الأربعاء، 21 مارس 2012

الوصال بين القلب والقرآن كيف يحدث ؟!

الوصال بين القلب والقرآن كيف يحدث ؟!

ملخص الفصل السابع من كتاب
( تحقيق الوصال بين القلب والقرآن )
للأستاذ مجدي الهلالي
إعداد / محمد أبوغدير

لقد توارثت الأمة - جيلا بعد جيل- تعاملاَ خاطئاَ مع القرآن، ورسخ في الأذهان أن غاية المطلوب منه هو إتقان تلاوته، وحفظ حروفه، وكثرة قراءته لتحصيل الأجر والبركة دون ربط هذا كله بمعانيه.. مع أن النصوص القرآنية واضحة الدلالة بأن المقصود من قراءة القرآن: فهمة وتدبره، والعمل به، وأن من حفظه ولم يفهمه، ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم ، فما الحل إذن وغالبية المسلمين لم يعودوا يدركون قيمة القرآن الحقيقية.
هناك خمسة محاور ينبغي أن نسير فيها مجتمعه حتى يتحقق لنا ـ بمشيئة الله ـ الوصال بين القلب والقرآن ، وإليك أخي الحبيب بيان هذه المحاور:
المحور الأول : الإيمان بقيمة القرآن وبالهدف من نزوله
إذا ما شخَّصنا حالنا مع القرآن، وبحثنا عن السبب الرئيس لهذا الوضع الشاذ لوجدناه نابعًا من ضعف الإيمان بقيمة القرآن وقدرته الفذة على إنشاء الإيمان وإحداث التغيير.
يقول عبد الله بن عمر: لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتي الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد  فنتعلم حلالها وحرامها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تتعلمون أنتم القرآن اليوم، ولقد رأيت اليوم رجالاً يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته ما يدري ما آمره، ولا زاجره، وما ينبغي أن يوقف عنده، وكل حرف ينادي: أنا رسول الله إليك لتعمل بي، وتتعظ بمواعظي.

وذلك الإيمان هو الذي دفع الصحابة رضوان الله عليهم لتحقيق النصيحة لكتاب الله على ذلك الوجه، فكانوا فور نزول السورة أو الآية يبادرون لتعلمها والعمل بها، كما قال ابن عمر: وتنزل السورة على محمد  فنتعلم حلالها وحرامها وما ينبغي أن نقف عنده منها.
إن الإيمان بقيمة الشيء – أي شيء – هو الذي يولد الانبهار به، والاستسلام له، وفتح منافذ الاستماع والتلقي منه، و العكس صحيح فعدم الإيمان بالشيء يدفع لإغلاق منافذ الاستماع له، وعدم الاكتراث به.
فإن لم يزدد الإيمان بقيمة القرآن، وبالهدف من نزوله، وبأنه قادر – بإذن الله – على انتشالنا من الوحل الذي نغوص فيه. فكلما ازداد الإيمان: ازداد التلهف للإقبال عليه، والاستسلام له، والانجذاب نحوه، والانشغال به.
يقول الإمام البخاري: لا يجد طعم القرآن إلا من آمن به.
المحور الثاني : تقوية الرغبة والدافع للانتفاع الحقيقي بالقرآن
من أهم الخطوات في طريق العودة إلى القرآن وتوجيه القلب نحو أنواره : هي زيادة الثقة فيه والتعرف على قيمته الحقيقية، وكيف أنه قادر -بإذن الله- على إحياء قلوبنا وتغيير ما بأنفسنا، والتعرف كذلك على العقبات التي تواجهنا في طريق العودة إليه وكيفية اجتيازها، مع تصحيح المفاهيم الخاطئة التي رسخت في الأذهان عن كيفية التعامل معه.. وكلما ازدادت الثقة في القرآن قويت الرغبة، واشتدت الحاجة، وتولد الدافع القوي للإقبال الصحيح عليه.
إن من سنة الله – تعالى – ونواميسه أنه لا يعطي إلا بالرغبة والسؤال، وللرغبة والسؤال عنده قيمة كبيرة، فالقلق على الوضع الراهن، وعدم الاقتناع به، والجهد للإصلاح والتغيير، والبحث عن الطريق هو أول خطوة عنده في سبيل السعادة .
لذلك فإن الخطوة الأولى والأساسية في طريق العودة إلى القرآن هي ترسيخ وتعميق الشعور بالرغبة الأكيدة والاحتياج الحقيقي إليه، وهذا يستلزم منا القراءة في بعض الكتب التي تناولت هذا الموضوع والإكثار منها في البداية؛ لتقوم بتغذية وتقوية مشاعر الرغبة وتأججها لينتج عنها دافع قوي ومستمر للإقبال الصحيح على القرآن.
ومن هذه الكتب: - أخلاق حملة القرآن لأبي بكر الآجرى - كيف نتعامل مع القرآن؟ لمحمد الغزالي - منهج السلف في العناية بالقرآن الكريم لبدر بن ناصر البدر. - مقومات التصور الإسلامي لسيد قطب. - مقدمة تفسير في ظلال القرآن لسيد قطب. - ما كتبه ابن القيم عن القرآن في كتب: زاد المعاد – الفوائد – مدارج السالكين – مفتاح دار السعادة...
المحور الثالث : صدق اللجوء إلى الله والإلحاح عليه لتيسير انتفاعنا بالقرآن:
لا بد أن نوقن بأن الذي سيفتح لنا قلوبنا ليحدث الوصال بينها وبين القرآن هو الله وحده لا شريك له ، فلا بد وأن يصدر أولاً القرار الإلهي بالوصال وإلا سيكون حالنا ، ولقد ربط الله سبحانه بين إمداده وعطائه للعبد، وبين مدى حرص هذا العبد واستعداده لتلقي هذا العطاء فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا [الجن: 14] ، وفي الحديث القدسي يقول تعالى: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم».
واعلم أن العزيمة على الرشد مبدأ الخير، فإن الإنسان قد يعلم الرشد وليس له عليه عزم ، فالخير كله منوط بالعزيمة الصادقة على الرشد، وهي الحملة الأولى التي تهزم جيوش الباطل، وتوجب الغلبة لجنود الحق، قال أبو حازم: إذا عزم العبد على ترك الآثام، أتته الفتوح.
واعلم – أخي – أن مفتاح الإجابة هو التضرع والحرقة واستشعار الاحتياج الماس لله عز وجل ، وتذكر - أخي - قوله : «إن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه».
ولنعلم جميعًا بأننا لو وصلنا لحالة الاضطرار والحرقة عند الدعاء مرات ومرات، فإن الباب – يقينًا – سيُفتح، والشيطان سيخنس، وشمس القرآن ستشرق في قلوبنا بنور ربها.
ومن أهم أوقات الإلحاح على الله ودعائه دعاء المضطر هو ذلك الوقت الذي يسبق قراءة القرآن، فالإلحاح الحار في هذا الوقت من شأنه أن يهيئ القلب لاستقبال القرآن استقبالاً صحيحًا ، فكما يقول تعالى: وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ  فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر: 13، 14].
المحور الرابع : تجارب ونصائح المصلحين لفهم وترتيل القرآن
وقبل أن نتحدث عن الوسائل العملية المعينة على الفهم والتأثر بالقراءة ننقل إليك – أخي القارئ- بعض تجارب ونصائح المصلحين في هذا الشأن.
محمد إقبال: يقول أبو الحسن الندوي: لقد كانت قراءة محمد إقبال للقرآن قراءة تختلف عن قراءة الناس، ولهذه القراءة الخاصة فضل كبير في تذوقه للقرآن، واستطعامه إياه.
وقد حكى قصته لقراءة القرآن. قال: «قد كنت تعمدت أن أقرأ القرآن بعد صلاة الصبح كل يوم، وكان أبي يراني، فيسألني: ماذا أصنع؟ فأجيبه: أقرأ القرآن، وظل على ذلك ثلاث سنوات متتاليات يسألني سؤاله، فأجيبه جوابي، وذات يوم قلت له: ما بالك يا أبي! تسألني نفس السؤال وأجيبك جوابًا واحدًا، ثم لا يمنعك ذلك عن إعادة السؤال من غدٍ؟ فقال: إنما أردت أن أقول لك: يا ولدي؛ اقرأ القرآن كأنما نُزَّل عليك. ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفهم القرآن وأقبل عليه، فكان من أنواره ما اقتبست، ومن درره ما نظمت» .
من وصايا الإمام حسن البنا في كيفية الانتفاع بالقرآن: «واجتهد أن تقرأ في الصلاة وغيرها على مُكث وتمهُّل، وخشوع وتذلل، وأن تقف على رؤوس الآيات، وتعطي التلاوة حقها من التجويد والنغمات، من غير تكلف ولا تطريب، أو اشتغال بالألفاظ عن المعاني، مع رفع الصوت المعتدل في التلاوة العادية أو الصلاة الجهرية، فإن ذلك يُعين على الفهم، ويثير ما غاص من شآبيب الدمع، وما نفع القلب شيء أفضل من تلاوة في تدبر وخشوع».
أما سيد قطب -رحمه الله- فقد تحدث كثيرًا عن القرآن وكيفية الانتفاع به، فمن أقواله: إن هذا القرآن ينبغي أن يقرأ، وأن يُتلقى من أجيال الأمة المسلمة بوعي، وينبغي أن يُتدبر على أنه توجيهات حية، تتنزل اليوم، ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأه لنلتمس عنده توجيهات حياتنا الواقعة في يومنا وفي غدنا، كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تتلقاه لتلتمس عنده التوجيه الحاضر في شؤون حياتها الواقعة..
وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد. وسنجد فيه عجائب لا تخطر على البال الساهي! سنجد كلماته وعباراته وتوجيهاته حية تنبض وتتحرك وتشير إلى معالم الطريق.. وتقول لنا حديثا طويلاً مفصلاً دقيقًا في كل ما يعرض لنا من الشؤون .. وسنجد عندئذ في القرآن متاعًا وحياة، وسندرك معنى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24].
ويتحدث الندوي عن تجربته مع القرآن فيقول: ينبغي على القارئ أن يشتغل بالقرآن – قدر المستطاع – مباشرة بدون وساطة، ويتلو متنه أكثر ما يمكن، ويستمتع بقراءته، ويتذوق ويتدبر في معانيه، فإذا كان القارئ قد حصَّل من العربية ما يحتاج إليه، وتمكن من فهم القرآن الكريم مباشرة، فعليه بقراءته وفهمه مباشرة، وإلا فليرجع إلى الحواشي والملاحظات التفسيرية المختصرة، ويحاول تلاوة القرآن الكريم، وفهمه وتدبره وتذوقه من دون اعتماد وتعويل دائم على تفسير إنساني ومراجعة كثيرة لكتب التفاسير، ويكتفي بذلك إلى مدةٍ ما من الزمن، ويحمد الله - تعالى - على ما يفتحه عليه من فهم كتابه، وما يوفق إليه من تلاوته، حمدًا كثيرًا .
المحور الخامس: وسائل عملية معينة على الانتفاع بالقرآن:
يبقى ـ أيها الأخ الحبيب ـ الحديث عن الوسائل المعينة لتحقيق الوصال بين القلب والقرآن بصورة عملية، نذكرها هنا باختصار:
• : الإلحاح على الله عز وجل بأن يفتح قلوبنا لأنوار كتابه، وأن يكرمنا ويعيننا على التدبر والتأثر، ولقد تقدم الحديث عن أهمية الإلحاح على الله في المحور الثاني، ونعيد ذكره هنا باعتبار أن القيام به أمر ضروري قبل الشروع في تلاوة القرآن وذلك لأهميته وفائدته العظيمة في استثارة مشاعر الرغبة في الانتفاع بالقرآن، وتهيئة القلب لاستقباله.
• : الإكثار من تلاوة القرآن، وإطالة فترة المكث معه، وعدم قطع القراءة بأي أمر من الأمور -ما أمكن ذلك- حتى لا نخرج من جو القرآن، وسلطان الاستعاذة، خاصة في البداية، ويُفضل أن يكون اللقاء بالقرآن في مكان هادئ -قدر المستطاع- وبعيدًا عن الضوضاء ليساعد المرء على التركيز وعدم شرود الذهن، ولا ننسى الوضوء والسواك قبل القراءة فهي أيضًا من المعينات.
• : القراءة من المصحف وبصوت مسموع وبترتيل: فالترتيل له وظيفة كبيرة في الطَّرْق على المشاعر ومن ثمَّ استثارتها وتجاوبها مع الفهم الذي سيولده التدبر، لينشأ بذلك الإيمان حينما يتعانق الفهم مع التأثر ، وهنا تبرز أهمية تعلم أحكام التلاوة حتى تتحقق الفائدة من الترتيل. فلا بد وأن يجتهد كل منا في تعلم أحكام التلاوة والنطق الصحيح للآيات في أسرع وقت حتى يتسنى له الانتفاع بالقرآن.
• : القراءة الهادئة الحزينة: علينا ونحن نرتل القرآن، أن نُعطي الحروف والغُنَّات والمدود حقها حتى يتيسر لنا معايشة الآيات وتدبرها والتأثر بها، وعلينا كذلك أن نقرأ القرآن بصوت حزين لاستجلاب التأثر.
• : الفهم الإجمالي للآيات من خلال إعمال العقل في تفهم الخطاب، وهذا يستلزم منا التركيز التام مع القراءة. وليس معنى إعمال العقل في تفهم الخطاب أن نقف عند كل كلمة ونتكلف في معرفة معناها وما وراءها، بل يكفي المعنى الإجمالي الذي تدل عليه الآية حتى يتسنى لنا الاسترسال في القراءة ومن ثمَّ التصاعد التدريجي لحركة المشاعر فتصل إلى التأثر والانفعال في أسرع وقت.
• : الاجتهاد في التعامل مع القرآن كأنه أنزل عليك، وكأنك المخاطب به، والاجتهاد كذلك في التفاعل مع هذا الخطاب من خلال الرد على الأسئلة التي تتضمنها الآيات، والتأمين عند مواضع الدعاء، .. وهكذا.
• : تكرار وترديد الآية أو الآيات التي حدث معها تجاوب وتأثر قلبي حتى يتسنى للقلب الاستزادة من النور الذي يدخل، والإيمان الذي ينشأ في هذه اللحظات، ويستمر ترديد وتكرار تلك الآية أو الآيات حتى يتوقف التأثر والانفعال، فكما قيل: الآية مثل التمرة كلما مضغتها، استخرجت حلاوتها.
ولا بأس من وجود تفسير مختصر بجوارنا لجلاء شبهة أو معرفة معنى دق علينا فهمه، وإن كان من الأفضل الرجوع إليه بعد انتهاء القراءة حتى لا نخرج من جو القرآن والانفعالات الوجدانية التي نعيش في رحابها إلا إذا ألحت علينا كلمة نريد معرفة معناها في الحال.
.. فإن داومنا على هذه الوسائل – أخي القارئ – وثابرنا عليها وسرنا بها جنبا إلى جنب مع المحورين السابقين (تقوية الرغبة والإلحاح على الله)، فلنبشر جميعًا بقرب شروق شمس القرآن على قلوبنا لتبدأ معها حياة جديدة تكسوها السكينة والطمأنينة، وروح جديدة وثابة تواقة لفعل الخير، وأهم من هذا كله التجلبب بجلباب العبودية، والرضا بالله ربا، والاكتفاء به، والاستغناء عن الناس.
.. كل هذا، من الثمار العظيمة ينتظرنا جميعًا إن نحن أحسَنَّا الإقبال على القرآن وداومنا على ذلك.

