السبت، 3 مارس 2012

الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم للأستاذ / مجدي الهلالي

الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم
الفصل الرابع من كتاب تحقيق الوصال بين القلب والقرآن
للأستاذ / مجدي الهلالي

إذا كان للقرآن العظيم ذلك الأثر الواضح السريع على كل من يُحسن التعرض له، إلا أن هذا الأثر سيزداد ويزداد كلما طالت فترات المكث معه، وكيف لا وما من لقاء يتم بين القلب والقرآن إلا والإيمان يزداد، والنور يتوهج، والطاقة تتولد، والدافع للاستقامة يقوى.
من هنا ندرك كيف وصل الجيل الأول لهذا المستوى الإيماني غير المسبوق على مستوى البشر العاديين.
ذلك الإيمان الذي ظهرت آثاره العظيمة في كل الاتجاهات والأوقات، فمع أن الصحابة – رضوان الله عليهم – كانوا يضحكون، ويلعبون، ويمارسون حياتهم بصورة متوازنة، إلا أن الإيمان في قلوبهم – كما يقول عبد الله بن عمر- أمثال الجبال( ).
ولذا كان أثر ذلك الإيمان يظهر سريعًا عند التعرض للمواقف الصعبة..
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لم يكن أصحاب رسول الله  منحرفين أو متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمرجاهليتهم، فإذا أُريد أحد منهم على شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون( ).
ولقد كان السبب الرئيس في هذا الإيمان – كما أسلفنا – هو القرآن، فلقد انكبوا على تلاوته، وأعطوه الكثير والكثير من أوقاتهم، وساعدهم على ذلك أستاذهم ومربيهم وقدوتهم، معلم البشرية، محمد ، فقد كان دائم التذكير بمكانة القرآن وعظمته، ومن ذلك قوله: «ما من كلام أعظم عند الله من كلامه، وما رَدّ العباد إلى الله كلاما أحب إليه من كلامه»( ).
وقوله: «القرآن أحب إلى الله من السماوات والأرض ومن فيهن»( ).
تأثر الرسول  بالقرآن:
لقد كان حبه  للقرآن، واهتمامه به لا يُوصف، فقد سيطر القرآن على عقله، واستحوذ على مشاعره، وبلغت قوة تأثيره عليه أن شيَّب شعره، فقد دخل عليه يوما أبو بكر  فقال له: شبت يا رسول الله قبل المشيب. فقال له مبينًا السبب: «شيبتني هود وأخواتها قبل المشيب»( ).
وفي يوم من الأيام قال لعبد الله بن مسعود  «اقرأ علىَّ القرآن»، فقال: أقرأ عليك، وعليك أُنزل؟!، قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري».
قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت إلى هذه الآية فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا [النساء:41] قال: «حسبك»، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان( ).
.. لقد تشبع  بالقرآن تشبعًا تامًا، وتأثر به تأثرًا بالغًا لدرجة أن الإمام الشافعي - رحمه الله- يعتبر أن كل ما حكم به رسول الله  فهو مما فهمه من القرآن( ).
لقد اختلطت معاني القرآن بشخصية الرسول ، وامتزجت بها، فصارت تتمثل واقعًا حيا في شخصه، وكأن القرآن أصبح رسول الله  قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا  رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ [الطلاق: 10، 11] لقد كان بحق: قرآنا يمشي على الأرض، لذلك عندما سئلت السيدة عائشة – رضي الله عنها عن خلقه  قالت: كان خلقه القرآن، يرضي لرضاه، ويسخط لسخطه( ).
التأثير العملي السريع:
وكان للقرآن تأثير سريع عليه  من الناحية العملية، وليس أدل على ذلك من أن جوده وإحسانه كان يزداد أكثر وأكثر بعد أن يدارسه جبريل - عليه السلام- القرآن في رمضان.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبي  أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله  القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة»( ).
