#التضرع_في_زمن_البلاء
إعداد : محمد أبوغدير المحامي
مقدمة:
من سنن الله تعالى ان يصاب الإنسان بالبلاء كالفقر والضيق في العيش ، ويبتليه الله بالضَّرَّاءِ كالأمراض والأسقِام والآلام ، لكي يَتَضَرَّعَُ ويتمسكن إلى الله تعالى ويخشع له ويدعوه سبحانه .
ولقد نزل البلاء والكرب هذه الأيام بالناس - كل الناس - ، ولا نرى ما يقابله من التضرع والتذلل والانكسار المطلوب إلى الله تعالى في مثل هذه الظروف والأحوال العصيبة التي تمر بها الأمة.
قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) 42 ، 43 سورة الأنعام
وإذا كانت هذه الآية الكريمة تتحدث عن أقوام كذبوا رسلهم وأصروا على كفرهم حسب ما هو منصوص عليه في كتب التفسير، فإنها نبهت إلى شدة حاجة المسلمين اليوم إلى تدبرها والاتعاظ بها .
قد تكون هناك فئة قليلة من المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى بالليل والنهار ، ويتذللون بين يديه بالدعاء طالبين منه سبحانه أن يرفع المحنة ويكشف الغمة عن الأمة ، إلا أن العدد الأكبر من المسلمين غافلين عن هذه الوسيلة الناجعة في رفع البلاء والنصر على الأعداء.
ومن ثم وجب اللجوء إلى علام الغيوب إذا ضاقت الطرق وانقطعت السبل ، فطريق الله هو فقط الموصل إلى بر الأمان ، قال الله تعالى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ. ) .
والتضرع حال البلاء موضوع الساعة يستوجب بيان العناصر الآتية :
أولا : مفهوم البلاء والإبتلاء والفارق بينهما :
ثانيا : ثمرات البلاء :
ثالثا : التضرع من حيث مفهوم لغة وإصطلاحا :
وذكره في القرآن الكريم والسنة المطهرة
رابعا : التضرع إلى الله سبيل النجاة ،
خامسا : الرسول المتضرع الاول لله تعالى ،
سادسا : صور من تضرع الأنبياء السابقين ،
سابعا : التضرع في الشعر العربي ،
وبيان هذه العناصر في الآتي :
أولا : مفهوم البلاء والإبتلاء
والفارق بينهما :
قال تعالى : " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا "،
لذلك فإن الإنسان في امتحان مستمر بالخير والشر وبالنعمة والنقمة لاختبار مدى قدرة الإنسان على التحمّل، فهو في هذه الحياة الدنيا محل اختبار وامتحان ووسيلة ذلك هو البلاء والإبتلاء ، والبلاء رغم شدته وقسوته له وجه مشرق هي ثمراته التي يجنيها المرء من المحنة .
ومن ثم وجب تعريف كل من البلاء والإبتلاء والفرق بينهما ، وبيان ذلك في الآتي :
أ - تعريف البلاء :
البلاء هو :
المحن والمصاعب التي تصيب عموم الناس المسلمون منهم والكافرون ويكون بمثابة العقاب الذي يرسله الله سبحانه عليهم لظلمهم .
قال الله تعالى : ” ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبراها إن ذلك على الله يسيرا ”.
ب - تعريف الإبتلاء :
الإبتلاء هو :
الإختبار والإمتحان الذي يخص المؤمنون الذين يقعون في المعصية ، فإذا احتسبه عند الله وصبر عليه فجزاءه حسنة في الدنيا ، وجنات في الآخرة .
قال الله تعالى : “ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين”.
ج - بيان الفرق البلاء والإبتلاء :
الإبتلاء عادةً ما يكون للإنسان المؤمن والصالح لإختبار درجة إيمانه وصبره على حكم الله وهنا يكون الإبتلاء بمثابة الإمتحان أو الإختبار الذي يجازى الإنسان عنه خيرا إن شاء الله.
أما البلاء هنا فيقع على عموم الناس المسلمون منهم والكافرون وهو العقاب الذي يرسله الله سبحانه وتعالى للناس الظالمين .
والإبتلاء أقل عموم وشمول من البلاء لأنه يخص فقط المؤمنين الذين قد يقعون في المعصية ومع ذلك يتذكرون الله ولا يبتعدون ، فيحب الله عز وجل أن يردهم إليه مرة أخرى فيعطيهم الله الابتلاء حتى يمحو ذنوبهم وينقيهم منها .
ثانيا : ثمرات البلاء :
رغم ما يترد اليوم عبر وسائل الإعلام الراصدة لتحركات “ كورونا ” أن هذا الفيروس عدو للبشرية ، إلا أن المسلم الواعى يرى أن للبلاء وجه مشرق هو ثمرات يجنيها المرء من المحنة والتي تتمثل في الآتي :
1. تمييز الخبيث من الطيب :
مصداقا لقوله تعالى: { ما كان الله ليَذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } آل عمران : 179.
فكشف البلاء الفارق الجلي بين افراد الجماعة المؤمنة سواء في معركة أحد ،أو في حادثة الإفك، أو غيرها من الوقائع المتعددة التي حددت مواطن الخبث في كيان المجتمع الإسلامي آنذاك.
2 . كشف تفاوت همم الناس :
من حيث حقيقة سعيهم ، ومنسوب التدين الذي يحكم سلوكهم الخاص والعام ، يقول الحسن البصري : “ الناس في العافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقيقتهم ”.
فالبلاء مؤشر على مدى تشبع النفس البشرية بالحس التضامني الذي تفرضه مبادئ الأخوة الإيمانية، والبنيان المرصوص، والجسد الواحد الذي تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر .
3. تحقيق معنى الإنابة :
وذلك بالرجوع إلى الله تعالى والانكسار له، والتحرر من قيد الغفلة والشهوات التي لها أثرا عجيبا يهز مشاعر الإنسان من داخله، ويوقظ حسه المفعم بالولاء للأسباب .
كما أن الإنابة تكسر حدة العجب والكبر الذي ينتاب الإنسان حال الاستقرار والعافية. وتُذكره بعجزه عن الاستقلال بذاته وإمكاناته في مواجهة صنوف البلاء التي تعترض مسيرته ووجوده .
4. الانتباه إلى المسافة الفاصلة بين المجتمع المسلم وبقية المجتمعات الأخرى :
وذلك من حيث مستوى الفهم والتقدير بشان رضى المؤمن بما يصيبه، وإذعانه لمراد الله تعالى وابتلائه، وما يُرسخ في النفس قناعة بأن كل صنوف البلاء مأمورة، و أن الاجتهاد لدفع آثارها لا يجب أن يوقع المسلم في دائرة الفزع والذعر الذي يَذهل بسببه عن مقتضى العبودية ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال َ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ؛ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِن الزَّرْعِ, تُفِيئُهَا الرِّيحُ تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ, وَمَثَلُ الْكَافِرِ؛ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ الْمُجْذِيَةِ عَلَى أَصْلِهَا لَا يُفِيئُهَا شَيْء, حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً رواه البخاري عن :عن كَعْب بن مالك .
فإذا تـعـرض الـمـسلم للمصائب والمحن بقدر من الله ولحكمة يريدها الله ، فلابد أن يصبر ويتقي الله ، وبعدهـا يؤتي الله نصره من يشاء ، وعندما يتعرض المسلمون للمحن والرزايا فلاشك أن في ذلك فوائـد كثـيـرة يريدهــا الله ، كتمحيص الصفوف ومعرفة الصابرين المجاهدين ، والدخلاء الذين هم غثاء كغثاء السيل .
ثالثا : مفهوم التضرع لغة وإصطلاحا ،
وذكره في القرآن الكريم والسنة المطهرة :
أ - التضرع لغة :
من ضرع فلان لفلان وضرع له، إذا ما تخشَّع له وسأله أن يعطيه.
ب - والتضرع اصطلاحاً :
هو التذلل والمبالغة في السؤال والرغبة .
وقال صاحب البصائر : التضرع معناه التذلل في الدعاء ، قال تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا } الأعراف: ٥٥ ، أي مظهرين الضراعة وهي شدة الفقر إلى الله تعالى وحقيقته الخشوع .
ج - التضرع في القرآن الكريم :
1- قول الله تعالى: " ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " الأعراف: 55 .
2- قوله تعالى: " وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ " الأعراف : 205 .
3- قوله تعالى : " قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ " الأنعام: 40- 45 .
4 - قوله تعالى" قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ" الأنعام: 63- 64 .
5 - قول الله تعالى: " وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ " المؤمنون:76 .
6 , قوله تعالى: " وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ " الأعراف : 94 .
ء - التضرع في السنة المطهرة :
1- عن الفضل بن عبّاس - رضي اللّه عنهما - أنّه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : "الصّلاة مثنى مثنى، تشهّد في كلّ ركعتين وتخشّع ، وتضرّع ، وتمسكن ، وتذرّع وتقنع يديك - يقول : ترفعهما إلى ربّك مستقبلا ببطونهما وجهك - وتقول: يا ربّ يا ربّ! ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا " رواه الترمذي .
2 - عن أبي أمامة- رضي اللّه عنه- أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكّة ذهبا"، قلت: "لا يا ربّ، ولكن أشبع يوما، وأجوع يوما. وقال ثلاثا أو نحو هذا- فإذا جعت تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك " رواه الترمذي واللفظ له .
3 - عن ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- قال : كشف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم السّتارة والنّاس صفوف خلف أبي بكر، فقال : " أيّها النّاس! إنّه لم يبق من مبشّرات النّبوّة إلّا الرّؤيا الصّالحة، يراها المسلم أو ترى له، ألا وإنّي نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، فأمّا الرّكوع فعظّموا فيه الرّبّ- عزّ وجلّ- وأمّا السّجود فاجتهدوا في الدّعاء فقمن أن يستجاب لكم" رواه مسلم .