ملخص الفصل السابع من كتاب
( تحقيق الوصال بين القلب والقرآن )
للأستاذ مجدي الهلالي
إعداد / محمد أبوغدير

الثلاثاء، 6 مارس 2012

النموذج العملي والدفعة الأولى لمدرسة القرآن للأستاذ / مجدي الهلالي

النموذج العملي
والدفعة الأولى لمدرسة القرآن


الفصل الخامس من كتاب : تحقيق الوصال بين القلب والقرآن
للأستاذ / مجدي الهلالي


الدفعة الأولى

ذاق صحابة رسول الله  حلاوة الإيمان من خلال القرآن، وأدركوا قيمته وقدرته الفذة على التغيير وبث الروح، فأقبلوا عليه، وانشغلوا به، وأعطوه الكثير من أوقاتهم، وانجذبت مشاعرهم نحوه عند لقائهم به لدرجة الاستغراق والهيمنة، حتى أصبحوا لا يملكون دمعهم حين يبدأون التلاوة، بل إن بعضهم كان يمرض من شدة أثر القرآن عليه، والبعض الآخر كانت الأنوار تشاهد في داره عند قراءته، والكثير منهم كان يعيش مع آية من الآيات ساعات طوالاً يقرؤها ويكررها ويبكي، ولا يملُّ من ذلك.
وإليك أخي بعضًا من الأخبار التي وردت عن مظاهر تأثر الصحابة رضوان الله عليهم بالقرآن:
* في أثناء مرض الرسول  قال لمن حوله: «مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس».
فقالت عائشة: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه( ).
* وعن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء - بنت أبي بكر – كيف كان أصحاب رسول الله  إذا سمعوا القرآن؟ قالت: تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم كما نعتهم الله( ).
* وكان عمر بن الخطاب يمر بالآية فتخنقه، فيبقى في بيته أيامًا يُعاد، يحسبونه مريضًا( ).
* وفي يوم من الأيام قال بعض الصحابة لرسول الله : ألم تر ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح؟! قال: «فلعله قرأ بسورة البقرة»، فسُئل ثابت، فقال: قرأت سورة البقرة( ).
* وقال رجل من أهل مكة لمسروق – أحد التابعين-: هذا مقام أخيك تميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو كاد أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله، يركع ويسجد ويبكي أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ فلم يزل يرددها حتى أصبح( ).
* وهذا أسيد بن حضير يقول: لو أني أكون كما أكون محل حال من أحوال ثلاث لكنت من أهل الجنة وما شككت في ذلك: حين أقرأ القرآن أو أسمعه يُقرأ، وإذا سمعت خطبة رسول الله ، وإذا شهدت جنازة( ).
* وكان عباد بن بشر يقوم بحراسة المسلمين بعد أن عسكروا في مكان، وأخلدوا للنوم وهم في طريق عودتهم من غزوة ذات الرقاع، ولما وجد الجو هادئًا بدأ في الصلاة وقراءة القرآن، وفي أثناء ذلك لمحه أحد المشركين فأصابه بسهم فلم يتحرك من مكانه، بل نزعه وأكمل صلاته، ثم رماه بسهم ثان فنزعه وأكمل صلاته، ثم رماه بثالث فنزعه وركع وسجد وسلَّم وأيقظ صاحبه عمار بن ياسر، ولما سأله عمار لماذا لم توقظني منذ أول سهم؟ قال له: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها فلما تابع عليَّ الرمي ركعت فآذنتك، وأيم الله لولا أن أُضيَّع ثغرًا أمرني رسول الله  بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها( ).
.. لقد كان شعوره  بلذة القراءة، أشد بكثير من شعوره بالألم!!
.. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: لما نزلت +إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا" وأبو بكر الصديق قاعد فبكى حين أنزلت، فقال له رسول الله ×: ما يبكيك يا أبا بكر؟ قال: يبكيني هذه السورة( ).
.. وهذا أسيد بن حضير بينما كان يقرأ في الليل سورة البقرة وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس، فسكت فسكنت. فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكنت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف وكان ابنه يحيى قريبا منها، فأشفق أن تصيبه، فلما اجتره رفع رأسه في السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي ، فقال له: «اقرأ يا ابن الحضير، اقرأ يا ابن الحضير» قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبا، فرفعت رأسي فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظُلَّة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: «وتدري ما ذاك؟ «قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم»( ).
.. وعن البراء قال: قرأ رجل الكهف، وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته، فذكر ذلك للنبي  فقال: «اقرأ فلان! فإنها السكينة تنزلت عند القرآن، أو تنزلت للقرآن»( ).
.. وعن أبي غزية الأنصاري قال: كان رجل من الأنصار قائمًا يقرأ، فجاءت كهيئة القبة السوداء، فيها كهيئة الصلاصل، حتى أظلته، ففزع، ونفر فرسه، فانصرفت على فرسه فارتفعت، فلما أصبح أتى رسول الله  فذكر له ذلك، فقال له رسول الله : «تلك السكينة أَذِنَتْ القرآن حين سمعته، أما إنك لو ثبت رأيت منها عجبا»( ).
.. وروى الزهري أن عبد الله بن عباس كان يُقرئ عبد الرحمن بن عوف في خلافة عمر بن الخطاب.. قال عبد الله بن عباس: لم أر أحدًا يجد من القشعريرة ما يجد عبد الرحمن عند القراءة ( ).
.. ولما قدم أهل اليمن المدينة في زمن أبي بكر  فسمعوا القرآن، فجعلوا يبكون، فقال أبو بكر الصديق: هكذا كنا ثم قست القلوب( ).
.. عن عبيد بن عمير قال: صلى بنا عمر بن الخطاب  صلاة الفجر فافتتح سورة يوسف فقرأها حتى إذا بلغ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف: 84] بكى حتى انقطع فركع( ).
.. وهذا عبد الله بن مسعود يقول: إذا وقعت في (سور) آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن( ).
ومعنى أتأنق فيهن: أي أعُجب بهن وأستلذ بقراءتهن، وأتتبع محاسنهن( ).
.. وعن عبد الله بن أبي مليكة قال: صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة، فكان يصلي ركعتين، فإذا نزل قام شطر الليل، ويرتل القرآن حرفا حرفا، ويكثر في ذلك من التسبيح والنحيب( ).
الأثر المباشر للقرآن في سلوك الصحابة:
إذا أردت – أخي – أن تعرف قدر تأثير القرآن على قلوب الصحابة، وكيف أن معانيه قد استحوذت على مشاعرهم، وأصبحت تواجههم وتوجههم حيثما اتجهوا فانظر إلى آثار ذلك من الناحية العملية لترى كيف كان ذلك الأثر سريعا في إذعانهم للحق، ومبادرتهم لفعل الخير، وعدم التلكؤ أو التباطؤ تحت أي دعوى.
ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟!
.. فهذا أبو بكر الصديق  كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره، فلما قال مسطح ما قال في السيدة عائشة في حادثة الإفك، قال أبو بكر: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال في عائشة، ما قال. فأنزل الله: وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور: 22].
قال أبو بكر: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي.
فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها أبدًا ( ).
أعرض عن الجاهلين:
.. وهذا عمر بن الخطاب  يأتيه الحُر بن قيس وعمه عيينة بن حصن فيقول عيينة للخليفة عمر: هيَّ يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل. فغضب عمر حتى همَّ به، فقال له الحرُّ: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه  خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين.
يقول ابن عباس: والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله( ).
أقرضت ربي حائطي:
لما نزل قول الله تعالى: مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245].
قال أبو الدحداح: يا رسول الله!، وإن الله يريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح» قال: أرني يدك يا رسول الله! فناوله يده. قال: إني قد أقرضت ربي حائطي (بستان) فيه ستمائة نخلة.
وأم الدحداح فيه وعيالها، فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح. قالت لبيك. قال: أخرجي فقد أقرضته ربي – عز وجل – قالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح! ونقلت منه متاعها وصبيانها( ).
ثابت بن قيس من أهل الجنة:
عن أنس بن مالك  قال: لما نزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2].
كان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت، فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله ، وأنا من أهل النار، حبط عملي، وجلس في بيته حزينا ففقده رسول الله  فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقدك رسول الله ، مالك؟!
قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي، وأجهر له بالقول، حبط عملي، أنا من أهل النار.
فأتوا النبي  فأخبروه بما قال. فقال النبي : «لا بل هو من أهل الجنة».
قال أنس: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة. فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف، فجاء ثابت بن قيس بن شماس وقد تحنط ولبس كفنه، فقال: بئسما تعودون أقرانكم، فقاتلهم حتى قُتل ( ).