يقول ابن حجر تعليقا على هذا الحديث:
وفيه أن مداومة التلاوة توجب زيادة الخير( ).
صفة قراءته:
عندما كان  يقرأ القرآن كان يقرؤه قراءة هادئة، مترسلة، حزينة كما أمره ربه وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ [الإسراء: 106]، وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً[المزمل: 4].
.. فكان يرتل السورة حتى تبدو وكأنها أطول من أطول منها.
.. وكان يمد الحروف في نهاية الآية ليسمح للعقل بتفهم الخطاب الإلهي، وللقلب بالتجاوب معه، والاتعاظ به، فإذا ما مر بآية فيها ذكر الجنة دعا واستبشر، وإذا مر بآية فيها ذكر النار استعاذ منها بالله.
.. ولقد وصفت السيدة أم سلمة – رضي الله عنها- قراءة رسول الله  بأنها (قراءة مفسرة حرفًا حرفًا) ( ).
.. ووصفت السيدة عائشة – رضي الله عنها – ترتيله فقالت: لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها.
.. وفي حديث حفصة – رضي الله عنها – أن النبي  كان يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها( ).
.. وظل  ليلة كاملة يردد آية واحدة هي قوله تعالى: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118] ( ).
ويصف لنا أبو ذر  هذه الليلة فيقول:
صلى بنا رسول الله  ذات ليلة العشاء ثم رجع إلى أهله. فلما تكفأت عنه العيون رجع إلى مقامه فجئت فقمت خلفه قبل أن يركع، فأومأ إليَّ بيده فقمت عن يمينه، ثم جاء عبد الله بن مسعود  فقام خلفنا فأومأ إليه بيده فقام عن شماله – فقام رسول الله  حتى أصبح يتلو آية واحدة من كتاب الله بها يركع، وبها يسجد، وبها يدعو حتى أصبح إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
فلما أصبح قلت لعبد الله بن مسعود  إن رسول الله  فعل كذا وكذا، فلو سألته عن ذلك. فقال عبد الله : بأبي وأمي يا رسول الله قمت الليلة بآية واحدة بها تركع، وبها تسجد، وبها تدعو، وقد علمك الله القرآن كله. قال: «إني دعوت لأمتي»( ).
الحرص على التلاوة اليومية:
وكان  حريصًا على قراءة القرآن كل يوم، وكيف لا وقد أمره الله بذلك إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ  وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل:91، 92].
ولما جاء وفد ثقيف إلى المدينة أنزلهم رسول الله  في قبة بين المسجد وبين أهله، فكان يأتيهم ويُحدِّثهم بعد العشاء، وفي ليلة من الليالي تأخر عليهم ثم أتاهم فقالوا له: يا رسول الله لبثت عنا الليلة أكثر مما كنت تلبث؛ فقال: «نعم، طرأ علىَّ حِزْبي من القرآن، فكرهت أن أخرج من المسجد حتى أقضيه»( ).
ومع ذلك فلم يُؤثّر عنه  أنه قرأ القرآن كله في ليلة واحدة.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: لا أعلم نبي الله  قرأ القرآن في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح( ).
ومما يؤكد هذا المعنى ما رواه الإمام مسلم أن رجلا جاء إلى عبد الله بن مسعود  فقال: إني لأقرأ المُفصَّل( ) في ركعة. فقال عبد الله: هذًّا( ) كهذَّ الشعر؟ إن أقواما يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم. ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه، نفع ..
ثم قال: إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله  يقرن بينهن، سورتين في كل ركعة.. فسُئل عنها فقال: عشرون سورة من المفصل، وفي رواية: ثمانية عشر، وسورتين من آل حم( ).
قال القاضي عياض .. إن هذا كان قدر قراءته غالبًا، وأن تطويله الوارد إنما كان في التدبر والترتيل، وما ورد من غير ذلك في قراءته البقرة والنساء وآل عمران كان في نادر من الأوقات( ).
