله أكبر، أُعْطِيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا".
ثم قال: "باسم الله". وضرب أخرى، فقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا". ثم قال: "باسم الله".
وضرب ضربة أخرى فقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا" .


ب -  صور من يقين الصالحين المصلحين :


1 - وهذا سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه يعبر بجنوده البحر كأنهم يمشون على الأرض!!!.

عندما أراد سعد بن أبى وقاص فتح المدائن وكانت على شاطئ دجلة في العراق وكان النهر في حالة فيضان ،
فلم يجد سعد بن أبى وقاص وسيلة لعبور البحر فكون كتيبة سميت كتيبة الأهوال وعبرت النهر وأخلت الشاطئ نسبيا من قوات الفرس لما عبرت كتيبة الأهوال النهر وكانوا ستمائة رجل، تبعهم سعد بن أبي وقاص بكامل الجيش وأمر جنده قائلاً : ( قولوا : نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)
فجعلوا يمشون على الماء كأنهم يمشون على الأرض حتى أن الفرس عندما رأوا هذا الموقف قالوا : ديوانا ديوانا أي: مجانين مجانين.
وعندما رأوهم لا يغرقون قالوا بالفارسية: والله إنكم لا تقاتلون إنساً بل تقاتلون جنا !!!


2 . وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يشرب السم فلا يضره :

عندما فتح خالد بن الوليد الحيرة في العراق، آتاه رجل ليفاوضه ومعه السم، فرآه خالد فقال له: ما هذا؟ قال: سم عقرب قال خالد: ناولنيه، فأعطاه الرجل السم، ثم سكب خالد السم على يده وقال : بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ، فشرب السم ولم يضره! فذهب الرجل بسرعة إلى قومه يقول لهم: يا قوم لقد أتيتكم من عند رجل أخشى أن تضعوا السيوف فيه ولا يموت!.


3 . وهذا الحسن البصري رحمه الله تعالى دخل إلى الحجاج بن يوسف فخافه :

وكان الحجاج قد طلبه وأحضر السيف وهو بانتظاره ،
ولما دخل الحسن تلفظ بكلمات وهو بالباب فانقلب حال الحجاج فأجلسه بجواره وأمر بإكرامه ، وقال له يا سلطان العلماء ،
فعجب الناس لأمره ، وكان الحاجب قد لاحظ تحرك شفتيه .
فلما خرج فقال للحسن البصري : أسألك بالله ماذا قلت عند دخولك ،
قال الحسن: " اللهم يا ولي نعمتي وملاذي في دعوتي اجعل غضبه ونقمته علي برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً و سلاماً على إبراهيم".


4 . وهذا حاتم الأصم رحمه الله :

وكان شيخا كبيرا له بنات فلم يستطع تركهن والذهاب إلى الحج ، فأشارت عليه ابنته الكبرى أن يحج ويوكل أمرهم إلى الله فهو لن يضيعهم، فأخذ بنصيحتها وذهب،
فلما جاء المساء كان إخوتها يتضاغون عند رجله من الجوع، فتوسلت إلى الله ألا يفضحها فإذا بملك يمر ببيتهم وقد بلغ العطش منه مبلغا عظيما ، فطلب الجنود له ماءا فشرب ،
ثم نظر إلى بيتهم و عرف ما بهم من فقر وحاجة فأعطاهم سترة من المال ، فقالت البنت المؤمنة: هذا عبد نظر إلينا فاغتنينا فكيف بنظر الرحمن الرحيم إلينا.


5 . أبو مسلم الخولاني رحمه الله :

كان يحب التصدق والإيثار على نفسه، وكان يتصدق بقوته ويبيت طاوياً، فأصبح يوماً وليس في بيته غير درهم واحد ،
فقالت له زوجته : خذ هذا الدرهم واشتر به دقيقاً نعجن بعضه ونطبخ بعضه للأولاد، فإنهم لا يصبرون على ألم الجوع، فأخذ الدرهم والمزود ،
 وخرج إلى السوق، وكان الجو شديد البرودة، فصادفه سائل فتحوله عنه، فلحقه وألح عليه وأقسم عليه، فدفع له الدرهم ،
وبقي في هم وكرب، وفكر كيف يعود إلى الأولاد والزوجة بغير شيء، فمر بسوق البلاط وهم ينشرونه ففتح المزود وملأه من النشارة وربطه وأتى به إلى البيت فوضعه فيه على غفلة من زوجته ثم خرج إلى المسجد ،
فعمدت زوجته إلى المزود ففتحته فإذا فيه دقيق أبيض فعجنت منه وطبخت للأولاد فأكلوا وشبعوا ولعبوا ،
فلما ارتفع النهار جاء أبو مسلم وهو على خوف من امرأته ، فلما جلس أتته بالمائدة والطعام فأكل ،
فلما فرغ قال: من أين لكم هذا؟
قالت: من المزود الذي جئت به أمس، فتعجب من ذلك وشكر الله على لطفه وكرمه .