سمعًا لربي وطاعة:
عن معقل بن يسار قال: زوجت أختًا لي من رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأفرشتك، وأكرمتك، فطلقتها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبدًا، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا [البقرة: 231].
فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال: فزوجها إياه( ).
وفي رواية: فسمع ذلك معقل بن يسار فقال: سمعا لربي وطاعة، فدعا زوجها فزوجها إياه( ).
والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت:
عن زيد بن ثابت أن رسول الله  أملى عليه: لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ.
فجاء ابن أم مكتوم وهو يُملِّها علىَّ، قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت – وكان أعمى – فأنزل الله على رسوله  (غير أولى الضرر) ( ) أي: لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ [النساء: 195].
لا حاجة لي في أرضك:
نزل رجل من العرب على عامر بن ربيعة، فأكرم عامر مثواه، وكلم فيه رسول الله ، فجاء الرجل إليه بعد ذلك، فقال: إني استقطعت رسول الله × واديا ما في العرب أفضل منه، ولقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك.
فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ [الأنبياء: 1] ( ).
قرأت البارحة سورة براءة:
خرج عبد الرحمن بن يزيد مرة، وهو يريد أن يجاعل في بعث خرج عليه (الجُعل هو ما يُجعل للغازي إذا وجب على الإنسان غزو فجعل مكانه رجلاً آخر بجُعل يشترطه)، ثم أصبح فتجهز، فقيل له: ألم تكن أردت أن تجاعل؟ فقال: بلى، و لكن قرأت البارحة سورة براءة فسمعتها تحث على الجهاد( ).
وهذا أبو طلحة يقرأ سورة (براءة) فأتى على هذه الآية انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ [التوبة: 41] فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخًا وشبابًا جهزوني يا بني، فقال بنوه: يرحمك الله، قد غزوت مع رسول الله  حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى فركب البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير فدفنوه فيها( ).
زينوا القرآن بالفعال:
ولشحذ همم المسلمين قبل القتال كان الصحابة يقرؤون القرآن، ويذكِّرون بعضهم البعض بأخلاق القرآن.
قال هشام بن عروة كان شعار أصحاب رسول الله  ورضي عنهم يوم اليمامة: «يا أصحاب سورة البقرة»( ).
وقال أبو حذيفة يشحذ الهمم في ذلك اليوم المشهود: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال.
وكان الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة، بطل السحر اليوم( ).
ولما أخذ سالم مولى أبي حذيفة الراية بعد مقتل زيد بن الخطاب قال له المهاجرون: أتخشى أن نؤتي من قبلك؟ فقال: (بئس حامل القرآن أنا إذًا) ( ).
وفي القادسية وقبل بدء المعركة: صلى سعد بن أبي وقاص بالناس الظهر ثم خطب الناس فوعظهم وحثهم وتلا قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] وقرأ القرَّاء على الناس: آيات الجهاد وسوره( ).
وبعد انتهاء المعركة وانتصار المسلمين كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب كتابا يخبره فيه بالفتح، فكان مما فيه: .. وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القاري وفلان وفلان، ورجال من المسلمين لا يعلمهم إلا الله، فإنه بهم عالم .. كانوا يُدووّن بالقرآن إذا جن عليهم الليل كدوي النحل، وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود( )..
هذه الأجواء القرآنية جعلتهم يترفعون عن الدنيا وما فيها، وشمخت نفوسهم إلى الرضوان الأكبر لذلك كانوا آسادًا بالنهار لا تشبههم الأسود .. يقول جابر بن عبد الله: والله الذي لا إله إلا هو، ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة( ).
انشغال الصحابة بالقرآن ومحافظتهم على وردهم اليومي:
هذه الأمثلة الرائعة لأثر القرآن على سلوك الصحابة ما كانت لتظهر لولا حرص الصحابة على كثرة قراءة القرآن بتفهم وترتيل، فقد كان للواحد منهم حزب يومي من القرآن – قل أو كثر – لا يتكاسل عن القيام به.
فعن الحسن قال: «قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان : لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علىَّ يوم لا أنظر في المصحف، وما مات عثمان  حتى خرَّق مصحفه من كثرة ما كان يديم النظر فيه( ).
وعندما دخل عليه المعتدون ليقتلوه كان المصحف في حجره يقرأ فيه، فمدَّ يده فضُربت، فسال الدم، فقطرت قطرة على قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 137] ( ).
وعن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب  إذا دخل البيت نشر المصحف فقرأ فيه( ).
وقيل لنافع: ما كان يصنع ابن عمر – رضي الله عنهما – في منزله؟ قال: لا تطيقونه: الوضوء لكل صلاة، والمصحف بينهما( ).
.. وعن خيثمة قال: دخلت على عبد الله بن عمرو وهو يقرأ في المصحف فقلت له، فقال: هذا حزبي الذي أقرأ به الليلة( ).
.. وكان الحسن بن على يقرأ ورده من أول الليل، وحسينا كان يقرأه من آخر الليل( ).
.. وقالت عائشة: إني لأقرأ حزبي، أو قالت: سُبعي، وأنا جالسة على فراشي أو سريري( ).
.. وكان أبو موسى يقول: إني لأستحي أن أنظر كل يوم في عهد ربي عز وجل مرة( ).
.. وذات يوم قام عبد الرحمن بن عبد القارئ بزيارة عمر بن الخطاب في داره، فتركه عمر وحيدا لمدة طويلة، ثم أذن له بالدخول عليه، وقال له معللا ما فعل: إني كنت في قضاء وردي( ).
لقد كانت هناك مساحة معتبرة للقرآن في يومهم، لدرجة أن بعضهم كان يختمه في ثلاثة أيام والبعض في سبع، والبعض في عشر، مع التدبر والترتيل والتجاوب مع الآيات كما مر علينا، والذي ساعدهم على المداومة على ذلك هو استشعارهم لقيمة القرآن من ناحية، ولتحذيرات الرسول  المتكررة لهم بعدم الانشغال بغيره من ناحية أخرى .. لذلك كان القرآن يصحبهم في كل وقت، حتى في المعارك لم يتركوا قراءة القرآن كما مر علينا في معركة القادسية ..
والذي كان يسير في طرقات المدينة ليلا فلن تخطئ أذناه آيات القرآن وهي تنساب من كل بيت، فالجميع يقرأ ويترنم ويبكي، ويستشعر حلاوة الإيمان، ولذة الوصال، فيدفعه ذلك إلى مزيد من القراءة بتدبر وترتيل.. يستوي في ذلك الرجال والنساء، ولقد مر علينا قوله : «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار»( ).
وكان  يسير فمر على امرأة تقرأ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ فقام يستمع ويقول: «نعم قد جاءني»( ).
لقد كان القرآن هو محور حياتهم، ومادة حياة قلوبهم.. يحرصون على تحصيلها أكثر من حرصهم على تحصيل الطعام والشراب والراحة، ولم لا وهم يدركون بأن الحياة الحقيقية هي حياة القلب.. انظر إليهم بعد دخولهم مكة فاتحين مع رسول الله  بعد أيام حافلة بالمجهود العظيم والسفر الطويل .. أليس من الطبيعي أن يخلدوا للراحة في الليل بعد انتهاء مهمتهم؟! ولكنهم لم يفعلوا ذلك بل ظلوا حول الكعبة يصلون ويقرأون القرآن ويركعون ويسجدون ويتضرعون إلى الله يحمدونه ويشكرونه على عظيم فضله.
.. جاءت هند بنت عتبة زوجها أبي سفيان بن حرب صبيحة فتح مكة، فقالت له: أريد أن أبايع محمدًا.
قال أبو سفيان: قد رأيتك تكفرين. قالت أي والله، والله ما رأيت الله تعالى عُبد حق عبادته في هذا المسجد قبل الليلة، والله إن باتوا إلا مصلين قيامًا وركوعًا وسجودًا( ).
فلا عجب إذن – أخي القارئ- أن تظهر هذه النماذج الفريدة، وبهذه الأعداد الكبيرة، فالمدرسة واحدة، والمنهج واحد، والنبع صافٍ فياض لا ينضب.
كيف كانوا يحفظون آيات القرآن؟
ومع اهتمام الصحابة الشديد بالقرآن، والحرص على تلاوته كل يوم، والإكثار من مدة المكث معه، إلا أن هذا لم يدفعهم للإسراع في حفظ الآيات، باعتبار أن من أهم أهداف التلاوة هو الزيادة المستمرة للإيمان، وتوليد الطاقة الدافعة للعمل، وفي نفس الوقت فإن هدف الحفظ يختلف، فالذي يحفظ ألفاظه لابد وأن يدرك معانيها، ويعمل بما تدل عليه حتى يُصبح حاملاً حملاً صحيحًا لهذه الألفاظ ولا يكون ممن عناهم الله عز وجل بقوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5].
لذلك نجد التمهل وعدم الإسراع هو سمة الصحابة في حفظ القرآن، وليس أدل على ذلك من قول أبي عبد الرحمن السُّلمى: حدثنا الذين كانوا يُقرؤننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي  عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا العلم والعمل جميعًا( )، وزاد في رواية الفريابي: وأنه سيرث القرآن من بعدنا قوم يشربونه شرب الماء لا يجاوز هذا، وأشار بيده إلى حنكه( ).