دعوته  للناس بالقرآن:
ومن مظاهر تأثر الرسول  بالقرآن، وإدراكه لأهميته وأثره العظيم في النفوس، أنه كان يدعو الناس به أكثر ما كان يدعوهم بكلامه هو، وقصته مع عتبة بن ربيعة – أحد أئمة الكفر في مكة – مشهورة، وقد مرت علينا.
وكان  يعرض نفسه على الناس في موسم الحج – قبل الهجرة- فيقول لهم: «هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربي»( ).
وكان يقول لأصحابه: «بلِّغوا عني ولو آية» ( ).
وكان  كثيرًا ما يخطب الجمعة بالقرآن ( )، وهو من هو في البلاغة، ويكفي أنه قد أوتى جوامع الكلم.
روى مسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت: ما أخذت (ق والقرآن المجيد)
إلا عن لسان رسول الله  يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب
الناس ( ).
وروى ابن ماجه عن أُبي بن كعب قال: قرأ رسول الله  يوم الجمعة (تبارك) وهو قائم، فذكرنا بأيام الله، وأبو الدرداء، وأبو ذر يغمزني، فقال: متى أُنزلت هذه السورة؟ فإني لم أسمعها حتى الآن، فأشار إليه أن اسكت( ).
صفاء المنبع:
لقد كان القرآن هو شغل رسول الله  الشاغل، ولِمَ لا وهو أكثر الخلق إدراكًا لأهميته وقدرته على التغيير، ألم يقل له ربه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى: 52].
لذلك كان  حريصًا على عدم انشغال الصحابة بشيء آخر غير كتاب الله حتى يستطيع ذلك الكتاب أن يقوم بوظيفته كاملة في تغيير قلوبهم وعقولهم ونفوسهم، ومن ثمَّ سلوكهم تغييرًا جذريًا. ويكفيك في تأكيد هذا المعنى ما حدث منه × مع عمر بن الخطاب ، فقد مر عمر برجل يقرأ كتابا، فاستحسنه، فقال للرجل: اكتب لي من هذا الكتاب، ثم أتى النبي  فجعل يقرأ عليه، وجعل وجه رسول الله  يتلوَّن، فضرب رجل من الأنصار بيده الكتاب، وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أما ترى وجه رسول الله  منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب؟
فقال رسول الله : «إنما بعثت فاتحًا وخاتمًا، وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه، واخْتُصر لي الحديث اختصارا فلا يهلكنكم المتهوِّكون»( ).
.. يتلوَّن وجهه  ويغضب عندما يجد أحد أصحابه يقرأ أو يستحسن كتابًا آخر غير القرآن، وكيف لا يتغير وجهه وربه يقول له: أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 51].
وعندما طلب منه أصحابه أن يقص عليهم قصصًا، أنزل الله سبحانه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف: 3].
فقد أخرج ابن جرير، عن عون بن عبد الله قال: ملَّ أصحاب رسول الله  ملَّة، فقالوا: يا رسول الله، حدثنا، فأنزل الله تعالى اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: 23]، ثم ملُّوا ملة أخرى فقالوا: يا رسول الله، حدثنا فوق الحديث ودون القرآن – يعنون القصص- فأنزل الله الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ  إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ  نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف: 1- 3].
فأرادوا الحديث، فدلهم على أحسن الحديث، وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص( ).
ترغيبه  للصحابة في تعلم القرآن:
ومع حرصه  على عدم انشغال الصحابة بشيء آخر غير القرآن كان كذلك يستخدم معهم أساليب التشويق المختلفة ليستثير مشاعرهم ويدفعهم للإقبال على القرآن والانشغال به.
روى مسلم عن عقبة بن عامر  قال: «خرج علينا رسول الله  ونحن في الصُفَّة، فقال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بُطحان، أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوَيْن( )، في غير إثم ولا قطيعة رحم» فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك. قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلَم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل»( ).