4 - عن عمر بن الخطّاب- رضي اللّه عنه- أنّه قال: لمّا كان يوم بدر، قال : نظر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أصحابه وهم ثلثمائة ونيّف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم القبلة، ثمّ مدّ يديه وعليه رداؤه وإزاره، ثمّ قال : " اللّهمّ أين ما وعدتني، اللّهمّ أنجز ما وعدتني، اللّهمّ إنّك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا"، قال: فما زال يستغيث ربّه- عزّ وجلّ- ويدعوه حتّى سقط رداؤه: فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّه، ثمّ التزمه من ورائه، ثمّ قال: يا نبيّ اللّه، كفاك مناشدتك ربّك، فإنّه سينجز لك ما وعدك، وأنزل اللّه- عزّ وجلّ-: ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِين َ) الأنفال: 9 رواه أحمد .
رابعا : التضرع إلى الله سبيل النجاة :
إن من منازل العبد في سيره إلى الله افتقاره التامُّ إلى ربه الجليل، ويقينه أنه لا يكشف الضرّ عنه إلا هو، ولا يأتيه بالخير سواه، وهذا يدفعه إلى الاستسلام التام لربه سبحانه، وهذا من كمال توحيده وتمام إيمانه، وسلامة قلبه، قال الله تبارك وتعالى: { وَإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
يونس: 107 .
ولقد أخبرنا ربنا سبحانه في القرآن العظيم أن التضرع والدعاء الصادق يرفع العذاب ويرد البلاء ، فقال عن الأمم السابقة: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الأنعام: 42، 43 ؛
فالغاية من أخذ العباد بالبأساء والضراء أن يضرعوا إلى الله، ويرجعوا إليه، قال ابن القيم: «فالله يبتلي عبده ليسمع تضرعه ودعاءه والشكوى إليه، ولا يحب التجلد عليه ، وأحب ما إليه انكسار قلب عبده بين يديه، وتذلله له وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقلة صبره، فاحذر كل الحذر من إظهار التجلد عليه، وعليك بالتضرع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذل والضعف، فرحمته أقرب إلى هذا القلب من اليد للفم » .
خامسا : الرسول عليه الصلاة والسلام المتضرع الاول لله تعالى :
روى الترمزي عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ( عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا ، قُلْتُ : لَا يَا رَبِّ وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا - أَوْ قَالَ ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَ هَذَا - فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ )
وهكذا رفض صلى الله عليه وسلم التنعم والترف ورضي بالبلاء ليكون متضرعا خاشعا متذللا لربه تبارك وتعالى في كل أحواله ،
وهذه امثله لحالات لتضرعه صلى الله عليه وسلم وسائلها :
1 - تضرع محمد صلى الله عليه وسلم بقوله ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) حين اجتمع المشركون ليؤذوه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) قالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قيل له ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) رواه البخاري .
كان رسول الله يتضرع إلى الله بالتكبير عن رمي الجمرات في أيام التشريق بمنى .
2- تضرعه صلى الله عليه وسلم بالدعاء والتكبير والصلاة في يوم عيد دون أداء خطبة العيد :
عن ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- أنّه قال: " إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج متبذّلا متواضعا متضرّعا، حتّى أتى المصلّى، فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدّعاء والتّضرّع والتّكبير وصلّى ركعتين كما كان يصلّي في العيد " رواه الترمذي واللفظ له .
3 - عن عائشة- رضي اللّه عنها - أنّها قالت : " أفاض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من آخر يومه حين صلّى الظّهر ، ثمّ رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيّام التّشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشّمس، كلّ جمرة بسبع حصيات يكبّر مع كلّ حصاة، ويقف عند الأولى والثّانية، فيطيل القيام ويتضرّع ويرمي الثّالثة، ولا يقف عندها" رواه أبو داود .
سادسا : صور من تضرع الأنبياء السابقين حال مسهم الضر :
1- قول إبراهيم عليه السلام ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) مستغيثاُ من النار المتأججة التي اضطرمها قومه بإحراق بعد أن حطم أصنامهم :
لما تكافت قوى الكفر والطغيان على إبراهيم عليه السلام بعد أن حطم الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله فتشاوروا وتباحثوا و( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) وشرعوا بجمع الحطب من كل مكان فأشعلوا فيه النار فاضطرمت وتأججت والتهبت وعلاها شرر لم ير مثله قط ، ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق بعد أن قيدوه وكتفوه وأوثقوا رباطه ثم ألقوه في النار فقال وهو في هذه الكربة العظيمة والمحنة الكبيرة داعياً ربه متضرعاً إليه مستغيثاُ به ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) فاستجاب الله له ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) فما ضرته ولا آذته ولم تحرق سوى وثاقه الذي كان مشدوداً به .
البداية والنهاية لابن كثير .
2- قول يونس عليه السلام ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) حينما التقمه الحوت فصار في ظلمات ثلاث :
لما ذهب يونس عليه السلام مغاضباً التقمه الحوت فصار في ظلمات ثلاث : ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت لجأ إلى عالم السر والنجوى وكاشف البلوى سامع الأصوات وإن ضعفت وعالم الخفيات وإن دقت ومجيب الدعوات وإن عظمت فقال ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) فاستجاب الله دعاءه من قعر البحار وهو على عرشه واحد قهار فنجاه وفك كربته فقال(فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ).
قال أبو هريرة رضي الله عنه طرح بالعراء وأنبت الله عليه اليقطينة ـــ شجرة الدباء ـــ وهيأ الله له دابة تأكل من هشاش الأرض فكان يشرب من لبنها رحمة به ونعمة عليه وإحساناً إليه .
البداية والنهاية بتصرف يسير .
3 - قول أيوب عليه السلام ربِّ ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ردَّ الله عليه جسده ، ثم صب عليه المال وأخلف له أهله ومثلهم معهم :
لما ابتلى الله نبيه أيوب عليه السلام فسلبه كل ما حباه من نعمة المال والماشية والعبيد والأراضي والأهلين والأولاد ونزل بجسده أنواع الأسقام والأمراض ، ومكث على هذه الحال ثمانية عشرة سنة ،
وكان له أخوان فجاءا يوماً فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه فقاما من بعيد ، فقال أحدهما لصاحبه : لو كان الله علم من أيوب خيراً لما ابتلاه بهذا ،
فجزع عليه السلام من مقالهما فلجأ إلى ربه مسترحماً مستغيثاً وقال ربِّ ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ، فأوحى الله إليه (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ) فامتثل ما أمر به فأنبع الله له عيناً باردة الماء فشرب واغتسل وأذهب الله ما كان به من بلاء ظاهر وباطن وعاد على أحسن ما كان .
أورد ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله ألبسه حلة من حلل الجنة ، ثم تنحى من مكانه وجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه فقالت يا عبد الله هذا المبتلى الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب ؟ وجعلت تكلمه ساعة ، قال : ولعل أنا أيوب !! قالت أتسخر مني يا عبد الله ؟ فقال ويحك أنا أيوب قد ردَّ الله عليَّ جسدي ، ثم صب الله عليه المال صباً وأخلف له أهله ومثلهم معهم قال تعالى (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ) ،
قال ابن كثير: أي تذكرة لمن ابتلي في جسده أو ماله أو ولده فله أسوة بنبي الله أيوب حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه . البداية والنهاية بتصرف كبير .
4 - تضرع العلماء في عهد داود عليه السلام حين أصابهم القحط بنصوص التوراة :
قال يحيى الغسّانيّ - رحمه اللّه تعالى - : " أصاب النّاس قحط على عهد داود - عليه السّلام - فاختاروا ثلاثة من علمائهم فخرجوا حتّى يستسقوا بهم ،
فقال أحدهم : اللّهمّ إنّك أنزلت في توراتك أن نعفو عمّن ظلمنا، اللّهمّ إنّا ظلمنا أنفسنا فاعف عنّا،
وقال الثّاني: اللّهمّ إنّك أنزلت في توراتك أن نعتق أرقّاءنا ، اللّهمّ إنّا أرقّاؤك فأعتقنا ،
وقال الثّالث: اللّهمّ إنّك أنزلت في توراتك أن لا نردّ المساكين إذا وقفوا بأبوابنا ، اللّهمّ إنّا مساكينك ، وقفنا ببابك فلا تردّ دعاءنا ، فسقوا» " الأذكار ، للنووي .
سابعا : التضرع في الشعر العربي :
1- قال محمد بن أبي حازم
اضرع إلى اللهّ لا تَضْرعَ إلى النَّاس ***
واقْنَـــعْ بِيـأسٍ فـــإنّ العِـــزَّ في اليَــاس .
واستغنِ عن كل ذي قربى وذي ***
رَحِم إنّ الغَنِيَّ مَنِ استغنى عن الناس .
العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي1/330 .
2- قد أحسن من قال :
دواء قلبك خمس عند قسوته ***
فأذهب عليها تفز بالخير والظفر .
خلاء بطن وقرآن تدبره ***
كــذا تضرع بـــــاك ساعــة السحــر .
ثم التهجد جنح الليل أوسطه ***
وأن تجـــالس أهل الخير والخـــبر .
أعمال القلوب خالد السبت 1/ 27 .
3- رحم الله من قال:
تضرع في دجى الليل إلى مولاك يكفيكــا *** ولا تأمن هجوم الموت إن الموت يأتيكـا .
كـأني بالذي يهـواك في القـــبر يدليـكـــا ***
وقد أفردت في لحدك فردا بمساويكــا .
واسلمك الذي قد كان في الدنيا يصافيكا ***
فيا سؤلي ويا ذخري وكل الخلق راجيكــا .
ويا من ليس منا أحد يحصى أياديكـــا ***
تجــاوز عن مقــال ثم حــقق أمــلي فيكــا
بستان الواعظين ورياض السامعين لابن الجوزى .