لقد كان الصحابة – رضوان الله عليهم- يدركون قيمة القرآن وأنه قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل: 5]. يقول عبد الله بن عمر: كنا صدر هذه الأمة وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله  ما معه إلا السورة من القرآن أو شبه ذلك، وكان القرآن ثقيلاً عليهم، ورزقوا العمل به، وإن آخر هذه الأمة يخفف عليهم القرآن، حتى يقرأه الصبي والأعجمي فلا يعملون به( ).
ولقد أخبرهم الرسول  بذلك حين قال: «يخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن»( ).
لذلك لما بدأ المسلمون في عصر التابعين يقبلون على حفظ القرآن بشكل مختلف عما كان يفعله الصحابة، ازداد تحذير الصحابة لهم وتخويفهم من خطورة حمل ألفاظ القرآن دون إدراك معانيه ومعرفة أحكامه، والعمل بما تدل عليه آياته. فقد جمع أبو موسى الأشعري الذين حفظوا القرآن في الكوفة، وكان عددهم يبلغ قرابة الثلاثمائة، فعظَّم القرآن، وقال:
«إن هذا القرآن كائن لكم ذخرًا، وكائن عليكم وزرًا، فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن زجَّ به في قفاه فقذفه في النار»( ).
وعندما جاء رجل إلى أبي الدرداء وقال له: إن ابني قد جمع القرآن، فانزعج أبو الدرداء وقال له: اللهم اغفر. إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع( ).
وكيف لا يقول هذا، وهو القائل: أخاف أن يقال لي يوم القيامة علمت أم جهلت؟
فأقول: علمت. فلا تبقى آية في كتاب الله آمرة أو زاجرة إلا و تسألني فريضتها.
تسألني الآمرة: هل ائتمرت؟ وتسألني الزاجرة: هل ازدجرت؟!
فأعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن دعاء لا يسمع( ).
وكان يقول: لو أعيتني آية من كتاب الله عز وجل فلم أجد أحدًا يفتحها عليَّ إلا رجلاً بـِبَرْك الغماد لرحلت إليه( ).
وفي المقابل كانوا يجتهدون في تعليم من بعدهم القرآن بطريقة تربط بين اللفظ والمعنى، وتحقق مفهوم «التعليم، وكانوا يقتصرون في الجلسة الواحدة على آية أو بضع آيات حتى يتم الانتفاع الصحيح بها.
فهذا عبد الله بن مسعود كان إذا أصبح فخرج أتاه الناس إلى داره، فيقول: على مكانكم، ثم يمر بالذين يقرئهم القرآن، فيقول: أبا فلان، بأي سورة أنت؟ فيخبره، فيقول: في أي آية؟ فيخبره؟ فيفتح عليه الآية التي تليها، ثم يقول: تعلمها، فإنها خير لك مما بين السماء والأرض، فيظن الرجل أنه ليس في القرآن آية لعلها خير منها، ثم يمر بالآخر فيقول له مثل ذلك، حتى يقول ذلك لكلهم( ).
وقال أبو العالية: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات، إنه أحفظ لكم، وإن جبريل صلوات الله عليه كان ينزل بخمس آيات متواليات( ).
وقال أبو رجاء العطاردي: كان أبو موسى يعلمنا القرآن خمس آيات خمس آيات( ).
خوف الصحابة على القرآن:
بعد أن ذاق الصحابة – رضوان الله عليهم – حلاوة القرآن، وأدركوا قيمته الحقيقية، والسر الأعظم لمعجزته، ووظيفته المتفردة في إنشاء الإيمان، وبناء اليقين الصحيح، ومن ثمَّ التقويم والتغيير .. بعد أن تأكدوا من هذا كله، ورأوا بأعينهم ثمار التعامل الصحيح مع هذا الكتاب في شتى الدوائر والمجالات، كان من أهم ما يشغل بالهم هو توصيل هذه الرسالة لمن بعدهم من الأجيال حتى لا يتحول القرآن من وسيلة عظيمة للتغيير إلى مجرد كتاب مقدس يُقرأ للتبرك والثواب فقط..
لذلك كانوا حريصين على متابعة من بعدهم في كيفية تعاملهم مع القرآن، فالسيدة عائشة تسمع رجلا يقرأ القرآن قراءة سريعة، فقالت: ما قرأ هذا وما سكت( ).
* وجاء رجل يقال له: نُهيك بن سنان إلى عبد الله بن مسعود فقال له: يا أبا عبد الرحمن: كيف تقرأ هذا الحرف، ألفا تجده أم ياء «من ماء غير آسن» أو «من ماء غير ياسن» فقال عبد الله: وكل القرآن قد أحصيت غير هذا؟
قال نُهيك: إني لأقرأ المفصل في ركعة. فقال عبد الله: هذًّا كهذِّ الشعر؟ إن أقواما يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه، نفع( )..
* وقيل لعبد الله بن عمرو بن العاص: الرجل يقرأ في ليلة؟ فقال: أقد فعلتموها؟ لو شاء الله أنزله جملة واحدة، إنما فُصل ليعطي كل سورة حظها من الركوع والسجود( ).
* ورأى عبد الله بن مسعود مصحفًا مزينًا بالذهب فقال: إن أحسن ما زُينت به المصحف تلاوته ليلاً ونهارًا في الخلوة( ).
وكان أبو الدرداء يقول: إذا حليتم مصاحفكم، وزوقتم مساجدكم، فالدمار عليكم( ).
توجيهات ووصايا الصحابة نحو القرآن:
عن الحسن قال: كان رجل يكثر غشيان باب عمر ، فقال له: اذهب فتعلم كتاب الله، فذهب الرجل، ففقده عمر ثم لقيه فكأنه عاتبه، فقال: وجدت في كتاب الله ما أغناني عن باب عمر( ).
.. أوصى جُندب بن عبد الله أهل البصرة بوصية فقال فيها: وعليكم بالقرآن، فإنه هدى النهار، ونور الليل المظلم، فاعملوا به على ما كان من جهد وفاقة( ).
.. أما الحسن بن على فيوصى وصية مهمة وضابطة لقراءة القرآن فيقول: اقرأ القرآن ما نهاك فإذا لم ينهك فلست تقرؤه( ).
.. وقال على بن أبي طالب: ألا أنبئكم بالفقيه حق الفقيه، من لم يُقَنِّط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معصية الله، ولم يُؤَمَّنهم مكر الله، ولم يترك القرآن إلى غيره..
ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه، ولا خير في فقه ليس فيه تفهم، ولا خير في قراءة ليس فيها تدبر( ).
.. وكان عبد الله بن مسعود يقول: أُنزل القرآن ليعملوا به فاتخذوا دراسته عملا، إن أحدهم ليتلو القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يُسقط منه حرفا وقد أسقط العمل به( ).
.. وقال أبو الدرداء:
إياكم والهذاذين، الذين يهذون القرآن، يسرعون بقراءته، فإنما مثل أولئك كمثل الكُنة: لا أمسكت ماء، ولا أنبتت كلأ ( ).
والكنة هي الظلة التي تكون فوق الدار.
.. وهذا خباب بن الأرت يقول لجار له: يا هناه! تقرب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه( ).
.. وجاء رجل إلى أبي الدرداء فقال له: إن إخوانًا لك من أهل الكوفة يقرئونك السلام، ويأمرونك أن توصيهم. فقال: أقرئهم السلام ومُرهم فليعطوا القرآن بخزائمهم فإنه يحملهم على القصد والسهولة ويجنبهم الجور والحزونة( ).
والخزائم جمع خزامة وهي حلقة توضع في أنف البعير ليشد بها الزمام، والمراد: استسلم للقرآن، وأعطه زمامك، واتركه يقودك، وسر وراءه تابعًا مطيعًا.
.. ومن وصايا عبد الله بن عمرو بن العاص: عليكم بالقرآن فتعلموه وعلموه أبناءكم، فإنكم عنه تُسألون، وبه تجزون، وكفى به واعظًا لمن عقل( ).
.. وكان أبو أمامة الباهلي يقول: اقرأوا القرآن، ولا يغرنكم هذه المصاحف المعلقة، فإن الله لا يعذب قلبا وعى القرآن( ).
.. ومن أقوال عبد الله بن مسعود: من قرأ في ليلة أكثر من ثلث القرآن فهو راجز، ومن قرأ القرآن في أقل من ثلاث فهو راجز( ).
.. وعن أبي حمزة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، وإني أقرأ القرآن في ثلاث، فقال: لأن أقرأ البقرة في ليلة، فأدبرها وأرتلها، أحب إلىَّ من أن أقرأ كما تقول( ).
وقال أبو موسى الأشعري لقراء البصرة: اتلوه، ولا يطولن عليكم الأمد، فتقسو قلوبكم، كما قست قلوب من كان قبلكم. ( )
تحذيرات الصحابة من رفع القرآن:
كان الصحابة – رضوان الله عليهم – يحذرون من بعدهم، ويخوفونهم من زمن يُرفع فيه القرآن، فعن شدَّاد بن معقل عن عبد الله بن مسعود قال: إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وإن آخر ما يبقى منها الصلاة، وليصلين أقوام لا دين لهم، و إن هذا القرآن الذي بين ظهرانيكم سينُتزع منكم، قال: قلت: كيف ينتزع منا وقد أثبته الله في قلوبنا، وأثبتناه في مصاحفنا؟ فقال: يسرى عليه في ليلة واحدة، فينتزع ما في القلوب، ويذهب ما في المصاحف، ثم قرأ عبد الله وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء: 86]( ).
.. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل، له دوىٌّ كدوى النحل، فيقول الرب: مالك؟ فيقول: يا رب أُتلى ولا يعمل بي، أُتلى ولا يُعمل بي، ثلاث مرات.
قال الليث بن سعد: إنما يُرفع القرآن حين يقبل الناس على الكتب، ويكبون عليها، ويتركون القرآن( ).
وعن عبد الله بن مسعود قال: اقرؤوا القرآن قبل أن يرفع، فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع، قالوا: هذه المصاحف ترفع، فكيف بما في صدور الناس؟ قال: يسرى عليه ليلا، فيرفع من صدورهم، فيصبحون فيقولون: كأنا لم نعلم شيئًا، ثم يفيضون في الشعر( ).
.. وعن معاذ بن جبل قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فَيَتَهافت، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قَصَّروا قالوا: سنبلغ، وإن أساؤا قالوا: سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئًا( ).
.. وكان الإمام المقرئ خلف بن هشام البزار يعتب على أهل زمانه عدم العناية بفهم القرآن والعمل به، فيقول رحمه الله:
ما أظن القرآن إلا عارية في أيدينا، وذلك أنا روينا أن عمر بن الخطاب  حفظ البقرة في بضع عشرة سنة، فلما حفظها نحر جزورا شكرًا لله، وإن الغلام في دهرنا هذا يجلس بين يدي فيقرأ ثلث القرآن لا يُسقط منه حرفا، فما أحسب القرآن إلا عارية في أيدينا( ).
خوف الصحابة من انشغال الناس بغير القرآن:
أراد عمر بن الخطاب  أن يكتب السنن، فاستشار أصحابه، فأشاروا عليه بذلك، ثم استخار الله شهرًا، ثم قال: إني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا، فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله عز وجل، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا( ).
وخطب على بن أبي طالب  في الناس وقال: أعزم على كل من كان عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث تتبعوا أحاديث علمائهم، وتركوا كتاب ربهم( ).
.. وبلغ عبد الله بن مسعود أن عند ناس كتابًا يعجبون به، فلم يزل بهم حتى أتوه فمحاه، ثم قال: إنما هلك أهل الكتاب قبلكم أنهم أقبلوا على كتب علمائهم وتركوا كتاب ربهم( ).
.. وعن ابن سيرين أن زيد بن ثابت قال:
أرادني مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة أن أكَتُبَه شيئًا، قال: فلم أفعل، قال: فجعل سترًا بين مجلسه وبين بقية داره، وكان أصحابه يدخلون عليه ويتحدثون في ذلك الموضع، فأقبل مروان على أصحابه فقال: ما أرانا إلا قد خُنَّاه، ثم أقبل علىَّ، قلت: وما ذاك؟ ما أرانا إلا قد خناك، قلت: وما ذاك؟ قال: إنا أمرنا رجلا يقعد خلف هذا الستر فيكتب ما تفتى هؤلاء وما تقول( ).
.. وقال عمرو بن قيس: وفدت مع أبي إلى يزيد بن معاوية (بحوارين) حين توفى معاوية نُعزَّيِّه، ونُهنيه بالخلافة فإذا رجل في مسجدها يقول: ألا إن من أشراط الساعة أن تُرفع الأشرار وتوضع الأخيار، ألا إن من أشراط الساعة أن يظهر القول، ويُخزن العمل، ألا إن من أشراط الساعة أن تُتلى المثُناة فلا يوجد من يغيرها.
قيل له: وما المثناه؟
قال: ما استُكتب من كتاب غير القرآن، فعليكم بالقرآن فبه هُديتم، وبه تجزون وعنه تسألون.
فحدثت بهذا الحديث بعد ذلك بحمص، فقال لي رجل من القوم: أو ما تعرفه؟
قلت: لا. قال: ذاك عبد الله بن عمرو( ).
.. وقال عبد الله بن مسعود: إن ناسا يسمعون كلامي ثم ينطلقون فيكتبونه، وإني لا أُحِل لأحد أن يكتب إلا كتاب الله( ).
.. وأراد عمر بن الخطاب أن يكتب السُّنة، ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب في الأمصار: «من كان عنده شيء فليمحه»( ).
.. وعن الأسود بن حلال قال: أُتى عبد الله (ابن مسعود) بصحيفة فيها حديث فدعا بماء فمحاها، ثم أمر بها فأخرجت، ثم قال: أُذكِّر بالله رجلا يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بدار الهند لبلغتها، بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون( ).
.. وعن أبي نضرة قال: قلت لأبي سعيد الخدري: ألا نكتب ما نسمع منك؟
قال: «أتريدون أن تجعلوها مصاحف؟ إن نبيكم  كان يُحدَّثنا فنحفظ، فاحفظوا كما كنا نحفظ( ).
.. هذه الأخبار وغيرها تعكس تخوف الصحابة الشديد من انشغال الناس بغير القرآن، فيحرموا أنفسهم من نوره العظيم، وأثره المبارك والذي لا يوجد له مثيل ولا بديل.
هذا التخوف جعلهم يتشددون في موضوع كتابة العلم و تقييده.
وهنا أمران لا بد من التنويه عليهما في هذا المقام: الأول خاص بالسنة ومكانتها، والثاني خاص بتقييد العلم وكتابته.
منزلة السنة النبوية:
يقول عبد الفتاح أبو غده رحمه الله: فالسنَّة والكتاب توأمان لا ينفكان، ولا يتم التشريع إلا بهما جميعًا.
والسنة مبيَّنة للكتاب وشارحة له، وموضَّحة لمعانيه، ومفسَّرة لمبهمه، فهي من الكتاب بمنزلة الشرح له، يُفصّل مقاصده ويُتَّم أحكامه( ).
وقد أتى رجل إلى عمران بن حصين  فسأله عن شيء، فحدثه، فقال الرجل: حدثوا عن كتاب الله ولا تُحدَّثوا عن غيره.
فقال – عمران بن حصين – إنك امرؤ أحمق! أتجد في كتاب الله تعالى صلاة الظهر أربعا لا يُجهر فيها؟ ثم عدَّد عليه الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال: أتجد هذا في كتاب الله مفسرا؟! إن كتاب الله قد أبهم هذا، وإن السنة تفسر ذلك( ).
فالسنة من الكتاب بمنزلة الجزء من الكل، ولقد تعهد الله سبحانه بحفظ كتابه الكريم فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9].
وحفظ السنة من حفظ الكتاب ولا ريب، فهي محفوظة بحفظ الله تعالى لها( ).
لماذا لم تدوَّن السنة في عهد الرسول :
يقول د. مصطفى السباعي – رحمه الله:
لا يختلف اثنان من كتاب السيرة وعلماء السنة وجماهير المسلمين في أن القرآن الكريم قد لقى من عناية الرسول  والصحابة ما جعله محفوظا في الصدور، ومكتوبا في الرقاع، والسعف، والحجارة، وغيرها، حتى إذا توفى رسول الله  كان القرآن محفوظا مرتبا لا ينقصه إلا جمعه في مصحف واحد.
أما السنة فلم يكن شأنها كذلك، رغم أنها مصدر مهم من مصادر التشريع في عهد الرسول  ولا يختلف أحد في أنها لم تدون تدوينا رسميا كما دُون القرآن، ولعل مرجع ذلك إلى أن الرسول  عاش بين الصحابة ثلاثًا وعشرين سنة، فكان تدوين كلماته وأعماله ومعاملاته تدوينا محفوظا في الصحف والرقاع من العسر بمكان، لما يحتاج ذلك إلى تفرغ أناس كثيرين من الصحابة لهذا العمل الشاق.
(ومن الأسباب كذلك) خوف اختلاط بعض أقوال النبي الموجزة الحكيمة بالقرآن، سهوا من غير عمد، وذلك خطرٌ على كتاب الله يفتح باب الشك فيه لأعداء الإسلام، مما يتخذونه ثغرة ينفذون منها إلى المسلمين لحملهم على التحلل من أحكامه، والتفلت من سلطانه .. كل ذلك وغيره- مما توسع العلماء في بيانه – من أسرار عدم تدوين السنة في عهد الرسول ( )، وبهذا نفهم سر النهي عن كتابتها الواردة في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله : «لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه».
موقف الصحابة من الحديث بعد و فاة الرسول :
أوصى رسول الله  صحابته بتبليغ السنة إلى من وراءهم «نضَّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها فحفظها، ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»( ).
وشدد عليهم في التثبت فيما يرون «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع»( ).
فلم يكن بدٌ من أن يصدع الصحابة بالأمر ويبلغوا أمانة الرسول  إلى المسلمين، وخصوصا وقد تفرقوا في الأمصار، وأصبحوا محل عناية التابعين والرحلة إليهم، فكان التابعون يتتبعون أخبارهم ومواطنهم فيرحل إليهم من يرحل على بُعد المشقة وعناء الأسفار.
هذا كله كان عاملا في انتشار الحديث وانتقاله بين المسلمين( ).
.. (ومهما يكن من إكثار بعض الصحابة التحديث عن رسول الله، فقد كان ذلك قليلا في عصري الشيخين أبي بكر وعمر، إذ كانت خطتها حمل المسلمين على التثبت من الحديث من جهة، وحمل المسلمين على العناية بالقرآن أولاً( )..
فقد كانت رغبة عمر  ألا يكثروا من التحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام كي لا ينشغل الناس بالحديث عن القرآن، والقرآن غض طرى. فما أحوج المسلمين إلى حفظه وتناقله، والتثبت فيه، والوقوف على دراسته!!
روى الشعبي عن قرظة بن كعب قال: خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر إلى (صرار)، فتوضأ فغسل اثنتين ثم قال: أتدرون لِمَ مشيت معكم؟
قالوا: نعم نحن أصحاب رسول الله  مشيت معنا.
فقال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوىٌّ بالقرآن كدوى النحل، فلا تصدوهم بالحديث فتشغلوهم، جردوا القرآن وأقِلُّوا الرواية عن رسول الله ، وامضوا وأنا شريككم، فلما قدم قرظة بن كعب قالوا: حَدَّثنا، قال: نهانا عمر بن الخطاب( ).
ويعلق الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – على هذا الأمر فيقول:
فعمر وغيره من الأئمة لا يجحدون السنة، ولكنهم يريدون إعطاء القرآن حظه الأوفر من الحفاوة والإقبال، وذلك هو الترتيب الطبيعي، فلا بد من معرفة القانون كله معرفة سليمة قبل الخوض في شروح وتفاصيل لبعض أجزائه( ).
تقييد العلم وكتابته:
أما بخصوص تقييد العلم وكتابته وتخوف الصحابة من ذلك – كما مر علينا – فيقول الخطيب البغدادي:
فقد ثبت أن كراهة من كره الكتابة من الصدر الأول، إنما هي لئلا يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه، ونهى عن الكتب القديمة أن تتخذ، لأنه لا يعرف حقها من باطلها، وصحيحها من فاسدها، مع أن القرآن كفى منها، وصار مهيمنا عليها.
ويقول: إنما اتسع الناس في كَتْب العلم، وعوَّلوا على تدوينه في الصحف، بعد الكراهة لذلك، لأن الروايات قد انتشرت، والأسانيد طالت، والعبارات بالألفاظ اختلفت، فعجزت القلوب عن حفظ ما ذكرنا..
وقال النووي: كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم، فكرهها كثيرون منهم، وأجازها أكثرهم، ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف( ).
وقال ابن حجر العسقلاني: السلف اختلفوا في ذلك عملا وتركا، وإن كان الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يَبعُد وجوبه على من خشى النسيان ممن يتبين عليه تبليغ العلم( ).
ولكن هل من كلمة سواء في هذا الموضوع؟!
بلا شك أنه لا يمكن الاستغناء بالقرآن عن السنة، وكيف يكون هذا والله عز وجل يقول لرسول: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44].
ويقول للمسلمين جميعًا: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7].
(فالحديث هو الذي تولى بيان ما أُجمل من القرآن، وتفصيل أحكامه، ولولاه لم نستطع أن نعرف الصلاة والصيام، وغيرهما من الأركان والعبادات على الوجه الذي أراده الله تبارك وتعالى، وما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب) ( ).
ونؤكد أيضًا على ضرورة تقييد العلم بالكتابة حتى لا تختلط الروايات، وتتداخل العبارات وغير ذلك من المفاسد الكثيرة..
فلا بد من كتابة الحديث والعناية به، متنا، وسندا، وشرحا. ولكن أليس من الطبيعي أن يكون الاهتمام بالقرآن أولاً ثم بالسنة ثانيًا؟!
ولا بد كذلك من كتابة العلم، والانتفاع بآراء العلماء وجهودهم الفكرية، ولكن أليس الاهتمام بالقرآن – لفظا ومعنى – يسبق ذلك.
فمع كل ما قيل عن أسباب عدم تقييد العلم في البداية – وهي أسباب صحيحة – إلا أن أحد أهم الحِكم من ذلك هو خوف الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته من بعده على انشغال المسلمين بغير القرآن كمصدر متفرد للتغيير والتقويم، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان أعلم الناس بقدر القرآن، وبأنه لا يقوم مقامه شيء آخر في عمله داخل الإنسان، وكان يخشى من الانشغال بغيره حتى لا يفقد القلب أهم مصدر لإنشاء الإيمان وإحداث التغيير.
وكذلك كان الصحابة يدركون أهمية القرآن، ويخشون من الاهتمام بغيره، مع حرصهم على تبليغ سنة رسول الله  والأخذ بها.
ومما يدعو للأسف أنه قد حدث ما كان يخشاه الرسول عليه الصلاة والسلام، وصحابته من بعده، فكان انجذاب الأجيال اللاحقة نحو العلم وفروعه على حساب الاهتمام بالقرآن من حيث كونه مصدرا للهداية والشفاء.
يقول الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله-:
هجر المسلمون القرآن إلى الأحاديث..
ثم هجروا الأحاديث إلى أقوال الأئمة ..
ثم هجروا أقوال الأئمة إلى أسلوب المقلدين.
وكان تطور الفكر الإسلامي على هذا النحو وبال على الإسلام وأهله .. روى ابن عبد البر عن الضحاك بن مزاحم:
يأتي على الناس زمان يُعلق فيه المصحف حتى يعشش عليه العنكبوت، لا ينتفع بما فيه، وتكون أعمال الناس بالروايات والأحاديث( )..
وعن بشر الحافي قال: سمعت أبا خالد الأحمر يقول: يأتي زمان، تُعطَّل فيه المصاحف، يطلبون الحديث والرأي، فإياكم وذلك فإنه يُصفِّقُ الوجه، ويَشغل القلب، ويُكثر الكلام( ).
من آثار هجر القرآن:
اهتم أكثرية الصحابة رضوان الله عليهم بتبليغ ما يحفظونه من أحاديث رسول الله  لمن بعدهم، وبدأ بعد ذلك الاهتمام الشديد بتدوين الأحاديث خوفًا من النسيان أو موت من يحفظها، وقد بذلوا في ذلك مجهودًا كبيرًا، ثم تفرع العلم إلى فروع كثيرة كالفقه والسير، وظهر علم الكلام والفرق المختلفة كالمعتزلة والمرجئة وما صاحبها من خلافات فكرية ضخمة، ومواجهات كثيرة شغلت الأمة وأضاعت الكثير من جهود العلماء في الرد على بعضهم البعض.
وبدأ الكلام عن أسماء الله وصفاته، وعن القَدَر، وعن مفهوم الإيمان والإسلام وعن مرتكب الكبيرة، وغير ذلك من الأمور ..
والذي يقرأ في هذه الخلافات – بعد أن يعيش مع القرآن ويقرؤه مرات ومرات بتدبر وترتيل وتأثر – فإنه سيخرج بنتيجة مفادها أن هذه الخلافات ما هي إلا ثمرة من ثمار هجر القرآن، وأن صيحات التحذير التي أُطلقت من الجيل الأول والتي تحذر من الانشغال بغير القرآن، أو قراءته بدون فهم ولا تأثر لم تأخذها الأجيال المتلاحقة مأخذ الجد، بل وبدأ الانبهار بالموروثات الثقافية للحضارات المختلفة، وكان ما كان من خلافات شغلت الأمة كثيرًا عن وظيفتها الأساسية.
بناء الإيمان من خلال القرآن:
إن الذي يقرأ القرآن ويتدبره ويرتله، وينشغل به كما انشغل الصحابة، سيجد معانيه قد انطبعت في عقله، وتحولت إلى يقين، وامتزجت بعاطفته فصارت إيمانًا راسخًا رسوخ الجبال الرواسي، فالقرآن يُشرب في القلب محبة الله، وتعظيمه، ومهابته، وتقديسه..
فالإيمان بالله، وبأسمائه الحسنى، وصفاته العلا دون تعطيل أو تشبيه أو تأويل يصل لقارئ القرآن بسهولة ويسر، وإن لم يستطع التعبير عنه، والدليل على هذا أن إيمانه لا يهتز إذا ما استمع أو قرأ عن شبهة من شبهات الفلاسفة وأهل المنطق، وكيف لا، والقرآن قد أفرد مساحات كبيرة للحديث عن ألوهية الله سبحانه وربوبيته وقيوميته على خلقه، وقدرته المطلقة، وعلمه المحيط، وعزته، وجلاله، وكماله ..
وليس ذلك فحسب فقد أَوْلى قضية الإيمان باليوم الآخر اهتمامًا كبيرًا، وكذلك سائر أركان الإيمان .
.. كل ذلك من خلال خطاب سهل ميسر يجمع بين القناعة العقلية، والتفاعل القلبي، لينشأ الإيمان كنتيجة لتعانق الفكر مع العاطفة.
.. وعندما انشغل الجيل الأول بالقرآن لم تظهر تلك التساؤلات والشبهات والخلافات التي ظهرت بعد ذلك.
يقول الشيخ محمد الغزالي- يرحمه الله-: .. إن دراسة هذا القرآن الكريم، أورثتنى إحساسًا بعظمة الله، لم أحسه في قراءة كتاب آخر( ).
.. أحسست أن الكتاب الذي بين يدي، يبدئ ويعيد في قيادة الناس إلى الله، واستثارة مشاعرهم من الأعماق، كي يرتبطوا به، ويتوجهوا إليه، ويستعدوا للقائه ..
..الحديث دائم متصل عن الله، وما ينبغي له! وعن جَعْل هذه الحياة مهادا لما بعدها ( )..
ويقول: ليت المسلمين استقوا عقائدهم من القرآن وحده! إذن لأراحوا واستراحوا، إن بعض هواة الجدل لم يتورعوا عن كثرة اللغط في قضايا العقيدة، فضلوا وأضلوا، ويشبه هؤلاء في الانحراف قوم غرتهم فلسفة اليونان وخيالاتهم النظرية .. تحدثوا في أصل الإيمان، فزادوا الطين بلة..
ولا عاصم من هذه المزالق كلها، إلا التزام المنهج، والسير في معالمه( )..
.. إنني أتلو القرآن وأترك معانيه تنطبع في فؤادي دون تقعر ولا تجرؤ( )..
ويقول: هذا الكتاب يعرف الناس بربهم، على أساس من إثارة العقل،
وتعميق النظر، ثم يحول هذه المعرفة إلى مهابة لله، ويقظة في الضمير،
ووجل من التقصير، واستعداد للحساب( ).
إعادة ترتيب الأولويات:
من هنا نقول بأننا لا نريد الاستغناء بالقرآن عن السنة، أو عن كتب العلم المختلفة، ولا نريد الانشغال بغير القرآن على حساب القرآن، بل نريد الأمرين معًا، على أن يُعطي القرآن الأولوية في الاهتمام والرعاية، ليتحقق الهدف الذي من أجله أنزله الله عز وجل قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ  يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة: 15، 16].
كلمة أخيرة عن الصحابة والقرآن:
إن أكثر أجيال الأمة إدراكًا لقيمة القرآن هم جيل الصحابة، فقد عاشوا الحياة قبله، وعاشوها بعده، لذا فقد أدركوا – أكثر من غيرهم – معنى السعادة الحقيقية، والربانية، والتغيير .. ويكفيك في ذلك حزنهم على انقطاع الوحي بعد وفاة الرسول .
فعن أنس بن مالك  قال:
قال أبو بكر الصديق  بعد وفاة رسول الله  لعمر : انطلق بنا إلى أم أيمن، نزورها كما كان رسول الله  يزورها .. فلما انتهيا إليها، بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله ، فقالت: ما أبكى أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله ، ولكني أبكى أن الوحي قد انقطع من السماء! فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها( ).
من هنا ندرك أهمية صيحات التحذير التي أطلقوها، والوصايا التي كانوا يوصون بها من بعدهم حول القرآن.
فهذه الوصايا كانت تنطلق من استشعارهم للقيمة العظيمة للقرآن، وكانت تنطلق كذلك من خوفهم من عدم إدراك الأجيال اللاحقة لتلك القيمة، فينزوى القرآن جانبا ولا يأخذ دوره المرسوم له في قيادة الحياة، وتشكيل الشخصية المسلمة الصحيحة من جميع جوانبها، وإمدادها الدائم بالإيمان، ومن ثمَّ تفقد الأمة مكانتها العالية بين الأمم، فتتراجع إلى الوراء.. إلى الذلة والمهانة، وكيف لا وقد ربط الله عز وجل علو هذه الأمة بالإيمان وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 139].
.. فهل أخذت الأجيال المتتابعة هذه الوصايا مأخذ الجد؟!
للأسف لم يحدث ذلك، بل حدث العكس، وابتعد الكثيرون من المسلمين عن الانتفاع الحقيقي بكتابهم.
فكانت النتيجة هي الحال البائس والوضع المرير الذي نحياه، فالقرآن رفع قدر الجيل الأول وأعلى من شأنه وجعل الأمة الإسلامية في مقدمة الأمم، بينما أوصلنا هجر الانتفاع بالقرآن إلى هذا المستوى الذي لا يخفى وصفه على أحد ..
فإن كنت في شك من هذا فتأمل قوله : «إن الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا ويضع به آخرين»( ).
* * *

السبت، 3 مارس 2012

الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم للأستاذ / مجدي الهلالي

الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم
الفصل الرابع من كتاب تحقيق الوصال بين القلب والقرآن
للأستاذ / مجدي الهلالي

إذا كان للقرآن العظيم ذلك الأثر الواضح السريع على كل من يُحسن التعرض له، إلا أن هذا الأثر سيزداد ويزداد كلما طالت فترات المكث معه، وكيف لا وما من لقاء يتم بين القلب والقرآن إلا والإيمان يزداد، والنور يتوهج، والطاقة تتولد، والدافع للاستقامة يقوى.
من هنا ندرك كيف وصل الجيل الأول لهذا المستوى الإيماني غير المسبوق على مستوى البشر العاديين.
ذلك الإيمان الذي ظهرت آثاره العظيمة في كل الاتجاهات والأوقات، فمع أن الصحابة – رضوان الله عليهم – كانوا يضحكون، ويلعبون، ويمارسون حياتهم بصورة متوازنة، إلا أن الإيمان في قلوبهم – كما يقول عبد الله بن عمر- أمثال الجبال( ).
ولذا كان أثر ذلك الإيمان يظهر سريعًا عند التعرض للمواقف الصعبة..
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لم يكن أصحاب رسول الله  منحرفين أو متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمرجاهليتهم، فإذا أُريد أحد منهم على شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون( ).
ولقد كان السبب الرئيس في هذا الإيمان – كما أسلفنا – هو القرآن، فلقد انكبوا على تلاوته، وأعطوه الكثير والكثير من أوقاتهم، وساعدهم على ذلك أستاذهم ومربيهم وقدوتهم، معلم البشرية، محمد ، فقد كان دائم التذكير بمكانة القرآن وعظمته، ومن ذلك قوله: «ما من كلام أعظم عند الله من كلامه، وما رَدّ العباد إلى الله كلاما أحب إليه من كلامه»( ).
وقوله: «القرآن أحب إلى الله من السماوات والأرض ومن فيهن»( ).
تأثر الرسول  بالقرآن:
لقد كان حبه  للقرآن، واهتمامه به لا يُوصف، فقد سيطر القرآن على عقله، واستحوذ على مشاعره، وبلغت قوة تأثيره عليه أن شيَّب شعره، فقد دخل عليه يوما أبو بكر  فقال له: شبت يا رسول الله قبل المشيب. فقال له مبينًا السبب: «شيبتني هود وأخواتها قبل المشيب»( ).
وفي يوم من الأيام قال لعبد الله بن مسعود  «اقرأ علىَّ القرآن»، فقال: أقرأ عليك، وعليك أُنزل؟!، قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري».
قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت إلى هذه الآية فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا [النساء:41] قال: «حسبك»، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان( ).
.. لقد تشبع  بالقرآن تشبعًا تامًا، وتأثر به تأثرًا بالغًا لدرجة أن الإمام الشافعي - رحمه الله- يعتبر أن كل ما حكم به رسول الله  فهو مما فهمه من القرآن( ).
لقد اختلطت معاني القرآن بشخصية الرسول ، وامتزجت بها، فصارت تتمثل واقعًا حيا في شخصه، وكأن القرآن أصبح رسول الله  قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا  رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ [الطلاق: 10، 11] لقد كان بحق: قرآنا يمشي على الأرض، لذلك عندما سئلت السيدة عائشة – رضي الله عنها عن خلقه  قالت: كان خلقه القرآن، يرضي لرضاه، ويسخط لسخطه( ).
التأثير العملي السريع:
وكان للقرآن تأثير سريع عليه  من الناحية العملية، وليس أدل على ذلك من أن جوده وإحسانه كان يزداد أكثر وأكثر بعد أن يدارسه جبريل - عليه السلام- القرآن في رمضان.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبي  أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله  القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة»( ).
يقول ابن حجر تعليقا على هذا الحديث:
وفيه أن مداومة التلاوة توجب زيادة الخير( ).
صفة قراءته:
عندما كان  يقرأ القرآن كان يقرؤه قراءة هادئة، مترسلة، حزينة كما أمره ربه وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ [الإسراء: 106]، وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً[المزمل: 4].
.. فكان يرتل السورة حتى تبدو وكأنها أطول من أطول منها.
.. وكان يمد الحروف في نهاية الآية ليسمح للعقل بتفهم الخطاب الإلهي، وللقلب بالتجاوب معه، والاتعاظ به، فإذا ما مر بآية فيها ذكر الجنة دعا واستبشر، وإذا مر بآية فيها ذكر النار استعاذ منها بالله.
.. ولقد وصفت السيدة أم سلمة – رضي الله عنها- قراءة رسول الله  بأنها (قراءة مفسرة حرفًا حرفًا) ( ).
.. ووصفت السيدة عائشة – رضي الله عنها – ترتيله فقالت: لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها.
.. وفي حديث حفصة – رضي الله عنها – أن النبي  كان يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها( ).
.. وظل  ليلة كاملة يردد آية واحدة هي قوله تعالى: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118] ( ).
ويصف لنا أبو ذر  هذه الليلة فيقول:
صلى بنا رسول الله  ذات ليلة العشاء ثم رجع إلى أهله. فلما تكفأت عنه العيون رجع إلى مقامه فجئت فقمت خلفه قبل أن يركع، فأومأ إليَّ بيده فقمت عن يمينه، ثم جاء عبد الله بن مسعود  فقام خلفنا فأومأ إليه بيده فقام عن شماله – فقام رسول الله  حتى أصبح يتلو آية واحدة من كتاب الله بها يركع، وبها يسجد، وبها يدعو حتى أصبح إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
فلما أصبح قلت لعبد الله بن مسعود  إن رسول الله  فعل كذا وكذا، فلو سألته عن ذلك. فقال عبد الله : بأبي وأمي يا رسول الله قمت الليلة بآية واحدة بها تركع، وبها تسجد، وبها تدعو، وقد علمك الله القرآن كله. قال: «إني دعوت لأمتي»( ).
الحرص على التلاوة اليومية:
وكان  حريصًا على قراءة القرآن كل يوم، وكيف لا وقد أمره الله بذلك إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ  وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل:91، 92].
ولما جاء وفد ثقيف إلى المدينة أنزلهم رسول الله  في قبة بين المسجد وبين أهله، فكان يأتيهم ويُحدِّثهم بعد العشاء، وفي ليلة من الليالي تأخر عليهم ثم أتاهم فقالوا له: يا رسول الله لبثت عنا الليلة أكثر مما كنت تلبث؛ فقال: «نعم، طرأ علىَّ حِزْبي من القرآن، فكرهت أن أخرج من المسجد حتى أقضيه»( ).
ومع ذلك فلم يُؤثّر عنه  أنه قرأ القرآن كله في ليلة واحدة.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: لا أعلم نبي الله  قرأ القرآن في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح( ).
ومما يؤكد هذا المعنى ما رواه الإمام مسلم أن رجلا جاء إلى عبد الله بن مسعود  فقال: إني لأقرأ المُفصَّل( ) في ركعة. فقال عبد الله: هذًّا( ) كهذَّ الشعر؟ إن أقواما يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم. ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه، نفع ..
ثم قال: إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله  يقرن بينهن، سورتين في كل ركعة.. فسُئل عنها فقال: عشرون سورة من المفصل، وفي رواية: ثمانية عشر، وسورتين من آل حم( ).
قال القاضي عياض .. إن هذا كان قدر قراءته غالبًا، وأن تطويله الوارد إنما كان في التدبر والترتيل، وما ورد من غير ذلك في قراءته البقرة والنساء وآل عمران كان في نادر من الأوقات( ).
دعوته  للناس بالقرآن:
ومن مظاهر تأثر الرسول  بالقرآن، وإدراكه لأهميته وأثره العظيم في النفوس، أنه كان يدعو الناس به أكثر ما كان يدعوهم بكلامه هو، وقصته مع عتبة بن ربيعة – أحد أئمة الكفر في مكة – مشهورة، وقد مرت علينا.
وكان  يعرض نفسه على الناس في موسم الحج – قبل الهجرة- فيقول لهم: «هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربي»( ).
وكان يقول لأصحابه: «بلِّغوا عني ولو آية» ( ).
وكان  كثيرًا ما يخطب الجمعة بالقرآن ( )، وهو من هو في البلاغة، ويكفي أنه قد أوتى جوامع الكلم.
روى مسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت: ما أخذت (ق والقرآن المجيد)
إلا عن لسان رسول الله  يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب
الناس ( ).
وروى ابن ماجه عن أُبي بن كعب قال: قرأ رسول الله  يوم الجمعة (تبارك) وهو قائم، فذكرنا بأيام الله، وأبو الدرداء، وأبو ذر يغمزني، فقال: متى أُنزلت هذه السورة؟ فإني لم أسمعها حتى الآن، فأشار إليه أن اسكت( ).
صفاء المنبع:
لقد كان القرآن هو شغل رسول الله  الشاغل، ولِمَ لا وهو أكثر الخلق إدراكًا لأهميته وقدرته على التغيير، ألم يقل له ربه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى: 52].
لذلك كان  حريصًا على عدم انشغال الصحابة بشيء آخر غير كتاب الله حتى يستطيع ذلك الكتاب أن يقوم بوظيفته كاملة في تغيير قلوبهم وعقولهم ونفوسهم، ومن ثمَّ سلوكهم تغييرًا جذريًا. ويكفيك في تأكيد هذا المعنى ما حدث منه × مع عمر بن الخطاب ، فقد مر عمر برجل يقرأ كتابا، فاستحسنه، فقال للرجل: اكتب لي من هذا الكتاب، ثم أتى النبي  فجعل يقرأ عليه، وجعل وجه رسول الله  يتلوَّن، فضرب رجل من الأنصار بيده الكتاب، وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أما ترى وجه رسول الله  منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب؟
فقال رسول الله : «إنما بعثت فاتحًا وخاتمًا، وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه، واخْتُصر لي الحديث اختصارا فلا يهلكنكم المتهوِّكون»( ).
.. يتلوَّن وجهه  ويغضب عندما يجد أحد أصحابه يقرأ أو يستحسن كتابًا آخر غير القرآن، وكيف لا يتغير وجهه وربه يقول له: أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 51].
وعندما طلب منه أصحابه أن يقص عليهم قصصًا، أنزل الله سبحانه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف: 3].
فقد أخرج ابن جرير، عن عون بن عبد الله قال: ملَّ أصحاب رسول الله  ملَّة، فقالوا: يا رسول الله، حدثنا، فأنزل الله تعالى اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: 23]، ثم ملُّوا ملة أخرى فقالوا: يا رسول الله، حدثنا فوق الحديث ودون القرآن – يعنون القصص- فأنزل الله الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ  إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ  نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف: 1- 3].
فأرادوا الحديث، فدلهم على أحسن الحديث، وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص( ).
ترغيبه  للصحابة في تعلم القرآن:
ومع حرصه  على عدم انشغال الصحابة بشيء آخر غير القرآن كان كذلك يستخدم معهم أساليب التشويق المختلفة ليستثير مشاعرهم ويدفعهم للإقبال على القرآن والانشغال به.
روى مسلم عن عقبة بن عامر  قال: «خرج علينا رسول الله  ونحن في الصُفَّة، فقال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بُطحان، أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوَيْن( )، في غير إثم ولا قطيعة رحم» فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك. قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلَم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل»( ).
النبي  بيَّن لأصحاب معاني القرآن:
كما كان رسول الله  حريصًا على تعليم الصحابة ألفاظ القرآن، فإنه كان حريصًا كذلك على تعليمهم معانيه..
يقول د. يوسف القرضاوي: ولقد جعل القرآن من مهام النبي : (تعليم الكتاب والحكمة) وهذا في أربع آيات من القرآن.
ولا ريب أن هذا التعليم ليس هو (التحفيظ) بدليل أنه معطوف على تلاوة الآيات عليهم: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران: 164].
فالتعليم أخص من التلاوة.
إن هذا التعلم والتعليم هو الذي عبرت عنه بعض الأحاديث بـ (التدارس). ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة  أن النبي  قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده».
ومعنى تدارس القرآن: محاولة التعرف على ألفاظه ومبانيه، وعلى مفاهيمه ومعانيه، وما يرشد إليه من العبر، وما يدل عليه من الأحكام والآداب( ).
ويقول الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – ومعنى مدارسة القرآن: القراءة والفهم والتدبر والتبين لسنن الله في النفس والآفاق، ومعرفة الوصايا والأحكام، وأنواع الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وما إلى ذلك مما يحتاج المسلمون إليه( )..
ويؤكد على هذا المعنى الإمام ابن تيمية فيقول:
يجب أن يُعلم أن النبي  بيَّن لأصحابه معاني القرآن كما بيَّن لهم ألفاظه، فقوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] يتناول هذا وهذا.
وقد قال أبو عبد الرحمن السُّلَمى: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي  عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل؛ قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا.
ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلَّ في أعيننا.
.. وذلك أن الله تعالى قال: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص: 29]، وقال: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء: 28]، وقال: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون: 68].
وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن!.
وكذلك قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]، وعقل الكلام متضمن لفهمه.
ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه: فهم معانيه دون مجرد ألفاظه .. فالقرآن أولى بذلك، ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جدًا( ).
ويقول الإمام الزركشي: وقد جاء عن ابن عمر أنهم كانوا يتعلمون ما ينبغي أن يوقف عنده، كما يتعلمون القرآن( ). فتعلم الوقف والابتداء أحد ثمرات تعلم المعاني.
.. من هنا نقول بأن رسول الله  كان حريصًا على تعليم أصحابه القرآن .. لفظًا ومعنى.
.. يقول عبد الله بن عمر: «كان رسول الله  يعلمنا القرآن، فإذا مر بسجود سجد وسجدنا معه»( ).
(ولاشتهار هذا الأمر عن رسول الله  صار أصلاً يقاس عليه غيره، ومن هذا القبيل قول جابر بن عبد الله : «كان النبي  يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن»( ).
فإذا طرأ ما يمنع رسول الله  من مباشرة ذلك بنفسه وكَّل بعض أصحابه للقيام بهذه المهمة.
ومن هذا ما ورد عن عبادة بن الصامت  قال: «كان رسول الله  يشغل، فإذا قدم مهاجر على رسول الله  دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن»( ).
وعن أبي موسى  أن رسول الله  بعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن، فأمرهما أن يعلما الناس القرآن»( ).
لا بديل عن التفهم والتدبر.
ومع هذا الترغيب في تعلم القرآن إلا أنه  كان دائم التحذير لصحابته – ولأمته من بعده – من أن يتحول القرآن من وسيلة عظيمة لإحياء القلب وبث الروح فيه إلى قراءة حنجرية فقط طلبًا للأجر والثواب دون الانتفاع الحقيقي به، فعندما سأله عبد الله بن عمرو بن العاص عن ختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام قال له: «لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث»( ).
ومع حثه  لصحابته على كثرة تلاوة القرآن إلا أنه كان يربط ذلك بالقراءة الهادئة المرتلة المتفهمة للخطاب، والتى من خلالها يتعرض القلب لأنوار القرآن، ومنابع الإيمان فيه فيحدث الوصال، وتدب الروح في القلب شيئًا فشيئًا حتى يحيا حياة كاملة.
تأمل قوله  لصحابته: «من قرأ القرآن في سبع ليالٍ كتب من المخبتين».
قلنا: فمن قرأه في خمس يا رسول الله؟
قال: «إني أخاف أن يُعجلكم عن التفهم، إلا أن تصبروا على مباكرة الليل، فمن فعل كُتب من المقربين».
قلنا: ففي ثلاث يا رسول الله؟
قال: «لا أراكم تطيقون ذلك، إلا أن يبدأ أحدكم بالسورة وأكبر همه أن يبلغ آخرها».
قلنا: فإن أطقناه على تَفَهُّم وترتيل؟!
قال: «فذلك الجهد من عبادة النبيين».
قلنا: ففي أقل من ثلاث يا رسول الله؟
قال: «لا تقرأوه في أقل من ثلاث».
وفي رواية: قالوا: يا رسول الله! وفي أقل من ثلاث.
قال: «لا، ومن وجد منكم نشاطًا فليجعله في حسن تلاوتها»( ).
.. وكان  يدل الصحابة على الوسائل المعينة على تفُّهم القرآن والتأثر به ومن ذلك قوله  في بيان أهمية القراءة بصوت حزين: «أحسن الناس قراءة الذي إذا قرأ رأيت أنه يخشى الله»( ).
- وقوله  عن فضل التسوك قبل القراءة: «إذا قام أحدكم يصلي من الليل فليستك، فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته وضع ملك فاه على فيه، ولا يخرج من فيه شيء إلا دخل فم الملك»( ).
- ولبيان ضرورة الفهم مع القراءة قال : «إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فلينصرف، فليضطجع»( ).
* وللتذكير بأهمية القراءة في المصحف قال : «من سرَّه أن يحب الله ورسوله، فليقرأ في المصحف»( ).
.. وكان  دائم التذكير للصحابة على ضرورة تهيئة الأجواء المناسبة المعينة على التركيز والفهم، ومن ذلك ما رواه أبو داود عن أبي سعيد  قال: اعتكف رسول الله  في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: «ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة»( ).
- وكان  دائم النصح لأصحابه – ولأمته من بعده – بدوام قراءة القرآن وتعاهده حتى يستمر إمداد القلب بالمعاني الإيمانية فتتم التذكرة والتبصرة، ويزداد القرب والوصال، وكان يحفزهم على الإقبال على القرآن بتذكيرهم بالأجر العظيم المترتب على تلاوته، وفي نفس الوقت كان يحذرهم من تركه وعدم المداومة على قراءته حتى لا تتفلت معانيه من العقل والقلب .. ومن ذلك قوله :
«اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلو فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به»( ).
وقوله: «اقرؤوا القرآن؛ فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول (آلم، حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر، فتلك ثلاثون»( ).
«تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده، لهو أشد تفصيا من قلوب الرجال من الإبل من عُقلها»( ).
متابعته  لأصحابه:
كان  يتابع أصحابه في أمر القرآن ومدى تعاهدهم له، وكان حريصا على ألا يمر عليهم يوم دون أن يقرأوا القرآن، تأمل معي قوله : «من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتب له كأنما قرأه من الليل»( ).
وذكر عنده أحد أصحابه فقال: «ذلك رجل لا يتوسد القرآن»( ) ومعنى لا يتوسد القرآن أي يقوم به الليل ولا ينام عنه.
وقال يوما لأصحابه: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار»( ).
ومع هذه المتابعة والحث على تعاهد القرآن فإنه  كان كذلك يتابع أثر القرآن على الصحابة ومدى تمثل ثمرته الحقيقية فيهم، ويكفيك في تأكيد هذا المعنى ذلك الحديث الذي يرويه جبير بن نفير عن أبي الدرداء أنه قال: كنا مع النبي  فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: «هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء». فقال أحد الحاضرين وهو زياد بن لبيد الأنصارى: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه، ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا.
فقال : «ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فما تغنى عنهم».
قال جبير بن نفير: فلقيت عُبادة بن الصامت فقلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ فأخبرته الذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء. إن شئت حدثتك بأول علم يُرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه خاشعًا( ).
وخرج  يوما على أصحابه فوجدهم في حلقة يقرؤون القرآن ويتدارسونه بينهم، ففرح بهم وقال: «الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأخيار، وفيكم الأحمر والأسود، اقرأوا القرآن، اقرأوا قبل أن يأتي أقوام يقيمون حروفه كما يقام السهم لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه»( ).
لقد كان  شديد الحرص على ألا تكون قراءة القرآن بالألسنة والحناجر فقط، فلكي يتم الوصال بين القلب والقرآن وينعكس ذلك على السلوك؛ لا بد من التفهم والتأثر والتجاوب مع الآيات، فإن لم يحدث ذلك، واكتفى المرء بالقراءة التي لا تتجاوز حنجرته فإن هذه القراءة ستكون في واد، بينما يكون عمله وسلوكه في واد آخر، وليس أدل على ذلك من هذ الواقعة:
بينما كان رسول الله  يقسم مغانم حنين إذ قام رجل فقال: اعدل، فقال: «لقد شقيت إن لم أعدل» .. ثم قال رسول الله : «إن ناسا يجيئون، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية..» ( ).
إن أعظم أثر لقراءة القرآن هو انضباط السلوك، واقتراب الفعل من القول.. فإن لم يحدث دَلَّ ذلك على عدم الوصال القلبي بالقرآن، ولقد كان × دائم التحذير من ذلك، وعندما أخبر بالفتن التي ستمر بها الأمة، ربط ذلك بعدم الانتفاع بالقرآن، فعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله  قال: «ستكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القول ويسيئون الفعل، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ..» ( ).
وعن أبي قلابة قال: قال رسول الله  وذكر شيئًا فقال: «ذلك أوان ينُسخ القرآن»، فقال رجل كالأعرابي: «يا رسول الله ما ينسخ القرآن؟، أو كيف ينسخ القرآن؟»، قال رسول الله : «ويحك يذهب أصحابه، ويبقى رجال كأنهم النعام»، فضرب رسول الله  إحدى يديه على الأخرى، فمدهما يشير بهما، فقال الناس، يا رسول الله أو لا نتعلمه ونعلمه أبناءنا، ونساءنا»، فقال رسول الله : «قد قرأت اليهود والنصارى، قد قرأت اليهود والنصارى»( ).
الوصية بالقرآن:
لا عجب إذًا -أخي القارئ- أن تكون الوصية التي أوصى بها رسول الله  أمته من بعده هي القرآن.
.. ففي صحيح البخاري عن طلحة قال: سألت عبد الله بن أبي أوفي: أأوصي النبي ؟ فقال: لا، فقلت: كيف كتب على الناس الوصية؟، أُمروا بها ولم يُوص؟ قال: أوصى بكتاب الله»( ).
وعندما أخبر  حذيفة بن اليمان بالاختلاف والفرقة التي ستحدث بعده، فقال له حذيفة: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذلك؟! قال: «تعلَّم كتاب الله عز وجل واعمل به فهو المخرج من ذلك».
قال حذيفة: فأعدت عليه ثلاثا. فقال : «تعلم كتاب الله واعمل به فهو النجاة»( ).
وقال يوما لأصحابه: «ستكون فتن» فسألوه: وما المخرج منها؟ قال: «كتاب الله..» ( ).
فالقرآن كان خُلُقه ، ووصيته، وميراثه .. مر أعرابي بعبد الله بن مسعود وعنده قوم يتعلمون القرآن، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود: يقتسمون ميراث محمد ( ).