النبي  بيَّن لأصحاب معاني القرآن:
كما كان رسول الله  حريصًا على تعليم الصحابة ألفاظ القرآن، فإنه كان حريصًا كذلك على تعليمهم معانيه..
يقول د. يوسف القرضاوي: ولقد جعل القرآن من مهام النبي : (تعليم الكتاب والحكمة) وهذا في أربع آيات من القرآن.
ولا ريب أن هذا التعليم ليس هو (التحفيظ) بدليل أنه معطوف على تلاوة الآيات عليهم: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران: 164].
فالتعليم أخص من التلاوة.
إن هذا التعلم والتعليم هو الذي عبرت عنه بعض الأحاديث بـ (التدارس). ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة  أن النبي  قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده».
ومعنى تدارس القرآن: محاولة التعرف على ألفاظه ومبانيه، وعلى مفاهيمه ومعانيه، وما يرشد إليه من العبر، وما يدل عليه من الأحكام والآداب( ).
ويقول الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – ومعنى مدارسة القرآن: القراءة والفهم والتدبر والتبين لسنن الله في النفس والآفاق، ومعرفة الوصايا والأحكام، وأنواع الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وما إلى ذلك مما يحتاج المسلمون إليه( )..
ويؤكد على هذا المعنى الإمام ابن تيمية فيقول:
يجب أن يُعلم أن النبي  بيَّن لأصحابه معاني القرآن كما بيَّن لهم ألفاظه، فقوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] يتناول هذا وهذا.
وقد قال أبو عبد الرحمن السُّلَمى: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي  عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل؛ قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا.
ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلَّ في أعيننا.
.. وذلك أن الله تعالى قال: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص: 29]، وقال: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء: 28]، وقال: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون: 68].
وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن!.
وكذلك قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]، وعقل الكلام متضمن لفهمه.
ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه: فهم معانيه دون مجرد ألفاظه .. فالقرآن أولى بذلك، ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جدًا( ).
ويقول الإمام الزركشي: وقد جاء عن ابن عمر أنهم كانوا يتعلمون ما ينبغي أن يوقف عنده، كما يتعلمون القرآن( ). فتعلم الوقف والابتداء أحد ثمرات تعلم المعاني.
.. من هنا نقول بأن رسول الله  كان حريصًا على تعليم أصحابه القرآن .. لفظًا ومعنى.
.. يقول عبد الله بن عمر: «كان رسول الله  يعلمنا القرآن، فإذا مر بسجود سجد وسجدنا معه»( ).
(ولاشتهار هذا الأمر عن رسول الله  صار أصلاً يقاس عليه غيره، ومن هذا القبيل قول جابر بن عبد الله : «كان النبي  يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن»( ).
فإذا طرأ ما يمنع رسول الله  من مباشرة ذلك بنفسه وكَّل بعض أصحابه للقيام بهذه المهمة.
ومن هذا ما ورد عن عبادة بن الصامت  قال: «كان رسول الله  يشغل، فإذا قدم مهاجر على رسول الله  دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن»( ).
وعن أبي موسى  أن رسول الله  بعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن، فأمرهما أن يعلما الناس القرآن»( ).
لا بديل عن التفهم والتدبر.
ومع هذا الترغيب في تعلم القرآن إلا أنه  كان دائم التحذير لصحابته – ولأمته من بعده – من أن يتحول القرآن من وسيلة عظيمة لإحياء القلب وبث الروح فيه إلى قراءة حنجرية فقط طلبًا للأجر والثواب دون الانتفاع الحقيقي به، فعندما سأله عبد الله بن عمرو بن العاص عن ختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام قال له: «لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث»( ).
ومع حثه  لصحابته على كثرة تلاوة القرآن إلا أنه كان يربط ذلك بالقراءة الهادئة المرتلة المتفهمة للخطاب، والتى من خلالها يتعرض القلب لأنوار القرآن، ومنابع الإيمان فيه فيحدث الوصال، وتدب الروح في القلب شيئًا فشيئًا حتى يحيا حياة كاملة.