#التضرع_في_زمن_البلاء
إعداد : محمد أبوغدير المحامي
مقدمة:
من سنن الله تعالى ان يصاب الإنسان بالبلاء كالفقر والضيق في العيش ، ويبتليه الله بالضَّرَّاءِ كالأمراض والأسقِام والآلام ، لكي يَتَضَرَّعَُ ويتمسكن إلى الله تعالى ويخشع له ويدعوه سبحانه .
ولقد نزل البلاء والكرب هذه الأيام بالناس - كل الناس - ، ولا نرى ما يقابله من التضرع والتذلل والانكسار المطلوب إلى الله تعالى في مثل هذه الظروف والأحوال العصيبة التي تمر بها الأمة.
قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) 42 ، 43 سورة الأنعام
وإذا كانت هذه الآية الكريمة تتحدث عن أقوام كذبوا رسلهم وأصروا على كفرهم حسب ما هو منصوص عليه في كتب التفسير، فإنها نبهت إلى شدة حاجة المسلمين اليوم إلى تدبرها والاتعاظ بها .
قد تكون هناك فئة قليلة من المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى بالليل والنهار ، ويتذللون بين يديه بالدعاء طالبين منه سبحانه أن يرفع المحنة ويكشف الغمة عن الأمة ، إلا أن العدد الأكبر من المسلمين غافلين عن هذه الوسيلة الناجعة في رفع البلاء والنصر على الأعداء.
ومن ثم وجب اللجوء إلى علام الغيوب إذا ضاقت الطرق وانقطعت السبل ، فطريق الله هو فقط الموصل إلى بر الأمان ، قال الله تعالى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ. ) .
والتضرع حال البلاء موضوع الساعة يستوجب بيان العناصر الآتية :
أولا : مفهوم البلاء والإبتلاء والفارق بينهما :
ثانيا : ثمرات البلاء :
ثالثا : التضرع من حيث مفهوم لغة وإصطلاحا :
وذكره في القرآن الكريم والسنة المطهرة
رابعا : التضرع إلى الله سبيل النجاة ،
خامسا : الرسول المتضرع الاول لله تعالى ،
سادسا : صور من تضرع الأنبياء السابقين ،
سابعا : التضرع في الشعر العربي ،
وبيان هذه العناصر في الآتي :
أولا : مفهوم البلاء والإبتلاء
والفارق بينهما :
قال تعالى : " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا "،
لذلك فإن الإنسان في امتحان مستمر بالخير والشر وبالنعمة والنقمة لاختبار مدى قدرة الإنسان على التحمّل، فهو في هذه الحياة الدنيا محل اختبار وامتحان ووسيلة ذلك هو البلاء والإبتلاء ، والبلاء رغم شدته وقسوته له وجه مشرق هي ثمراته التي يجنيها المرء من المحنة .
ومن ثم وجب تعريف كل من البلاء والإبتلاء والفرق بينهما ، وبيان ذلك في الآتي :
أ - تعريف البلاء :
البلاء هو :
المحن والمصاعب التي تصيب عموم الناس المسلمون منهم والكافرون ويكون بمثابة العقاب الذي يرسله الله سبحانه عليهم لظلمهم .
قال الله تعالى : ” ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبراها إن ذلك على الله يسيرا ”.
ب - تعريف الإبتلاء :
الإبتلاء هو :
الإختبار والإمتحان الذي يخص المؤمنون الذين يقعون في المعصية ، فإذا احتسبه عند الله وصبر عليه فجزاءه حسنة في الدنيا ، وجنات في الآخرة .
قال الله تعالى : “ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين”.
ج - بيان الفرق البلاء والإبتلاء :
الإبتلاء عادةً ما يكون للإنسان المؤمن والصالح لإختبار درجة إيمانه وصبره على حكم الله وهنا يكون الإبتلاء بمثابة الإمتحان أو الإختبار الذي يجازى الإنسان عنه خيرا إن شاء الله.
أما البلاء هنا فيقع على عموم الناس المسلمون منهم والكافرون وهو العقاب الذي يرسله الله سبحانه وتعالى للناس الظالمين .
والإبتلاء أقل عموم وشمول من البلاء لأنه يخص فقط المؤمنين الذين قد يقعون في المعصية ومع ذلك يتذكرون الله ولا يبتعدون ، فيحب الله عز وجل أن يردهم إليه مرة أخرى فيعطيهم الله الابتلاء حتى يمحو ذنوبهم وينقيهم منها .
ثانيا : ثمرات البلاء :
رغم ما يترد اليوم عبر وسائل الإعلام الراصدة لتحركات “ كورونا ” أن هذا الفيروس عدو للبشرية ، إلا أن المسلم الواعى يرى أن للبلاء وجه مشرق هو ثمرات يجنيها المرء من المحنة والتي تتمثل في الآتي :
1. تمييز الخبيث من الطيب :
مصداقا لقوله تعالى: { ما كان الله ليَذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } آل عمران : 179.
فكشف البلاء الفارق الجلي بين افراد الجماعة المؤمنة سواء في معركة أحد ،أو في حادثة الإفك، أو غيرها من الوقائع المتعددة التي حددت مواطن الخبث في كيان المجتمع الإسلامي آنذاك.
2 . كشف تفاوت همم الناس :
من حيث حقيقة سعيهم ، ومنسوب التدين الذي يحكم سلوكهم الخاص والعام ، يقول الحسن البصري : “ الناس في العافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقيقتهم ”.
فالبلاء مؤشر على مدى تشبع النفس البشرية بالحس التضامني الذي تفرضه مبادئ الأخوة الإيمانية، والبنيان المرصوص، والجسد الواحد الذي تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر .
3. تحقيق معنى الإنابة :
وذلك بالرجوع إلى الله تعالى والانكسار له، والتحرر من قيد الغفلة والشهوات التي لها أثرا عجيبا يهز مشاعر الإنسان من داخله، ويوقظ حسه المفعم بالولاء للأسباب .
كما أن الإنابة تكسر حدة العجب والكبر الذي ينتاب الإنسان حال الاستقرار والعافية. وتُذكره بعجزه عن الاستقلال بذاته وإمكاناته في مواجهة صنوف البلاء التي تعترض مسيرته ووجوده .
4. الانتباه إلى المسافة الفاصلة بين المجتمع المسلم وبقية المجتمعات الأخرى :
وذلك من حيث مستوى الفهم والتقدير بشان رضى المؤمن بما يصيبه، وإذعانه لمراد الله تعالى وابتلائه، وما يُرسخ في النفس قناعة بأن كل صنوف البلاء مأمورة، و أن الاجتهاد لدفع آثارها لا يجب أن يوقع المسلم في دائرة الفزع والذعر الذي يَذهل بسببه عن مقتضى العبودية ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال َ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ؛ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِن الزَّرْعِ, تُفِيئُهَا الرِّيحُ تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ, وَمَثَلُ الْكَافِرِ؛ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ الْمُجْذِيَةِ عَلَى أَصْلِهَا لَا يُفِيئُهَا شَيْء, حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً رواه البخاري عن :عن كَعْب بن مالك .
فإذا تـعـرض الـمـسلم للمصائب والمحن بقدر من الله ولحكمة يريدها الله ، فلابد أن يصبر ويتقي الله ، وبعدهـا يؤتي الله نصره من يشاء ، وعندما يتعرض المسلمون للمحن والرزايا فلاشك أن في ذلك فوائـد كثـيـرة يريدهــا الله ، كتمحيص الصفوف ومعرفة الصابرين المجاهدين ، والدخلاء الذين هم غثاء كغثاء السيل .
ثالثا : مفهوم التضرع لغة وإصطلاحا ،
وذكره في القرآن الكريم والسنة المطهرة :
أ - التضرع لغة :
من ضرع فلان لفلان وضرع له، إذا ما تخشَّع له وسأله أن يعطيه.
ب - والتضرع اصطلاحاً :
هو التذلل والمبالغة في السؤال والرغبة .
وقال صاحب البصائر : التضرع معناه التذلل في الدعاء ، قال تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا } الأعراف: ٥٥ ، أي مظهرين الضراعة وهي شدة الفقر إلى الله تعالى وحقيقته الخشوع .
ج - التضرع في القرآن الكريم :
1- قول الله تعالى: " ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " الأعراف: 55 .
2- قوله تعالى: " وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ " الأعراف : 205 .
3- قوله تعالى : " قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ " الأنعام: 40- 45 .
4 - قوله تعالى" قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ" الأنعام: 63- 64 .
5 - قول الله تعالى: " وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ " المؤمنون:76 .
6 , قوله تعالى: " وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ " الأعراف : 94 .
ء - التضرع في السنة المطهرة :
1- عن الفضل بن عبّاس - رضي اللّه عنهما - أنّه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : "الصّلاة مثنى مثنى، تشهّد في كلّ ركعتين وتخشّع ، وتضرّع ، وتمسكن ، وتذرّع وتقنع يديك - يقول : ترفعهما إلى ربّك مستقبلا ببطونهما وجهك - وتقول: يا ربّ يا ربّ! ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا " رواه الترمذي .
2 - عن أبي أمامة- رضي اللّه عنه- أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكّة ذهبا"، قلت: "لا يا ربّ، ولكن أشبع يوما، وأجوع يوما. وقال ثلاثا أو نحو هذا- فإذا جعت تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك " رواه الترمذي واللفظ له .
3 - عن ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- قال : كشف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم السّتارة والنّاس صفوف خلف أبي بكر، فقال : " أيّها النّاس! إنّه لم يبق من مبشّرات النّبوّة إلّا الرّؤيا الصّالحة، يراها المسلم أو ترى له، ألا وإنّي نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، فأمّا الرّكوع فعظّموا فيه الرّبّ- عزّ وجلّ- وأمّا السّجود فاجتهدوا في الدّعاء فقمن أن يستجاب لكم" رواه مسلم .
4 - عن عمر بن الخطّاب- رضي اللّه عنه- أنّه قال: لمّا كان يوم بدر، قال : نظر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أصحابه وهم ثلثمائة ونيّف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم القبلة، ثمّ مدّ يديه وعليه رداؤه وإزاره، ثمّ قال : " اللّهمّ أين ما وعدتني، اللّهمّ أنجز ما وعدتني، اللّهمّ إنّك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا"، قال: فما زال يستغيث ربّه- عزّ وجلّ- ويدعوه حتّى سقط رداؤه: فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّه، ثمّ التزمه من ورائه، ثمّ قال: يا نبيّ اللّه، كفاك مناشدتك ربّك، فإنّه سينجز لك ما وعدك، وأنزل اللّه- عزّ وجلّ-: ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِين َ) الأنفال: 9 رواه أحمد .
رابعا : التضرع إلى الله سبيل النجاة :
إن من منازل العبد في سيره إلى الله افتقاره التامُّ إلى ربه الجليل، ويقينه أنه لا يكشف الضرّ عنه إلا هو، ولا يأتيه بالخير سواه، وهذا يدفعه إلى الاستسلام التام لربه سبحانه، وهذا من كمال توحيده وتمام إيمانه، وسلامة قلبه، قال الله تبارك وتعالى: { وَإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
يونس: 107 .
ولقد أخبرنا ربنا سبحانه في القرآن العظيم أن التضرع والدعاء الصادق يرفع العذاب ويرد البلاء ، فقال عن الأمم السابقة: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الأنعام: 42، 43 ؛
فالغاية من أخذ العباد بالبأساء والضراء أن يضرعوا إلى الله، ويرجعوا إليه، قال ابن القيم: «فالله يبتلي عبده ليسمع تضرعه ودعاءه والشكوى إليه، ولا يحب التجلد عليه ، وأحب ما إليه انكسار قلب عبده بين يديه، وتذلله له وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقلة صبره، فاحذر كل الحذر من إظهار التجلد عليه، وعليك بالتضرع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذل والضعف، فرحمته أقرب إلى هذا القلب من اليد للفم » .
خامسا : الرسول عليه الصلاة والسلام المتضرع الاول لله تعالى :
روى الترمزي عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ( عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا ، قُلْتُ : لَا يَا رَبِّ وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا - أَوْ قَالَ ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَ هَذَا - فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ )
وهكذا رفض صلى الله عليه وسلم التنعم والترف ورضي بالبلاء ليكون متضرعا خاشعا متذللا لربه تبارك وتعالى في كل أحواله ،
وهذه امثله لحالات لتضرعه صلى الله عليه وسلم وسائلها :
1 - تضرع محمد صلى الله عليه وسلم بقوله ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) حين اجتمع المشركون ليؤذوه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) قالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قيل له ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) رواه البخاري .
كان رسول الله يتضرع إلى الله بالتكبير عن رمي الجمرات في أيام التشريق بمنى .
2- تضرعه صلى الله عليه وسلم بالدعاء والتكبير والصلاة في يوم عيد دون أداء خطبة العيد :
عن ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- أنّه قال: " إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج متبذّلا متواضعا متضرّعا، حتّى أتى المصلّى، فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدّعاء والتّضرّع والتّكبير وصلّى ركعتين كما كان يصلّي في العيد " رواه الترمذي واللفظ له .
3 - عن عائشة- رضي اللّه عنها - أنّها قالت : " أفاض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من آخر يومه حين صلّى الظّهر ، ثمّ رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيّام التّشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشّمس، كلّ جمرة بسبع حصيات يكبّر مع كلّ حصاة، ويقف عند الأولى والثّانية، فيطيل القيام ويتضرّع ويرمي الثّالثة، ولا يقف عندها" رواه أبو داود .
سادسا : صور من تضرع الأنبياء السابقين حال مسهم الضر :
1- قول إبراهيم عليه السلام ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) مستغيثاُ من النار المتأججة التي اضطرمها قومه بإحراق بعد أن حطم أصنامهم :
لما تكافت قوى الكفر والطغيان على إبراهيم عليه السلام بعد أن حطم الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله فتشاوروا وتباحثوا و( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) وشرعوا بجمع الحطب من كل مكان فأشعلوا فيه النار فاضطرمت وتأججت والتهبت وعلاها شرر لم ير مثله قط ، ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق بعد أن قيدوه وكتفوه وأوثقوا رباطه ثم ألقوه في النار فقال وهو في هذه الكربة العظيمة والمحنة الكبيرة داعياً ربه متضرعاً إليه مستغيثاُ به ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) فاستجاب الله له ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) فما ضرته ولا آذته ولم تحرق سوى وثاقه الذي كان مشدوداً به .
البداية والنهاية لابن كثير .
2- قول يونس عليه السلام ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) حينما التقمه الحوت فصار في ظلمات ثلاث :
لما ذهب يونس عليه السلام مغاضباً التقمه الحوت فصار في ظلمات ثلاث : ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت لجأ إلى عالم السر والنجوى وكاشف البلوى سامع الأصوات وإن ضعفت وعالم الخفيات وإن دقت ومجيب الدعوات وإن عظمت فقال ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) فاستجاب الله دعاءه من قعر البحار وهو على عرشه واحد قهار فنجاه وفك كربته فقال(فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ).
قال أبو هريرة رضي الله عنه طرح بالعراء وأنبت الله عليه اليقطينة ـــ شجرة الدباء ـــ وهيأ الله له دابة تأكل من هشاش الأرض فكان يشرب من لبنها رحمة به ونعمة عليه وإحساناً إليه .
البداية والنهاية بتصرف يسير .
3 - قول أيوب عليه السلام ربِّ ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ردَّ الله عليه جسده ، ثم صب عليه المال وأخلف له أهله ومثلهم معهم :
لما ابتلى الله نبيه أيوب عليه السلام فسلبه كل ما حباه من نعمة المال والماشية والعبيد والأراضي والأهلين والأولاد ونزل بجسده أنواع الأسقام والأمراض ، ومكث على هذه الحال ثمانية عشرة سنة ،
وكان له أخوان فجاءا يوماً فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه فقاما من بعيد ، فقال أحدهما لصاحبه : لو كان الله علم من أيوب خيراً لما ابتلاه بهذا ،
فجزع عليه السلام من مقالهما فلجأ إلى ربه مسترحماً مستغيثاً وقال ربِّ ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ، فأوحى الله إليه (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ) فامتثل ما أمر به فأنبع الله له عيناً باردة الماء فشرب واغتسل وأذهب الله ما كان به من بلاء ظاهر وباطن وعاد على أحسن ما كان .
أورد ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله ألبسه حلة من حلل الجنة ، ثم تنحى من مكانه وجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه فقالت يا عبد الله هذا المبتلى الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب ؟ وجعلت تكلمه ساعة ، قال : ولعل أنا أيوب !! قالت أتسخر مني يا عبد الله ؟ فقال ويحك أنا أيوب قد ردَّ الله عليَّ جسدي ، ثم صب الله عليه المال صباً وأخلف له أهله ومثلهم معهم قال تعالى (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ) ،
قال ابن كثير: أي تذكرة لمن ابتلي في جسده أو ماله أو ولده فله أسوة بنبي الله أيوب حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه . البداية والنهاية بتصرف كبير .
4 - تضرع العلماء في عهد داود عليه السلام حين أصابهم القحط بنصوص التوراة :
قال يحيى الغسّانيّ - رحمه اللّه تعالى - : " أصاب النّاس قحط على عهد داود - عليه السّلام - فاختاروا ثلاثة من علمائهم فخرجوا حتّى يستسقوا بهم ،
فقال أحدهم : اللّهمّ إنّك أنزلت في توراتك أن نعفو عمّن ظلمنا، اللّهمّ إنّا ظلمنا أنفسنا فاعف عنّا،
وقال الثّاني: اللّهمّ إنّك أنزلت في توراتك أن نعتق أرقّاءنا ، اللّهمّ إنّا أرقّاؤك فأعتقنا ،
وقال الثّالث: اللّهمّ إنّك أنزلت في توراتك أن لا نردّ المساكين إذا وقفوا بأبوابنا ، اللّهمّ إنّا مساكينك ، وقفنا ببابك فلا تردّ دعاءنا ، فسقوا» " الأذكار ، للنووي .
سابعا : التضرع في الشعر العربي :
1- قال محمد بن أبي حازم
اضرع إلى اللهّ لا تَضْرعَ إلى النَّاس ***
واقْنَـــعْ بِيـأسٍ فـــإنّ العِـــزَّ في اليَــاس .
واستغنِ عن كل ذي قربى وذي ***
رَحِم إنّ الغَنِيَّ مَنِ استغنى عن الناس .
العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي1/330 .
2- قد أحسن من قال :
دواء قلبك خمس عند قسوته ***
فأذهب عليها تفز بالخير والظفر .
خلاء بطن وقرآن تدبره ***
كــذا تضرع بـــــاك ساعــة السحــر .
ثم التهجد جنح الليل أوسطه ***
وأن تجـــالس أهل الخير والخـــبر .
أعمال القلوب خالد السبت 1/ 27 .
3- رحم الله من قال:
تضرع في دجى الليل إلى مولاك يكفيكــا *** ولا تأمن هجوم الموت إن الموت يأتيكـا .
كـأني بالذي يهـواك في القـــبر يدليـكـــا ***
وقد أفردت في لحدك فردا بمساويكــا .
واسلمك الذي قد كان في الدنيا يصافيكا ***
فيا سؤلي ويا ذخري وكل الخلق راجيكــا .
ويا من ليس منا أحد يحصى أياديكـــا ***
تجــاوز عن مقــال ثم حــقق أمــلي فيكــا
بستان الواعظين ورياض السامعين لابن الجوزى .
إعداد : محمد أبوغدير المحامي
مقدمة:
من سنن الله تعالى ان يصاب الإنسان بالبلاء كالفقر والضيق في العيش ، ويبتليه الله بالضَّرَّاءِ كالأمراض والأسقِام والآلام ، لكي يَتَضَرَّعَُ ويتمسكن إلى الله تعالى ويخشع له ويدعوه سبحانه .
ولقد نزل البلاء والكرب هذه الأيام بالناس - كل الناس - ، ولا نرى ما يقابله من التضرع والتذلل والانكسار المطلوب إلى الله تعالى في مثل هذه الظروف والأحوال العصيبة التي تمر بها الأمة.
قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) 42 ، 43 سورة الأنعام
وإذا كانت هذه الآية الكريمة تتحدث عن أقوام كذبوا رسلهم وأصروا على كفرهم حسب ما هو منصوص عليه في كتب التفسير، فإنها نبهت إلى شدة حاجة المسلمين اليوم إلى تدبرها والاتعاظ بها .
قد تكون هناك فئة قليلة من المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى بالليل والنهار ، ويتذللون بين يديه بالدعاء طالبين منه سبحانه أن يرفع المحنة ويكشف الغمة عن الأمة ، إلا أن العدد الأكبر من المسلمين غافلين عن هذه الوسيلة الناجعة في رفع البلاء والنصر على الأعداء.
ومن ثم وجب اللجوء إلى علام الغيوب إذا ضاقت الطرق وانقطعت السبل ، فطريق الله هو فقط الموصل إلى بر الأمان ، قال الله تعالى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ. ) .
والتضرع حال البلاء موضوع الساعة يستوجب بيان العناصر الآتية :
أولا : مفهوم البلاء والإبتلاء والفارق بينهما :
ثانيا : ثمرات البلاء :
ثالثا : التضرع من حيث مفهوم لغة وإصطلاحا :
وذكره في القرآن الكريم والسنة المطهرة
رابعا : التضرع إلى الله سبيل النجاة ،
خامسا : الرسول المتضرع الاول لله تعالى ،
سادسا : صور من تضرع الأنبياء السابقين ،
سابعا : التضرع في الشعر العربي ،
وبيان هذه العناصر في الآتي :
أولا : مفهوم البلاء والإبتلاء
والفارق بينهما :
قال تعالى : " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا "،
لذلك فإن الإنسان في امتحان مستمر بالخير والشر وبالنعمة والنقمة لاختبار مدى قدرة الإنسان على التحمّل، فهو في هذه الحياة الدنيا محل اختبار وامتحان ووسيلة ذلك هو البلاء والإبتلاء ، والبلاء رغم شدته وقسوته له وجه مشرق هي ثمراته التي يجنيها المرء من المحنة .
ومن ثم وجب تعريف كل من البلاء والإبتلاء والفرق بينهما ، وبيان ذلك في الآتي :
أ - تعريف البلاء :
البلاء هو :
المحن والمصاعب التي تصيب عموم الناس المسلمون منهم والكافرون ويكون بمثابة العقاب الذي يرسله الله سبحانه عليهم لظلمهم .
قال الله تعالى : ” ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبراها إن ذلك على الله يسيرا ”.
ب - تعريف الإبتلاء :
الإبتلاء هو :
الإختبار والإمتحان الذي يخص المؤمنون الذين يقعون في المعصية ، فإذا احتسبه عند الله وصبر عليه فجزاءه حسنة في الدنيا ، وجنات في الآخرة .
قال الله تعالى : “ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين”.
ج - بيان الفرق البلاء والإبتلاء :
الإبتلاء عادةً ما يكون للإنسان المؤمن والصالح لإختبار درجة إيمانه وصبره على حكم الله وهنا يكون الإبتلاء بمثابة الإمتحان أو الإختبار الذي يجازى الإنسان عنه خيرا إن شاء الله.
أما البلاء هنا فيقع على عموم الناس المسلمون منهم والكافرون وهو العقاب الذي يرسله الله سبحانه وتعالى للناس الظالمين .
والإبتلاء أقل عموم وشمول من البلاء لأنه يخص فقط المؤمنين الذين قد يقعون في المعصية ومع ذلك يتذكرون الله ولا يبتعدون ، فيحب الله عز وجل أن يردهم إليه مرة أخرى فيعطيهم الله الابتلاء حتى يمحو ذنوبهم وينقيهم منها .
ثانيا : ثمرات البلاء :
رغم ما يترد اليوم عبر وسائل الإعلام الراصدة لتحركات “ كورونا ” أن هذا الفيروس عدو للبشرية ، إلا أن المسلم الواعى يرى أن للبلاء وجه مشرق هو ثمرات يجنيها المرء من المحنة والتي تتمثل في الآتي :
1. تمييز الخبيث من الطيب :
مصداقا لقوله تعالى: { ما كان الله ليَذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } آل عمران : 179.
فكشف البلاء الفارق الجلي بين افراد الجماعة المؤمنة سواء في معركة أحد ،أو في حادثة الإفك، أو غيرها من الوقائع المتعددة التي حددت مواطن الخبث في كيان المجتمع الإسلامي آنذاك.
2 . كشف تفاوت همم الناس :
من حيث حقيقة سعيهم ، ومنسوب التدين الذي يحكم سلوكهم الخاص والعام ، يقول الحسن البصري : “ الناس في العافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقيقتهم ”.
فالبلاء مؤشر على مدى تشبع النفس البشرية بالحس التضامني الذي تفرضه مبادئ الأخوة الإيمانية، والبنيان المرصوص، والجسد الواحد الذي تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر .
3. تحقيق معنى الإنابة :
وذلك بالرجوع إلى الله تعالى والانكسار له، والتحرر من قيد الغفلة والشهوات التي لها أثرا عجيبا يهز مشاعر الإنسان من داخله، ويوقظ حسه المفعم بالولاء للأسباب .
كما أن الإنابة تكسر حدة العجب والكبر الذي ينتاب الإنسان حال الاستقرار والعافية. وتُذكره بعجزه عن الاستقلال بذاته وإمكاناته في مواجهة صنوف البلاء التي تعترض مسيرته ووجوده .
4. الانتباه إلى المسافة الفاصلة بين المجتمع المسلم وبقية المجتمعات الأخرى :
وذلك من حيث مستوى الفهم والتقدير بشان رضى المؤمن بما يصيبه، وإذعانه لمراد الله تعالى وابتلائه، وما يُرسخ في النفس قناعة بأن كل صنوف البلاء مأمورة، و أن الاجتهاد لدفع آثارها لا يجب أن يوقع المسلم في دائرة الفزع والذعر الذي يَذهل بسببه عن مقتضى العبودية ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال َ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ؛ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِن الزَّرْعِ, تُفِيئُهَا الرِّيحُ تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ, وَمَثَلُ الْكَافِرِ؛ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ الْمُجْذِيَةِ عَلَى أَصْلِهَا لَا يُفِيئُهَا شَيْء, حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً رواه البخاري عن :عن كَعْب بن مالك .
فإذا تـعـرض الـمـسلم للمصائب والمحن بقدر من الله ولحكمة يريدها الله ، فلابد أن يصبر ويتقي الله ، وبعدهـا يؤتي الله نصره من يشاء ، وعندما يتعرض المسلمون للمحن والرزايا فلاشك أن في ذلك فوائـد كثـيـرة يريدهــا الله ، كتمحيص الصفوف ومعرفة الصابرين المجاهدين ، والدخلاء الذين هم غثاء كغثاء السيل .
ثالثا : مفهوم التضرع لغة وإصطلاحا ،
وذكره في القرآن الكريم والسنة المطهرة :
أ - التضرع لغة :
من ضرع فلان لفلان وضرع له، إذا ما تخشَّع له وسأله أن يعطيه.
ب - والتضرع اصطلاحاً :
هو التذلل والمبالغة في السؤال والرغبة .
وقال صاحب البصائر : التضرع معناه التذلل في الدعاء ، قال تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا } الأعراف: ٥٥ ، أي مظهرين الضراعة وهي شدة الفقر إلى الله تعالى وحقيقته الخشوع .
ج - التضرع في القرآن الكريم :
1- قول الله تعالى: " ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " الأعراف: 55 .
2- قوله تعالى: " وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ " الأعراف : 205 .
3- قوله تعالى : " قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ " الأنعام: 40- 45 .
4 - قوله تعالى" قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ" الأنعام: 63- 64 .
5 - قول الله تعالى: " وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ " المؤمنون:76 .
6 , قوله تعالى: " وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ " الأعراف : 94 .
ء - التضرع في السنة المطهرة :
1- عن الفضل بن عبّاس - رضي اللّه عنهما - أنّه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : "الصّلاة مثنى مثنى، تشهّد في كلّ ركعتين وتخشّع ، وتضرّع ، وتمسكن ، وتذرّع وتقنع يديك - يقول : ترفعهما إلى ربّك مستقبلا ببطونهما وجهك - وتقول: يا ربّ يا ربّ! ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا " رواه الترمذي .
2 - عن أبي أمامة- رضي اللّه عنه- أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكّة ذهبا"، قلت: "لا يا ربّ، ولكن أشبع يوما، وأجوع يوما. وقال ثلاثا أو نحو هذا- فإذا جعت تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك " رواه الترمذي واللفظ له .
3 - عن ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- قال : كشف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم السّتارة والنّاس صفوف خلف أبي بكر، فقال : " أيّها النّاس! إنّه لم يبق من مبشّرات النّبوّة إلّا الرّؤيا الصّالحة، يراها المسلم أو ترى له، ألا وإنّي نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، فأمّا الرّكوع فعظّموا فيه الرّبّ- عزّ وجلّ- وأمّا السّجود فاجتهدوا في الدّعاء فقمن أن يستجاب لكم" رواه مسلم .
4 - عن عمر بن الخطّاب- رضي اللّه عنه- أنّه قال: لمّا كان يوم بدر، قال : نظر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أصحابه وهم ثلثمائة ونيّف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم القبلة، ثمّ مدّ يديه وعليه رداؤه وإزاره، ثمّ قال : " اللّهمّ أين ما وعدتني، اللّهمّ أنجز ما وعدتني، اللّهمّ إنّك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا"، قال: فما زال يستغيث ربّه- عزّ وجلّ- ويدعوه حتّى سقط رداؤه: فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّه، ثمّ التزمه من ورائه، ثمّ قال: يا نبيّ اللّه، كفاك مناشدتك ربّك، فإنّه سينجز لك ما وعدك، وأنزل اللّه- عزّ وجلّ-: ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِين َ) الأنفال: 9 رواه أحمد .
رابعا : التضرع إلى الله سبيل النجاة :
إن من منازل العبد في سيره إلى الله افتقاره التامُّ إلى ربه الجليل، ويقينه أنه لا يكشف الضرّ عنه إلا هو، ولا يأتيه بالخير سواه، وهذا يدفعه إلى الاستسلام التام لربه سبحانه، وهذا من كمال توحيده وتمام إيمانه، وسلامة قلبه، قال الله تبارك وتعالى: { وَإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
يونس: 107 .
ولقد أخبرنا ربنا سبحانه في القرآن العظيم أن التضرع والدعاء الصادق يرفع العذاب ويرد البلاء ، فقال عن الأمم السابقة: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الأنعام: 42، 43 ؛
فالغاية من أخذ العباد بالبأساء والضراء أن يضرعوا إلى الله، ويرجعوا إليه، قال ابن القيم: «فالله يبتلي عبده ليسمع تضرعه ودعاءه والشكوى إليه، ولا يحب التجلد عليه ، وأحب ما إليه انكسار قلب عبده بين يديه، وتذلله له وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقلة صبره، فاحذر كل الحذر من إظهار التجلد عليه، وعليك بالتضرع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذل والضعف، فرحمته أقرب إلى هذا القلب من اليد للفم » .
خامسا : الرسول عليه الصلاة والسلام المتضرع الاول لله تعالى :
روى الترمزي عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ( عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا ، قُلْتُ : لَا يَا رَبِّ وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا - أَوْ قَالَ ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَ هَذَا - فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ )
وهكذا رفض صلى الله عليه وسلم التنعم والترف ورضي بالبلاء ليكون متضرعا خاشعا متذللا لربه تبارك وتعالى في كل أحواله ،
وهذه امثله لحالات لتضرعه صلى الله عليه وسلم وسائلها :
1 - تضرع محمد صلى الله عليه وسلم بقوله ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) حين اجتمع المشركون ليؤذوه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) قالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قيل له ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) رواه البخاري .
كان رسول الله يتضرع إلى الله بالتكبير عن رمي الجمرات في أيام التشريق بمنى .
2- تضرعه صلى الله عليه وسلم بالدعاء والتكبير والصلاة في يوم عيد دون أداء خطبة العيد :
عن ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- أنّه قال: " إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج متبذّلا متواضعا متضرّعا، حتّى أتى المصلّى، فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدّعاء والتّضرّع والتّكبير وصلّى ركعتين كما كان يصلّي في العيد " رواه الترمذي واللفظ له .
3 - عن عائشة- رضي اللّه عنها - أنّها قالت : " أفاض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من آخر يومه حين صلّى الظّهر ، ثمّ رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيّام التّشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشّمس، كلّ جمرة بسبع حصيات يكبّر مع كلّ حصاة، ويقف عند الأولى والثّانية، فيطيل القيام ويتضرّع ويرمي الثّالثة، ولا يقف عندها" رواه أبو داود .
سادسا : صور من تضرع الأنبياء السابقين حال مسهم الضر :
1- قول إبراهيم عليه السلام ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) مستغيثاُ من النار المتأججة التي اضطرمها قومه بإحراق بعد أن حطم أصنامهم :
لما تكافت قوى الكفر والطغيان على إبراهيم عليه السلام بعد أن حطم الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله فتشاوروا وتباحثوا و( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) وشرعوا بجمع الحطب من كل مكان فأشعلوا فيه النار فاضطرمت وتأججت والتهبت وعلاها شرر لم ير مثله قط ، ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق بعد أن قيدوه وكتفوه وأوثقوا رباطه ثم ألقوه في النار فقال وهو في هذه الكربة العظيمة والمحنة الكبيرة داعياً ربه متضرعاً إليه مستغيثاُ به ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) فاستجاب الله له ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) فما ضرته ولا آذته ولم تحرق سوى وثاقه الذي كان مشدوداً به .
البداية والنهاية لابن كثير .
2- قول يونس عليه السلام ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) حينما التقمه الحوت فصار في ظلمات ثلاث :
لما ذهب يونس عليه السلام مغاضباً التقمه الحوت فصار في ظلمات ثلاث : ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت لجأ إلى عالم السر والنجوى وكاشف البلوى سامع الأصوات وإن ضعفت وعالم الخفيات وإن دقت ومجيب الدعوات وإن عظمت فقال ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) فاستجاب الله دعاءه من قعر البحار وهو على عرشه واحد قهار فنجاه وفك كربته فقال(فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ).
قال أبو هريرة رضي الله عنه طرح بالعراء وأنبت الله عليه اليقطينة ـــ شجرة الدباء ـــ وهيأ الله له دابة تأكل من هشاش الأرض فكان يشرب من لبنها رحمة به ونعمة عليه وإحساناً إليه .
البداية والنهاية بتصرف يسير .
3 - قول أيوب عليه السلام ربِّ ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ردَّ الله عليه جسده ، ثم صب عليه المال وأخلف له أهله ومثلهم معهم :
لما ابتلى الله نبيه أيوب عليه السلام فسلبه كل ما حباه من نعمة المال والماشية والعبيد والأراضي والأهلين والأولاد ونزل بجسده أنواع الأسقام والأمراض ، ومكث على هذه الحال ثمانية عشرة سنة ،
وكان له أخوان فجاءا يوماً فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه فقاما من بعيد ، فقال أحدهما لصاحبه : لو كان الله علم من أيوب خيراً لما ابتلاه بهذا ،
فجزع عليه السلام من مقالهما فلجأ إلى ربه مسترحماً مستغيثاً وقال ربِّ ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ، فأوحى الله إليه (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ) فامتثل ما أمر به فأنبع الله له عيناً باردة الماء فشرب واغتسل وأذهب الله ما كان به من بلاء ظاهر وباطن وعاد على أحسن ما كان .
أورد ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله ألبسه حلة من حلل الجنة ، ثم تنحى من مكانه وجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه فقالت يا عبد الله هذا المبتلى الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب ؟ وجعلت تكلمه ساعة ، قال : ولعل أنا أيوب !! قالت أتسخر مني يا عبد الله ؟ فقال ويحك أنا أيوب قد ردَّ الله عليَّ جسدي ، ثم صب الله عليه المال صباً وأخلف له أهله ومثلهم معهم قال تعالى (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ) ،
قال ابن كثير: أي تذكرة لمن ابتلي في جسده أو ماله أو ولده فله أسوة بنبي الله أيوب حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه . البداية والنهاية بتصرف كبير .
4 - تضرع العلماء في عهد داود عليه السلام حين أصابهم القحط بنصوص التوراة :
قال يحيى الغسّانيّ - رحمه اللّه تعالى - : " أصاب النّاس قحط على عهد داود - عليه السّلام - فاختاروا ثلاثة من علمائهم فخرجوا حتّى يستسقوا بهم ،
فقال أحدهم : اللّهمّ إنّك أنزلت في توراتك أن نعفو عمّن ظلمنا، اللّهمّ إنّا ظلمنا أنفسنا فاعف عنّا،
وقال الثّاني: اللّهمّ إنّك أنزلت في توراتك أن نعتق أرقّاءنا ، اللّهمّ إنّا أرقّاؤك فأعتقنا ،
وقال الثّالث: اللّهمّ إنّك أنزلت في توراتك أن لا نردّ المساكين إذا وقفوا بأبوابنا ، اللّهمّ إنّا مساكينك ، وقفنا ببابك فلا تردّ دعاءنا ، فسقوا» " الأذكار ، للنووي .
سابعا : التضرع في الشعر العربي :
1- قال محمد بن أبي حازم
اضرع إلى اللهّ لا تَضْرعَ إلى النَّاس ***
واقْنَـــعْ بِيـأسٍ فـــإنّ العِـــزَّ في اليَــاس .
واستغنِ عن كل ذي قربى وذي ***
رَحِم إنّ الغَنِيَّ مَنِ استغنى عن الناس .
العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي1/330 .
2- قد أحسن من قال :
دواء قلبك خمس عند قسوته ***
فأذهب عليها تفز بالخير والظفر .
خلاء بطن وقرآن تدبره ***
كــذا تضرع بـــــاك ساعــة السحــر .
ثم التهجد جنح الليل أوسطه ***
وأن تجـــالس أهل الخير والخـــبر .
أعمال القلوب خالد السبت 1/ 27 .
3- رحم الله من قال:
تضرع في دجى الليل إلى مولاك يكفيكــا *** ولا تأمن هجوم الموت إن الموت يأتيكـا .
كـأني بالذي يهـواك في القـــبر يدليـكـــا ***
وقد أفردت في لحدك فردا بمساويكــا .
واسلمك الذي قد كان في الدنيا يصافيكا ***
فيا سؤلي ويا ذخري وكل الخلق راجيكــا .
ويا من ليس منا أحد يحصى أياديكـــا ***
تجــاوز عن مقــال ثم حــقق أمــلي فيكــا
بستان الواعظين ورياض السامعين لابن الجوزى .
#التضرع_في_زمن_البلاء
إعداد : محمد أبوغدير المحامي
مقدمة:
من سنن الله تعالى ان يصاب الإنسان بالبلاء كالفقر والضيق في العيش ، ويبتليه الله بالضَّرَّاءِ كالأمراض والأسقِام والآلام ، لكي يَتَضَرَّعَُ ويتمسكن إلى الله تعالى ويخشع له ويدعوه سبحانه .
ولقد نزل البلاء والكرب هذه الأيام بالناس - كل الناس - ، ولا نرى ما يقابله من التضرع والتذلل والانكسار المطلوب إلى الله تعالى في مثل هذه الظروف والأحوال العصيبة التي تمر بها الأمة.
قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) 42 ، 43 سورة الأنعام
وإذا كانت هذه الآية الكريمة تتحدث عن أقوام كذبوا رسلهم وأصروا على كفرهم حسب ما هو منصوص عليه في كتب التفسير، فإنها نبهت إلى شدة حاجة المسلمين اليوم إلى تدبرها والاتعاظ بها .
قد تكون هناك فئة قليلة من المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى بالليل والنهار ، ويتذللون بين يديه بالدعاء طالبين منه سبحانه أن يرفع المحنة ويكشف الغمة عن الأمة ، إلا أن العدد الأكبر من المسلمين غافلين عن هذه الوسيلة الناجعة في رفع البلاء والنصر على الأعداء.
ومن ثم وجب اللجوء إلى علام الغيوب إذا ضاقت الطرق وانقطعت السبل ، فطريق الله هو فقط الموصل إلى بر الأمان ، قال الله تعالى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ. ) .
والتضرع حال البلاء موضوع الساعة يستوجب بيان العناصر الآتية :
أولا : مفهوم البلاء والإبتلاء والفارق بينهما :
ثانيا : ثمرات البلاء :
ثالثا : التضرع من حيث مفهوم لغة وإصطلاحا :
وذكره في القرآن الكريم والسنة المطهرة
رابعا : التضرع إلى الله سبيل النجاة ،
خامسا : الرسول المتضرع الاول لله تعالى ،
سادسا : صور من تضرع الأنبياء السابقين ،
سابعا : التضرع في الشعر العربي ،
وبيان هذه العناصر في الآتي :
أولا : مفهوم البلاء والإبتلاء
والفارق بينهما :
قال تعالى : " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا "،
لذلك فإن الإنسان في امتحان مستمر بالخير والشر وبالنعمة والنقمة لاختبار مدى قدرة الإنسان على التحمّل، فهو في هذه الحياة الدنيا محل اختبار وامتحان ووسيلة ذلك هو البلاء والإبتلاء ، والبلاء رغم شدته وقسوته له وجه مشرق هي ثمراته التي يجنيها المرء من المحنة .
ومن ثم وجب تعريف كل من البلاء والإبتلاء والفرق بينهما ، وبيان ذلك في الآتي :
أ - تعريف البلاء :
البلاء هو :
المحن والمصاعب التي تصيب عموم الناس المسلمون منهم والكافرون ويكون بمثابة العقاب الذي يرسله الله سبحانه عليهم لظلمهم .
قال الله تعالى : ” ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبراها إن ذلك على الله يسيرا ”.
ب - تعريف الإبتلاء :
الإبتلاء هو :
الإختبار والإمتحان الذي يخص المؤمنون الذين يقعون في المعصية ، فإذا احتسبه عند الله وصبر عليه فجزاءه حسنة في الدنيا ، وجنات في الآخرة .
قال الله تعالى : “ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين”.
ج - بيان الفرق البلاء والإبتلاء :
الإبتلاء عادةً ما يكون للإنسان المؤمن والصالح لإختبار درجة إيمانه وصبره على حكم الله وهنا يكون الإبتلاء بمثابة الإمتحان أو الإختبار الذي يجازى الإنسان عنه خيرا إن شاء الله.
أما البلاء هنا فيقع على عموم الناس المسلمون منهم والكافرون وهو العقاب الذي يرسله الله سبحانه وتعالى للناس الظالمين .
والإبتلاء أقل عموم وشمول من البلاء لأنه يخص فقط المؤمنين الذين قد يقعون في المعصية ومع ذلك يتذكرون الله ولا يبتعدون ، فيحب الله عز وجل أن يردهم إليه مرة أخرى فيعطيهم الله الابتلاء حتى يمحو ذنوبهم وينقيهم منها .
ثانيا : ثمرات البلاء :
رغم ما يترد اليوم عبر وسائل الإعلام الراصدة لتحركات “ كورونا ” أن هذا الفيروس عدو للبشرية ، إلا أن المسلم الواعى يرى أن للبلاء وجه مشرق هو ثمرات يجنيها المرء من المحنة والتي تتمثل في الآتي :
1. تمييز الخبيث من الطيب :
مصداقا لقوله تعالى: { ما كان الله ليَذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } آل عمران : 179.
فكشف البلاء الفارق الجلي بين افراد الجماعة المؤمنة سواء في معركة أحد ،أو في حادثة الإفك، أو غيرها من الوقائع المتعددة التي حددت مواطن الخبث في كيان المجتمع الإسلامي آنذاك.
2 . كشف تفاوت همم الناس :
من حيث حقيقة سعيهم ، ومنسوب التدين الذي يحكم سلوكهم الخاص والعام ، يقول الحسن البصري : “ الناس في العافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقيقتهم ”.
فالبلاء مؤشر على مدى تشبع النفس البشرية بالحس التضامني الذي تفرضه مبادئ الأخوة الإيمانية، والبنيان المرصوص، والجسد الواحد الذي تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر .
3. تحقيق معنى الإنابة :
وذلك بالرجوع إلى الله تعالى والانكسار له، والتحرر من قيد الغفلة والشهوات التي لها أثرا عجيبا يهز مشاعر الإنسان من داخله، ويوقظ حسه المفعم بالولاء للأسباب .
كما أن الإنابة تكسر حدة العجب والكبر الذي ينتاب الإنسان حال الاستقرار والعافية. وتُذكره بعجزه عن الاستقلال بذاته وإمكاناته في مواجهة صنوف البلاء التي تعترض مسيرته ووجوده .
4. الانتباه إلى المسافة الفاصلة بين المجتمع المسلم وبقية المجتمعات الأخرى :
وذلك من حيث مستوى الفهم والتقدير بشان رضى المؤمن بما يصيبه، وإذعانه لمراد الله تعالى وابتلائه، وما يُرسخ في النفس قناعة بأن كل صنوف البلاء مأمورة، و أن الاجتهاد لدفع آثارها لا يجب أن يوقع المسلم في دائرة الفزع والذعر الذي يَذهل بسببه عن مقتضى العبودية ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال َ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ؛ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِن الزَّرْعِ, تُفِيئُهَا الرِّيحُ تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ, وَمَثَلُ الْكَافِرِ؛ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ الْمُجْذِيَةِ عَلَى أَصْلِهَا لَا يُفِيئُهَا شَيْء, حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً رواه البخاري عن :عن كَعْب بن مالك .
فإذا تـعـرض الـمـسلم للمصائب والمحن بقدر من الله ولحكمة يريدها الله ، فلابد أن يصبر ويتقي الله ، وبعدهـا يؤتي الله نصره من يشاء ، وعندما يتعرض المسلمون للمحن والرزايا فلاشك أن في ذلك فوائـد كثـيـرة يريدهــا الله ، كتمحيص الصفوف ومعرفة الصابرين المجاهدين ، والدخلاء الذين هم غثاء كغثاء السيل .
ثالثا : مفهوم التضرع لغة وإصطلاحا ،
وذكره في القرآن الكريم والسنة المطهرة :
أ - التضرع لغة :
من ضرع فلان لفلان وضرع له، إذا ما تخشَّع له وسأله أن يعطيه.
ب - والتضرع اصطلاحاً :
هو التذلل والمبالغة في السؤال والرغبة .
وقال صاحب البصائر : التضرع معناه التذلل في الدعاء ، قال تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا } الأعراف: ٥٥ ، أي مظهرين الضراعة وهي شدة الفقر إلى الله تعالى وحقيقته الخشوع .
ج - التضرع في القرآن الكريم :
1- قول الله تعالى: " ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " الأعراف: 55 .
2- قوله تعالى: " وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ " الأعراف : 205 .
3- قوله تعالى : " قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ " الأنعام: 40- 45 .
4 - قوله تعالى" قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ" الأنعام: 63- 64 .
5 - قول الله تعالى: " وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ " المؤمنون:76 .
6 , قوله تعالى: " وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ " الأعراف : 94 .
ء - التضرع في السنة المطهرة :
1- عن الفضل بن عبّاس - رضي اللّه عنهما - أنّه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : "الصّلاة مثنى مثنى، تشهّد في كلّ ركعتين وتخشّع ، وتضرّع ، وتمسكن ، وتذرّع وتقنع يديك - يقول : ترفعهما إلى ربّك مستقبلا ببطونهما وجهك - وتقول: يا ربّ يا ربّ! ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا " رواه الترمذي .
2 - عن أبي أمامة- رضي اللّه عنه- أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكّة ذهبا"، قلت: "لا يا ربّ، ولكن أشبع يوما، وأجوع يوما. وقال ثلاثا أو نحو هذا- فإذا جعت تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك " رواه الترمذي واللفظ له .
3 - عن ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- قال : كشف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم السّتارة والنّاس صفوف خلف أبي بكر، فقال : " أيّها النّاس! إنّه لم يبق من مبشّرات النّبوّة إلّا الرّؤيا الصّالحة، يراها المسلم أو ترى له، ألا وإنّي نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، فأمّا الرّكوع فعظّموا فيه الرّبّ- عزّ وجلّ- وأمّا السّجود فاجتهدوا في الدّعاء فقمن أن يستجاب لكم" رواه مسلم .
4 - عن عمر بن الخطّاب- رضي اللّه عنه- أنّه قال: لمّا كان يوم بدر، قال : نظر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أصحابه وهم ثلثمائة ونيّف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم القبلة، ثمّ مدّ يديه وعليه رداؤه وإزاره، ثمّ قال : " اللّهمّ أين ما وعدتني، اللّهمّ أنجز ما وعدتني، اللّهمّ إنّك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا"، قال: فما زال يستغيث ربّه- عزّ وجلّ- ويدعوه حتّى سقط رداؤه: فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّه، ثمّ التزمه من ورائه، ثمّ قال: يا نبيّ اللّه، كفاك مناشدتك ربّك، فإنّه سينجز لك ما وعدك، وأنزل اللّه- عزّ وجلّ-: ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِين َ) الأنفال: 9 رواه أحمد .
رابعا : التضرع إلى الله سبيل النجاة :
إن من منازل العبد في سيره إلى الله افتقاره التامُّ إلى ربه الجليل، ويقينه أنه لا يكشف الضرّ عنه إلا هو، ولا يأتيه بالخير سواه، وهذا يدفعه إلى الاستسلام التام لربه سبحانه، وهذا من كمال توحيده وتمام إيمانه، وسلامة قلبه، قال الله تبارك وتعالى: { وَإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
يونس: 107 .
ولقد أخبرنا ربنا سبحانه في القرآن العظيم أن التضرع والدعاء الصادق يرفع العذاب ويرد البلاء ، فقال عن الأمم السابقة: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الأنعام: 42، 43 ؛
فالغاية من أخذ العباد بالبأساء والضراء أن يضرعوا إلى الله، ويرجعوا إليه، قال ابن القيم: «فالله يبتلي عبده ليسمع تضرعه ودعاءه والشكوى إليه، ولا يحب التجلد عليه ، وأحب ما إليه انكسار قلب عبده بين يديه، وتذلله له وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقلة صبره، فاحذر كل الحذر من إظهار التجلد عليه، وعليك بالتضرع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذل والضعف، فرحمته أقرب إلى هذا القلب من اليد للفم » .
خامسا : الرسول عليه الصلاة والسلام المتضرع الاول لله تعالى :
روى الترمزي عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ( عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا ، قُلْتُ : لَا يَا رَبِّ وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا - أَوْ قَالَ ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَ هَذَا - فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ )
وهكذا رفض صلى الله عليه وسلم التنعم والترف ورضي بالبلاء ليكون متضرعا خاشعا متذللا لربه تبارك وتعالى في كل أحواله ،
وهذه امثله لحالات لتضرعه صلى الله عليه وسلم وسائلها :
1 - تضرع محمد صلى الله عليه وسلم بقوله ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) حين اجتمع المشركون ليؤذوه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) قالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قيل له ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) رواه البخاري .
كان رسول الله يتضرع إلى الله بالتكبير عن رمي الجمرات في أيام التشريق بمنى .
2- تضرعه صلى الله عليه وسلم بالدعاء والتكبير والصلاة في يوم عيد دون أداء خطبة العيد :
عن ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- أنّه قال: " إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج متبذّلا متواضعا متضرّعا، حتّى أتى المصلّى، فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدّعاء والتّضرّع والتّكبير وصلّى ركعتين كما كان يصلّي في العيد " رواه الترمذي واللفظ له .
3 - عن عائشة- رضي اللّه عنها - أنّها قالت : " أفاض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من آخر يومه حين صلّى الظّهر ، ثمّ رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيّام التّشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشّمس، كلّ جمرة بسبع حصيات يكبّر مع كلّ حصاة، ويقف عند الأولى والثّانية، فيطيل القيام ويتضرّع ويرمي الثّالثة، ولا يقف عندها" رواه أبو داود .
سادسا : صور من تضرع الأنبياء السابقين حال مسهم الضر :
1- قول إبراهيم عليه السلام ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) مستغيثاُ من النار المتأججة التي اضطرمها قومه بإحراق بعد أن حطم أصنامهم :
لما تكافت قوى الكفر والطغيان على إبراهيم عليه السلام بعد أن حطم الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله فتشاوروا وتباحثوا و( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) وشرعوا بجمع الحطب من كل مكان فأشعلوا فيه النار فاضطرمت وتأججت والتهبت وعلاها شرر لم ير مثله قط ، ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق بعد أن قيدوه وكتفوه وأوثقوا رباطه ثم ألقوه في النار فقال وهو في هذه الكربة العظيمة والمحنة الكبيرة داعياً ربه متضرعاً إليه مستغيثاُ به ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) فاستجاب الله له ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) فما ضرته ولا آذته ولم تحرق سوى وثاقه الذي كان مشدوداً به .
البداية والنهاية لابن كثير .
2- قول يونس عليه السلام ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) حينما التقمه الحوت فصار في ظلمات ثلاث :
لما ذهب يونس عليه السلام مغاضباً التقمه الحوت فصار في ظلمات ثلاث : ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت لجأ إلى عالم السر والنجوى وكاشف البلوى سامع الأصوات وإن ضعفت وعالم الخفيات وإن دقت ومجيب الدعوات وإن عظمت فقال ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) فاستجاب الله دعاءه من قعر البحار وهو على عرشه واحد قهار فنجاه وفك كربته فقال(فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ).
قال أبو هريرة رضي الله عنه طرح بالعراء وأنبت الله عليه اليقطينة ـــ شجرة الدباء ـــ وهيأ الله له دابة تأكل من هشاش الأرض فكان يشرب من لبنها رحمة به ونعمة عليه وإحساناً إليه .
البداية والنهاية بتصرف يسير .
3 - قول أيوب عليه السلام ربِّ ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ردَّ الله عليه جسده ، ثم صب عليه المال وأخلف له أهله ومثلهم معهم :
لما ابتلى الله نبيه أيوب عليه السلام فسلبه كل ما حباه من نعمة المال والماشية والعبيد والأراضي والأهلين والأولاد ونزل بجسده أنواع الأسقام والأمراض ، ومكث على هذه الحال ثمانية عشرة سنة ،
وكان له أخوان فجاءا يوماً فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه فقاما من بعيد ، فقال أحدهما لصاحبه : لو كان الله علم من أيوب خيراً لما ابتلاه بهذا ،
فجزع عليه السلام من مقالهما فلجأ إلى ربه مسترحماً مستغيثاً وقال ربِّ ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ، فأوحى الله إليه (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ) فامتثل ما أمر به فأنبع الله له عيناً باردة الماء فشرب واغتسل وأذهب الله ما كان به من بلاء ظاهر وباطن وعاد على أحسن ما كان .
أورد ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله ألبسه حلة من حلل الجنة ، ثم تنحى من مكانه وجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه فقالت يا عبد الله هذا المبتلى الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب ؟ وجعلت تكلمه ساعة ، قال : ولعل أنا أيوب !! قالت أتسخر مني يا عبد الله ؟ فقال ويحك أنا أيوب قد ردَّ الله عليَّ جسدي ، ثم صب الله عليه المال صباً وأخلف له أهله ومثلهم معهم قال تعالى (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ) ،
قال ابن كثير: أي تذكرة لمن ابتلي في جسده أو ماله أو ولده فله أسوة بنبي الله أيوب حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه . البداية والنهاية بتصرف كبير .
4 - تضرع العلماء في عهد داود عليه السلام حين أصابهم القحط بنصوص التوراة :
قال يحيى الغسّانيّ - رحمه اللّه تعالى - : " أصاب النّاس قحط على عهد داود - عليه السّلام - فاختاروا ثلاثة من علمائهم فخرجوا حتّى يستسقوا بهم ،
فقال أحدهم : اللّهمّ إنّك أنزلت في توراتك أن نعفو عمّن ظلمنا، اللّهمّ إنّا ظلمنا أنفسنا فاعف عنّا،
وقال الثّاني: اللّهمّ إنّك أنزلت في توراتك أن نعتق أرقّاءنا ، اللّهمّ إنّا أرقّاؤك فأعتقنا ،
وقال الثّالث: اللّهمّ إنّك أنزلت في توراتك أن لا نردّ المساكين إذا وقفوا بأبوابنا ، اللّهمّ إنّا مساكينك ، وقفنا ببابك فلا تردّ دعاءنا ، فسقوا» " الأذكار ، للنووي .
سابعا : التضرع في الشعر العربي :
1- قال محمد بن أبي حازم
اضرع إلى اللهّ لا تَضْرعَ إلى النَّاس ***
واقْنَـــعْ بِيـأسٍ فـــإنّ العِـــزَّ في اليَــاس .
واستغنِ عن كل ذي قربى وذي ***
رَحِم إنّ الغَنِيَّ مَنِ استغنى عن الناس .
العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي1/330 .
2- قد أحسن من قال :
دواء قلبك خمس عند قسوته ***
فأذهب عليها تفز بالخير والظفر .
خلاء بطن وقرآن تدبره ***
كــذا تضرع بـــــاك ساعــة السحــر .
ثم التهجد جنح الليل أوسطه ***
وأن تجـــالس أهل الخير والخـــبر .
أعمال القلوب خالد السبت 1/ 27 .
3- رحم الله من قال:
تضرع في دجى الليل إلى مولاك يكفيكــا *** ولا تأمن هجوم الموت إن الموت يأتيكـا .
كـأني بالذي يهـواك في القـــبر يدليـكـــا ***
وقد أفردت في لحدك فردا بمساويكــا .
واسلمك الذي قد كان في الدنيا يصافيكا ***
فيا سؤلي ويا ذخري وكل الخلق راجيكــا .
ويا من ليس منا أحد يحصى أياديكـــا ***
تجــاوز عن مقــال ثم حــقق أمــلي فيكــا
بستان الواعظين ورياض السامعين لابن الجوزى .