تأمل قوله  لصحابته: «من قرأ القرآن في سبع ليالٍ كتب من المخبتين».
قلنا: فمن قرأه في خمس يا رسول الله؟
قال: «إني أخاف أن يُعجلكم عن التفهم، إلا أن تصبروا على مباكرة الليل، فمن فعل كُتب من المقربين».
قلنا: ففي ثلاث يا رسول الله؟
قال: «لا أراكم تطيقون ذلك، إلا أن يبدأ أحدكم بالسورة وأكبر همه أن يبلغ آخرها».
قلنا: فإن أطقناه على تَفَهُّم وترتيل؟!
قال: «فذلك الجهد من عبادة النبيين».
قلنا: ففي أقل من ثلاث يا رسول الله؟
قال: «لا تقرأوه في أقل من ثلاث».
وفي رواية: قالوا: يا رسول الله! وفي أقل من ثلاث.
قال: «لا، ومن وجد منكم نشاطًا فليجعله في حسن تلاوتها»( ).
.. وكان  يدل الصحابة على الوسائل المعينة على تفُّهم القرآن والتأثر به ومن ذلك قوله  في بيان أهمية القراءة بصوت حزين: «أحسن الناس قراءة الذي إذا قرأ رأيت أنه يخشى الله»( ).
- وقوله  عن فضل التسوك قبل القراءة: «إذا قام أحدكم يصلي من الليل فليستك، فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته وضع ملك فاه على فيه، ولا يخرج من فيه شيء إلا دخل فم الملك»( ).
- ولبيان ضرورة الفهم مع القراءة قال : «إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فلينصرف، فليضطجع»( ).
* وللتذكير بأهمية القراءة في المصحف قال : «من سرَّه أن يحب الله ورسوله، فليقرأ في المصحف»( ).
.. وكان  دائم التذكير للصحابة على ضرورة تهيئة الأجواء المناسبة المعينة على التركيز والفهم، ومن ذلك ما رواه أبو داود عن أبي سعيد  قال: اعتكف رسول الله  في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: «ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة»( ).
- وكان  دائم النصح لأصحابه – ولأمته من بعده – بدوام قراءة القرآن وتعاهده حتى يستمر إمداد القلب بالمعاني الإيمانية فتتم التذكرة والتبصرة، ويزداد القرب والوصال، وكان يحفزهم على الإقبال على القرآن بتذكيرهم بالأجر العظيم المترتب على تلاوته، وفي نفس الوقت كان يحذرهم من تركه وعدم المداومة على قراءته حتى لا تتفلت معانيه من العقل والقلب .. ومن ذلك قوله :
«اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلو فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به»( ).
وقوله: «اقرؤوا القرآن؛ فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول (آلم، حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر، فتلك ثلاثون»( ).
«تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده، لهو أشد تفصيا من قلوب الرجال من الإبل من عُقلها»( ).
متابعته  لأصحابه:
كان  يتابع أصحابه في أمر القرآن ومدى تعاهدهم له، وكان حريصا على ألا يمر عليهم يوم دون أن يقرأوا القرآن، تأمل معي قوله : «من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتب له كأنما قرأه من الليل»( ).
وذكر عنده أحد أصحابه فقال: «ذلك رجل لا يتوسد القرآن»( ) ومعنى لا يتوسد القرآن أي يقوم به الليل ولا ينام عنه.
وقال يوما لأصحابه: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار»( ).
ومع هذه المتابعة والحث على تعاهد القرآن فإنه  كان كذلك يتابع أثر القرآن على الصحابة ومدى تمثل ثمرته الحقيقية فيهم، ويكفيك في تأكيد هذا المعنى ذلك الحديث الذي يرويه جبير بن نفير عن أبي الدرداء أنه قال: كنا مع النبي  فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: «هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء». فقال أحد الحاضرين وهو زياد بن لبيد الأنصارى: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه، ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا.
فقال : «ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فما تغنى عنهم».
قال جبير بن نفير: فلقيت عُبادة بن الصامت فقلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ فأخبرته الذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء. إن شئت حدثتك بأول علم يُرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه خاشعًا( ).
وخرج  يوما على أصحابه فوجدهم في حلقة يقرؤون القرآن ويتدارسونه بينهم، ففرح بهم وقال: «الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأخيار، وفيكم الأحمر والأسود، اقرأوا القرآن، اقرأوا قبل أن يأتي أقوام يقيمون حروفه كما يقام السهم لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه»( ).
لقد كان  شديد الحرص على ألا تكون قراءة القرآن بالألسنة والحناجر فقط، فلكي يتم الوصال بين القلب والقرآن وينعكس ذلك على السلوك؛ لا بد من التفهم والتأثر والتجاوب مع الآيات، فإن لم يحدث ذلك، واكتفى المرء بالقراءة التي لا تتجاوز حنجرته فإن هذه القراءة ستكون في واد، بينما يكون عمله وسلوكه في واد آخر، وليس أدل على ذلك من هذ الواقعة:
بينما كان رسول الله  يقسم مغانم حنين إذ قام رجل فقال: اعدل، فقال: «لقد شقيت إن لم أعدل» .. ثم قال رسول الله : «إن ناسا يجيئون، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية..» ( ).
إن أعظم أثر لقراءة القرآن هو انضباط السلوك، واقتراب الفعل من القول.. فإن لم يحدث دَلَّ ذلك على عدم الوصال القلبي بالقرآن، ولقد كان × دائم التحذير من ذلك، وعندما أخبر بالفتن التي ستمر بها الأمة، ربط ذلك بعدم الانتفاع بالقرآن، فعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله  قال: «ستكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القول ويسيئون الفعل، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ..» ( ).
وعن أبي قلابة قال: قال رسول الله  وذكر شيئًا فقال: «ذلك أوان ينُسخ القرآن»، فقال رجل كالأعرابي: «يا رسول الله ما ينسخ القرآن؟، أو كيف ينسخ القرآن؟»، قال رسول الله : «ويحك يذهب أصحابه، ويبقى رجال كأنهم النعام»، فضرب رسول الله  إحدى يديه على الأخرى، فمدهما يشير بهما، فقال الناس، يا رسول الله أو لا نتعلمه ونعلمه أبناءنا، ونساءنا»، فقال رسول الله : «قد قرأت اليهود والنصارى، قد قرأت اليهود والنصارى»( ).
الوصية بالقرآن:
لا عجب إذًا -أخي القارئ- أن تكون الوصية التي أوصى بها رسول الله  أمته من بعده هي القرآن.
.. ففي صحيح البخاري عن طلحة قال: سألت عبد الله بن أبي أوفي: أأوصي النبي ؟ فقال: لا، فقلت: كيف كتب على الناس الوصية؟، أُمروا بها ولم يُوص؟ قال: أوصى بكتاب الله»( ).
وعندما أخبر  حذيفة بن اليمان بالاختلاف والفرقة التي ستحدث بعده، فقال له حذيفة: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذلك؟! قال: «تعلَّم كتاب الله عز وجل واعمل به فهو المخرج من ذلك».
قال حذيفة: فأعدت عليه ثلاثا. فقال : «تعلم كتاب الله واعمل به فهو النجاة»( ).
وقال يوما لأصحابه: «ستكون فتن» فسألوه: وما المخرج منها؟ قال: «كتاب الله..» ( ).
فالقرآن كان خُلُقه ، ووصيته، وميراثه .. مر أعرابي بعبد الله بن مسعود وعنده قوم يتعلمون القرآن، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود: يقتسمون ميراث محمد ( ).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق