تداو ل السلطة السياسية في الشريعة الإسلامية إعداد : محمد أحمد أبو غدير المحامي
بحث قدم الى :
المؤتمر العام الأول للمحامين بمدينة رأس البر
في الفترة من 11/9 إلى 14/9/2001م
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله
صلى الله عليه و آله و من والاه
أما بعد
هل تعرف الشريعة الإسلامية مبدأ تداول السلطة ؟ ، و هل يمكن أن يتحول هذا المبدأ إلى واقع في ظل الدولة الإسلامية المنشودة ؟
هذا السؤال يتردد كثيرا - في واقعنا المعاصر- على صعيد العمل السياسي ، قد يكون الدافع إليه إحراج الباحثين في فقه الشريعة الإسلامية و اتهام هذه الشريعة بالقصور و عدم مواكبة النظم الدستورية الحديثة و وصم الدولة الإسلامية المرتقبة بالدكتاتورية و القهر و أنه لا مكان - في ظلها - لتداول السلطة و التعددية السياسية ، و قد يكون الدافع إليه هو إظهار عجز الحركة الإسلامية عن أن تقدم تصورا لمستقبل العمل السياسي و برنامج الحل الإسلامي الذي تنشده و تلح في طلبه صباح مساء .
و أيا كان الدافع إلى هذا التســاؤل ، فهو جدير بالإجابة عليه ، أو هو - بالمعنى الصحيح - جدير بأن يوضع على مائدة البحث و النقاش ، لنضع أطروحة أو اجتهاد فقهي نمهد به لدراسة أوسع و أعمق .
و تداول السلطة تتمثل في وجود حاكم استوفى كافة الشروط اللازمة لتولي الحكم ، و تم ترشيحه بواسطة أهل الحل و العقد ، وانعقد له الحكم بموجب البيعة من عامة الأمة - وبالرغم من أنه على قيد الحياة و لم بتم عزله - انتهت مدة حكمه بموجب العقد الذي تولى به و عادت السلطة إلى الأمة مرة أخرى لكي تقوم بإعادة الاختيار من جديد ، و يتقرر الحق لكل التكتلات السياسية الموجودة أن تعرض برامجها السياسية على الأمة لتتولى المقارنة بين مدى فاعلية هذه البرامج و مدى مصداقية القائمين عليها ، و من تمنحه الأمة ثقتها و تبذل له تأييدها تنتقل سلطة الحكم إليه إلى حين ، و تبقى بقية البرامج و القائمين عليها في الظل ترقب مسار العمل السياسي و تتابع مستجداته و تجدد نفسها في ضوئه .
و بناء على هذا المثال تداول السلطة يتطلب البحث في المسائل الآتية :
! : سلطة حكم شرعية قائمة .
2 : نظام شرعي يبيح التعددية السياسية .
3 : وثيقة تقرر حقوق و حريات تكفل مناخ سياسي من خلاله يتم انتقال السلطة من حزب إلي آخر .
لذلك أرى أن أسير في هذا البحث بالخطة الآتية
المطلب الأول : قيام سلطة الحكم و انتهاؤها في الشريعة الإسلامية
الفرع الأول : قيام سلطة الحاكم
الفرع الثاني : انتهاء سلطة الحكم
الفرع الثالث : مشروعية توقيت مدة الحكم
المطلب الثاني : الـتـعـدديـة الســياســـية في الشريعة الإسلامية
الفرع الأول : رأي القائلين حرمة إنشاء الأحزاب السياسية
الفرع الثاني : الرد على من قال بالحرمة
الفرع الثالث : رأي القائلين بمشروعية الأحزاب السياسية
المطلب الثالث : الحرية السياسية و تداول السلطة السياسية
الفرع الأول : حرية الترشيح و الانتخاب
الفرع الثاني : حرية الرأي و الشورى
الفرع الثالث : الحق في مراقبة و محاسبة الحاكم
الخـاتمة
المراجع
الفهرست
المطلب الأول
قيام سلطة الحكم وانتهاؤها
في الشريعة الإسلامية
تمهيد ويشمل فقرتين :
أولا : أساس العلاقة بين الحاكم و المحكومين :
العلاقة بين الحاكم و المحكومين أساسها عقد طرفاه الخليفة من ناحية و أولي الرأي من الناحية الأخرى و لا ينعقد إلا بإيجاب من أولي الرأي من الأمة و القبول من جانب الحاكم و ينعقد الحكم بترشيح أهل الحل و العقد من الأمة و المبايعة العامة من الأمة ، و هذا العقد يسمى عقد الخلافة .
فالحاكم أو الخليفة هو وكيل الأمة - الذي اختارته - و نائبها ، و مركزه القانوني هو مركز النائب و الوكيل عن الأمة و قد أدرك الفقهاء هذا المعنى و صرحوا به ، قال الماوردي - حال بيانه أثر موت الخليفة أو الوزير على سلطة أمير البلد أو القصر - ما نصه : ( و إذا كان تقليد الأمير من قبل الخليفة لم ينعزل أمير البلاد بموت الخليفة ، و إن كان من قبل الوزير إنعزل بموت الوزير لأن تقليد الخليفة نيابة عن المسلمين و تقليد الوزير نيابة عن نفسه )
ثانيا : تعريف الخلافة و حكمها :
الخلافة - كما يعرفها الأستاذ / عبدالقادر عودة - هي : ( عقد بين الحاكم و الأمة يتم بالتراضي بينهما يلتزم فيه الأول بأن يشرف على الشؤون العامة للأمة في الداخل و الخارج نما يحقق مصلحتها في حدود الإسلام ، و في مقابل ذلك تلتزم له الأمة على لسان ممثليها - الذين اختاروه إماما - أن تسمع له و تطيع أمره )
وفي هذا المطلب نتناول الفروع الآتية
الفرع الأول : قيام سلطة الحاكم
الفرع الثاني : انتهاء سلطة الحكم
الفرع الثالث : مشروعية توقيت مدة الحكم
الفرع الأول
قيام سلطة الحاكم
يتولى الحاكم - في ظل الشريعة الإسلامية - مهام منصبه بعد بيعة عامة المسلمين له و منذ هذه اللحظة ويتولى وظيفته و هي إقامة الدين و سياسة الدولة وهو المسئول عن إقامة الشورى و تنفيذ الأحكام ، لذلك لا يصلح كل شخص أن يكون حاكما لكون هذه الوظيفة تقتضي أن يكون شاغلها متحليا بصفات معينة و شروط خاصة .
و الحاكم - في فقه الشريعة الإسلامية - لا يفرض على المسلمين ، بل هم الذين يختاروه انتخابا و يتم ذلك بعد اختيار أهل الحل و العقد لأكثر المرشحين للحكم فضلا و أكملهم شروطا ، ثم البيعة العامة من كل المسلمين ، لذلك وجب أن يشمل هذا المطلب النقاط الآتية :
أولا : الشروط الواجب توافرها في الحاكم
ثانيا : طرق انعقاد الحكم
ثالثا : إجراءات اختيار الحاكم
أولا : الشروط الواجب توافرها في الحاكم
لعل أبو الحسن المارودي قاضي قضاة بغداد هو أول من قنن الشروط الواجب توافرها فيمن يرشح للخلافة ووسع في دائرتها ، فذكر أن الشروط المعتبرة في أهل الإمامة سبعة : العدالة على شروطها العامة ، والعلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام ، وسلامة الحواس والأعضاء والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح ، والشجاعة المؤدية حماية البيضة وجهاد العدو والنسب بأن يكون من قريش .
يرى الفقهاء المعاصرين أن الشروط المنطلقة في الخليفة لا تخرج عن كونها الإسلام والعدالة والكفاءة وذلك على التفصيل الآتي :-
1. الإسلام : وهذا شرط طبيعي لأن وظيفة الخليفة تقتضي هذا ، فمهمته إقامة الإسلام وتوجيه سياسة الدولة في حدود الإسلام ، ولا يستطيع أن يقوم بذلك على وجهه الصحيح إلا المسلم المؤمن بالإسلام ويعرف مبادئه واتجاهاته ، فضلاً عن أن الإسلام يحرم أن يلي أمر المسلمين غير المسلم ، قال تعالى " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون الله ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء " ( النساء : 141 ) ويعلق ابن حزم على هذه الآية بقوله " والأمانة أعظم السبيل " .
2. العدالة : ومعناها الواسع أن يخشى الله تعالى في كل أمر وأن يقيم حدود الإسلام وينفذ أحكامه بلا ظلم أو جو ، وأن يختار خاصته ومعاونيه ممن تتوافر فيهم الكفاءة اللازمة بلا محاباة ولا تحيز ، فلا يؤثر قريباً ولا صديقاً .
3. الكفاءة : وهي تشمل القدرات والإمكانيات التي تمكن من القيام بمهام المنصب بالقدر المتيقن لدى أوساط الناس على النحو التالي :-
أن يكون بالغاً : لأن غير البالغ - كما يقول المارودي - لا يجري عليه قلم ولا يتعلق بقوله على نفسه حكم ، فكان الأولى ألا يتعلق به على غيره حكم ، وكما قال ابن حزم أن جميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة امرأة أو صبي لم يبلغ .
و أن يكون عاقلا : و كما يقو ل الماوردي - لا يكفي العقل الذي يثبت به التكليف بل يلزم العلم بالمدركات الضرورية ليكون صحيح التمييز جيد الفطنة بعيدا عن السهو و الغفلة حتى يتوصل به إلى إيضاح ما أشكل و فصل ما أعضل .
و يشترط كذلك العلم و الشجاعة : و يكفي من العلم ما يلزم أمور الدين و السياسة الأحكام و لا يشترط الاجتهاد ، و من الشجاعة ما يمكنه من إصدار قراراته و تنفيذ الأحكام و الحدود
و ما فوق ذلك من قدرات و إمكانات يعوض باستشارة أهل الخبرة و الرأي .
ثانيا: طرق انعقاد الحكم
حدد الفقهاء المسلمين طرق انعقاد الحكم بأكثر من وجه تكاد تنحصر في الطرق الآتية :
1 : الاختيار و البيعة العامة ، 2 : الاستخلاف و ولاية العهد , 3 : النص أو الوصية . 4 : التغلب و القهر ، و نرى أن الطريق الوحيد لانعقاد الحلم هو طريق الاختيار و الانتخاب
الاختيار و البيعة
هو الطريق الوحيد لانعقاد الحكم في الشريعة الإسلامية
لا خلاف بين فقهاء أهل السنة من المسلمين على أن الخلافة تنفذ باختيار أهل الحل و العقد ، قال أبن خلدون ( و إذا تقرر أن هذا المنصب واجب بإجماع المسلمين - فهو من فروض الكفاية و راجع إلى أهل الحل و العقد - فتعين عليهم نصبه و يجب على الخلق جميعا طاعته )
و قال الماوردي ( و الخلافة تنعقد من وجهين : أحدهما باختيار أهل الحل و العقد )
و يرى فقهاء العصر الحديث أن الطريق الوحيد لتنصيب الحاكم هو الانتخاب ، فيقول العميد الطماوي ( و إذا استثنينا شيعة علي كرم الله وجهه فإن فقهاء المسلمين قد أجمعوا على أن الطريق الوحيد لاختيار الخليفة هو اختيار المسلمين ) و يرى الأستاذ عبد القادر عوده ( أن الإمامة تنعقد عن طريق واحد مشروع لا ثان له و هو اختيار أهل الحل و العقد و قبول الإمام أو الخليفة .
فالخلافة ليست إلا عقد طرفاه الخليفة من ناحية و أولو الرأي من الأمة من الناحية الأخرى ، و لا ينعقد إلا بإيجاب من أولي الأمر من الأمة و أهل الشورى و قبول من جانب الحاكم .
ثالثا : إجراءات اختيار الحاكم
هذا الاختيار يمر بمراحل ثلاثة هي :
1 : اختيار أهل الحل و العقد لأفضل المرشحين .
2 : قبول من وقع عليه الاختيار .
3 : البيعة من عامة الناس . نبينهم بإجاز فيما يأتي :
1 : اختيار أهل الحل و العقد لأفضل المرشحين :
مما لاشك فيه أن مهمة اختيار الحاكم خطيرة و دقيقة لذلك فإن هذا الأمر لا يعهد إلى عامة الناس ، إنما يوكل إلى ذوي إمكانات و كفاءات تمكنهم في النظر في الشروط التي يجب أن تتوافر في المرشح لتولي هذا المنصب الخطير و كذلك البحث و المفاضلة و الترجيح بين من يحمل هذه الشروط .
لذلك يتولى هذا الاختيار أهل الحل و العقد الذين يتصفون بالصفات الآتية :
العدالة الجامعة لشروطها و العلم و الإلمام بالشريعة الإسلامية و على وجه الخصوص الشروط الواجب توافرها فيمن يتولى الخلافة و أن يتصف بالحكمة التي تمكنه من اختيار الأصلح .
و يتم الاختيار باجتماع أهل الحل و العقد و النظر في المرشحين الذين تتوافر فيهم الشروط فيقدموا البيعة منهم أكثر فضلا و أكملهم شروطا و من يسرع الناس إلى طاعته و لا يتوقفون عند بيعته .
2: قبول من وقع عليه الاختيار
فإذا تعين لأهل الحل و العقد من بين المرشحين من هو أهلا للخلافة عرضوا عليه الخلافة فأن أجاب إليها بايعوه و انعقدت بيعتهم له بالخلافة و إن أمتنع و لم يقبلها لا يجبر عليها ، و كان عليهم العدول عنه إلى سواه من مستحقيها .
3: البيعة من عامة الناس
الحقيقة أن عقد الخلافة لا يصح نهائيا بمجرد اختيار أهل الحل و العقد إذ لابد من موافقة الأمة لهذا الاختيار و إعلان رضاها عن شخصه و هذا ما يسمى بالبيعة العامة .
و البيعة هي العهد على الطاعة ، ذلك لن المسلم إذا بايع أميره يكون قد عاهده على السمع و الطاعة و اليد هي الترجمان الذي يترجم هذا المعنى و يخرجه إلى حيز التنفيذ .
الفرع الثاني
انتهاء سلطة الحاكم
لما كانت الخلافة عقداً بين الأمة وبين الخليفة ، فإن هذا العقد يظل منتجاً لآثاره ما دام سليماً . فإذا طرأ على هذا العقد ما يبطله ، كان لذلك صداه على مركز الخليفة ، ومن ثم فإن الخليفة يفقد منصبه في رأي الفقهاء للأسباب الآتية :-
أولا : موت الحاكم
من المسلم به أن السلطات التي يستمدها الخليفة من عقد الخلافة هي سلطات شخصية ، بمعنى أن تلك السلطات لا تسمح له بأن ينقل سلطاته إلى أحد غيره بعد وفاته .. وكل ماله في هذا الخصوص ينحصر في ترشيح من يراه صالحاً في هذا المنصب ، على أن تكون الكلمة النهائية في الاختيار للمسلمين .
فبوفاة الحاكم ، تصبح الولاية شاغرة و يجب اتباع الإجراءات المقررة لتنصيب الحاكم الجديد و يجب على الناخبين انتخاب حاكم جديد أو مبايعة الشخص الذي أستخلفه المتوفى - عند الاقتضاء - إن وجد و ليس هناك فترة محددة لمبايعة الحاكم الجديد و لكن لا يجوز وهذا هو السبب الطبيعي والغالب لفض المنصب ، القاعدة التي استقرت في تقاليد المسلمين هي عدم توقيت الخلافة بمدة زمنية بل يظل الخليفة ما دام قادراً على ذلك ، وما لم يطرأ عليه أسباب تجيز عزله ، لأنها حالة عاجلة تمس المصالح الجوهرية للأمة الإسلامية لذلك فإنه فور وفاة الرسول كان أول اهتمام المسلمين هو القيام باختيار الخليفة الأول أبوبكر الصديق ، و قدموا ذلك على دفن النبي
ثانياً : تنحي الحاكم عن منصبه أو استقالته
أجاز الفقهاء للحاكم أن ينحي نفسه مختاراً عن المنصب ، يقول المواردي : ( وإذا خلع الخليفة نفسه انتقلت إلى ولي عهده وقام خلعه مقام موته .ويرى د/ السنهوري أن هذا الرأي يستند إلى أنه من صالح سير نظام الخلافة ألا يفرض على الخليفة على البقاء إرادته إذا أراد التنحي عن مهام منصبه ، و لا يعني هذا أن الاستقالة من المنصب تؤدي إلى أيلولة الخلافة آلياً إلى من عينه الخليفة ، لأن الخلع يقوم مقام الموت بمعنى أن يتعين استيفاء إجراءات تعيين الخليفة الجديد وفقاً للخطوات السابق بيانها ، ويرى الفقهاء أن استقالة الخليفة بمجرد أن تأول الخلافة إلى شخص معين يعينه هو أمر غير مشروع
ثالثاً : عزل الحاكم من منصبه
تسقط ولاية الحاكم إذا تغير حاله تغييراً نتج عنه فقد واحدة أو أكثر من شروط الأهلية المطلوبة عند إتمام عقد الخلافة ، وقد عددها الماوردي في حالتين هما : وجود عيب أو نقص معنوي يزيل عنه صفة العدالة والثاني نقص أو عيب عضوي أو جسماني .
عزل الحاكم لأسباب معنوية
ا . الردة : لما كان يشترط فيمن يتولى الحكم - في الدولة الإسلامية - أن يكون مسلماً فإنه يترتب على ذلك أن تسقط عنه الولاية بحكم القانون إذا ارتد .
ب.الفسق : إذا فقد الحاكم صفة العدالة بفسقه تسقط عنه الولاية ، والفسق نوعان : الفسق الظاهري المعروف بذلك لأنه يظهر في السلوك الخارجي كارتكاب المعاصي والتجرؤ على الأعمال المكروهة مع إتباع الشهوات والاستسلام للأهواء وهو يظهر في السلوك الشخصي للحاكم سواء في حياته الخاصة أو حال ممارسته السلطة في الحياة العامة ويعتبر الخليفة فاسقاً بهذا المعنى إذا ارتكب إحدى الكبائر أو اعتاد ارتكاب الصغائر ، أما النوع الثاني : من الفسق المعنوي يتحقق بخروج الحاكم في ممارسته ولايته عن الأصول الشرعية إذا تجاوز سلطاته أو أساء استعمال ولايته .
وهنا يثور سؤال : هل يترتب على الفسق سقوط الولاية تلقائياً بحكم القانون أم أنه يجب خلع الحاكم بقرار من جهة ما ؟ يرى الإمام الشافعي أن السقوط يقوم تلقائياً بحكم القانون ، ويرى البعض أن السقوط يكون بقرار من الأمة أو من يمثلونها .
الفرع الثالث
مشروعيةتوقيت مدةالحكم
لا خلاف أن الحاكم - في الدولة الإسلامية - إذا تولى الحكم يستمر في حكمه مادامت شروط اختياره متوافرة في حقه ، وهذا ما جرى عليه العمل و حكاه التاريخ عبر الدولة الإسلامية منذ الخلافة الراشدة و حتى سقوط الدولة العثمانية في بداية القرن الماضي .
و لما كان الحاكم يتولى حكمه بموجب عقد الخلافة المبرم بين الأمة و الحاكم فإنه يجوز للأمة صاحبة الحق الأصيل حال إبرامها لهذا العقد أن تضع له مدة محددة فإذا انتهت هذه المدة عاد هذا الحق إلى الأمة من جديد فهي بالخيار في أن تختار ذات الحاكم أو تختار غيره ، و هذا هو الأساس الذي يبنى عليه نظام تداول السلطة .
هل في نصوص الشريعة الإسلامية من النصوص أو القواد الفقهية ما يؤيد هذا الرأي ؟ ذلك هو موضوع هذا الفرع الذي نعالج فيه النقاط الآتية :
1 : طبيعة العلاقة بين الحاكم و المحكومين .
2 : جواز تقييد عقد الخلافة بشروط.
3 : مشروعية توقيت عقد الخلافة
و سوف نبين ذلك بشيء من التفصيل :
أولا : طبيعة العلاقة بين الحاكم و المحكومين
الخلافة عقد بين الحاكم و الأمة يتم بالتراضي بينهما و الاختيار يلتزم فيه الأول بأن يشرف على الشئون العامة للأمة في الداخل و الخارج بما يحقق مصلحتها في حدود الإسلام و في المقابل يلتزم له الأمة - على لسان ممثليها الذين اختاروه إماما - أن تسمع له و تطيع أمره .
فالحاكم أو الخليفة هو وكيل الأمة - التي اختارته - و نائبها و مركزه القانوني هو مركز النائب و الوكيل عنها و قد أدرك الفقهاء هذا المعنى و صرحوا به ، فمن أقوالهم في هذا الباب ما ذكره المودودي وهو يتكلم عن موت الخليفة والوزير و أثر ذلك في سلطة الأمير فقال ما نصه ( و إذا كان تقليد الأمير من قبل الخليفة لم ينعزل بموت الخليفة و إذا كان من قبل الوزير عزل بموت الوزير ، لأن تقليد الخليفة نيابة عن المسلمين و تقليد الوزير نيابة عن نفسه )
ثانيا: جواز تقييد عقد الخلافة بشروط .
إذا كانت الخلافة عقدا - كما سبق البيان - فإنه يجوز تقييدها بما يقيد سائر العقود من الشروط و القيود شريطة أن تكون في دائرة الشرعية ، فلا تحل حراما و لا تحرم حلالا و لا تأمر بمنكر و لا تنهى عن معروف .
و مبدأ تعليق الولاية بالشروط من المبادئ المعروفة في الفقه الإسلامي و لقد عنون الشوكاني في نيل الأوطار فقال : ( باب تعليق الولاية بشروط ) و ساق ما رواه البخاري عن أبن عمر قال : (( أمر رسوا الله في غزوة مؤته زيد بن حارثة و قال إن قتل زيد فجعفر ، و إن قتل جعفر فعبد الله بن رواحه )) ، و لقد أشار الماوردي إلى جواز تعليق تولية الخليفة بشروط و استشهد بعمل النبي في تولية القواد في غزوة م}ته ، وعلل ذلك بأن الولاية من المصالح العامة التي يتسع حكمها على أحكام العقود الخاصة ، و لا فرق هنا بين الولاية الجزئية - المشار إليها - و الولاية العامة و هي الولاية العظمى المراد الاستدلال عليها إذ كلا الولايتين عقد من العقود لم يتغير إلا أطرافه و لكن حقيقة التعامل قائمة في الحالتين فتنصرف مشروعية التقييد إلى كليهما .
ثالثا : مشروعية توقيت عقد الخلافة
بناء على ما سبق بيانه فإنه إذا تم النص في عقد التولية على تقييده بمدة زمنية معينة فلا حرج في ذلك ، و يصبح هذا التقييد ملزما للكافة ، و لا يعتبر السعي لتولي مقاليد السلطة بعد انتهاء المدة الدستورية شقا لعصا المسلمين ، ولا خروج على جماعتهم و لا منازعة لأئمتهم ، و إنما يكون من جنس السعي لإقامة الإمامة في حالة خلو الزمان من الأمام و شغوره من السلطان .
و يقول المبارك فوري ( إذا اتفقت الأمة و الشورى على دستور يقضي بنهاية الحكم بمجرد انتهاء فترة محددة فإن سيبقى بعد ذلك على كرسي الحكم لا يكون حاكما شرعيا ، و إنما يكون مشرفا مؤقتا أمسك بزمام الحكم ليسلمه إلى من يتفق عليه الناس ، ومن خاض معركة الانتخاب ليتسلم زمام الحكم بعد نهاية
هذه الفترة فليس هو بمنازع على الحكم ‘ ولا مفرقا لأمر الأمة بعد اجتماعها على أحد ، بل هو إنما يستعد لأخذ زمام الأمة في حال خلوها من الأمير .
و يجوز في تلك الحالة أن يتعدد المرشحون الذين تقومون أو يقامون لتتفق الأمة على واحد منهم ، كما وقع عند خلافة الصديق ة خلافة عثمان رضي الله عنهما فإذا انعقدت الحكومة بأغلبية أصوات الأمة ، و استلم الرجل المنتخب زمام الحكم فحينئذ لا يجوز لحد أن يقوم لينازعه طوال فترة حكمه التي اتفق عليها الأمة و الشورى تحت الدستور .
المطلب الثاني
الـتـعـدديـة الســياســـية
في الشريعة الإسلامية
تمهيد :
مما لاشك فيه أن الأحزاب السياسية باعتبارها تكتلات سياسية تعمل بالوسائل الديموقراطية للوصول إلى الحكم لتنفيذ برنامجا معينا ، هي وليدة الديمقراطية الغربية التي تقوم على أساس علماني و هو فصل الدين عن الدولة ، فهل يتسع فقه الشريعة الإسلامية لتعدد الأحزاب السياسية ؟ ،
و الحقيقة أن الأحزاب السياسية - باعتبارها تكتلات سياسية تعمل بالوسائل الديموقراطية للوصول إلى الحكم لتنفيذ برنامجا معينا - من المسائل الحادثة التي لا عهد للأمة بها من قبل ، لذلك قد تفاوتت اجتهادات الفقهاء المعاصرين في هذه القضية و بين رأيين : الأول يرى حرمة الأحزاب السياسية و الآخر يرى مشروعيتها .ويبقى على الاتجاه القائل بمشروعية التعددية داخل الإطار الإسلامي أن يبين كيفية استيعابها .
تباينت آراء الفقهاء حول قضية الأحزاب السياسية في الشريعة الإسلامية على اتجاهين هما:
الاتجاه الأول : يرى حرمة إنشاء الأحزاب السياسية :
الاتجاه الثاني : يرى مشروعيتها :
و فيما يلي عرض هذين الاتجاهين ، مع مناقشة أدلة القائلين بالحرمة و نرد عليها :
الفرع الأول
رأي القائلين حرمة إنشاء الأحزاب السياسية
يرى أنصار هذا الاتجاه أن نظام الأحزاب السياسية لا سبيل له في المجتمع الإسلامي ، و لا تتسع له المذاهب الفقهية لما يخرقه من الأصول و القواعد الشرعية، و لما يقضي إليه من المآلان الوخيمة و العواقب المنكورة ، و أنه يجب أن تسد الذرائع إليه بكل سبيل ، و قد استدل القائلون بالمنع بعدد من الأدلة نوجز بيانها في الآتي :
أولا الأدلة الشرعية ينهى عن التفرق و تحض على الاجتماع
ففي القرآن : قاله : إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم في شئ
و قال و اعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
و قوله أيضا و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم
ففي هذه الآيات - و الكثير غيرها - نهي من الله تعالى عن التفرق في الدين و التنازع المفضي إلى الفشل و ذهاب الريح ، و أمر بالاعتصام بحبل الله عز و جل .
و من السنة : قول النبي (( الجماعة رحمة و الفرقة عذاب ))
و قوله (( عليكم بالجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد ، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ))
و قوله (( من أتاكم و أمركم جميعا على قلب رجل واحد يريد أن يشق عصاكم و يفرق جماعتكم فاقتلوه بالسيف كائنا من كان )) رواه مسلم
ثانيا : إن الأحزاب السياسية لم تذكر في النصوص الشرعية إلا مقترنة بالوعد و الوعيد و اقتصرت الإشارة بها إلى أعداء الدين ، و في المقابل لم يشر إلى جماعة المسلمين بتعبير الأحزاب فقط .
و إنما أشير إليهم بصيغة المفرد على أنهم حزب الله و ذلك في موضعين فقط من القرآن الكريم ، فدل ذلك على أ، الشريعة الإسلامية لا تتسع إلا لحزب واحد فقط هو حزب الله ، أما الأحزاب الأخرى هي تعبير يتسع لجميع الفرق و النحل الخارجة عن جماعة المسلمين .
ثالثا : الأدلة الشرعية تنهى عن التنافس و طلب الإمارة و تتوعد من فعل ذلك بالخذلان و سوء العاقبة و من أمثلتها :
ما رواه البخاري ومسلم : عن أبى موسى الأشعري قال : ((دخلت على النبي أنا ورجلان من قومي فقال أحد الرجلين أمرنا يا رسول الله وقال الآخر مثله فقال رسول الله أنا لا نولي هذا من سأله و لا من حرص عليه ))
و ما رواه البخاري و غيره عن أبي هريرة عن النبي قال (( إنكم ستحرصون على الإمارة و ستكون ندامة يوم القيامة ، فنعم المرصفة و نعم الفاطمة ))
و نظام الأحزاب قائم على التنافس علو الإمارة و الوصول إلى الحكم و منازعة السلطة القائمة ، وكم تستحل باسم ذلك حرمات ويقطع أرجاء و تمزق أواصر .
رابعا : ومن السنة النبوية ما توجب طاعة الأئمة في غير معصية و تنهى عن منازعتهم و تحرم الخروج عليهم ، و نذكر من هذه النصوص ما يأتي :
ما رواه البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم (( أسمعوا و أسمعوا أطيعوا ولو أستعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ))
و ما رواه مسلم عن ابن عمر من قوله (( من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة و لا حجة له ، ومن مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ))
و من المعلوم أن التعددية السياسية قائمة على التنافس على طاب الولاية و السعي إلى الحكم هو مفرق الطرق بين الأحزاب السياسية و بين غيرها من التكتلات البشرية الأخرى ، فأنى تتحقق المشروعية لهذا النظام مع قيامه ابتداء على مناقضة هذه النصوص ؟ .
خامسا : فشل التجارب الحزبية المعاصرة غي أغلب البلاد الإسلامية :
لا نعرف حزبا معاصرا في أي بلد من بلاد المسلمين و في بما عاهد الشعب عليه قبل الانتخابات ، بل كان في الجملة وبالا على الأمة و جرثومة تنخر في كيانها و قرحات اخترقت الأمة من خلالها ، فالأحزاب السياسية في مقاعد المعارضة لم تأل جهدا في تشقق الأمة و إثارة الأحقاد و العداوة بين أبنائها و في موقع السـلطة سوم الأمة سوء العذاب و تاجرت بالبلاد ، فلا خير فيها حاكمة و لا خير فيها معارضة .
هذه خلاصة الأدلة التي ذهب إليها القائلون بالمنع المطلق من إنشاء الأحزاب السياسية في الإسلام .
الفرع الثاني
مناقشة رأي القائلين بالحرمة
أولا: بالنسبة للرأي القائل بأن الأحزاب السياسية لم تذكر في النصوص الشرعية إلا مقترنة بالوعد و الوعيد و اقتصرت الإشارة بها إلى أعداء الدين ، و في المقابل لم يشر إلى جماعة المسلمين بتعبير الأحزاب فقط ، فيمكن أن يناقش و يرد عليه بالآتي :
أ : إن المفهوم الحديث للحزب السياسي يختلف عن مفهوم الحزب الوارد في القرآن الكريم على سبيل الذم: إن الحزب بالمفهوم المعاصر مجموعة متآلفة من الناس يجمع بينهم وحدة الاتجاه السياسي داخل الإطار الإسلامي فهو أشبه ما يكون بالمذهب الفقهي ، وقد تلقت الأمة المذاهب الفقهية بالقبول ، ولم تعتبر ذلك نوعاً من التعددية المرفوضة لأن تفاوت الاجتهادات وتباين الآراء سنة من سنن الاجتماع ، وطبيعة من طبائع البشر .
أما الأحزاب بمفهومها القديم فهي تكتلات عشائرية أو قبلية أو قومية تؤلف بينها العصبيات الجاهلية ، وتجمع بينها وحدة الالتقاء على حرب الإسلام والكيد لأهله ، فهي مرفوضة لهذا المعنى سواء سميت حزباً أو جماعة أو أمة أو تنظيماً أو دولة أو ما شاء أصحابها من المسميات ، فإن المذموم ليس مجرد التسمية وإنما الاجتماع على أواصر جاهلية والانتصاب لحرب الله ورسوله .
ب : بالنسبة لما ورد في القرآن الكريم و السنة المطهرة وينهيان عن التفرق و تحضان على الاجتماع وتصف الاجتماع بالرحمة والفرقة بالعذاب :
لابد أن تحمل على التفرق في الأصول الكلية التي خالفت به الفرق الضالة جماعة المسلمين ، أو على التعصب الذي ينشأ عن هذا الخلاف ويؤدي إلى التهارج والتدابر وفساد ذات البين .
أما مجرد تفاوت الآراء في المسائل الاجتهادية فلا حرج فيه ولا تثريب على أصحابه لأن النصوص في هذا المجال ظنية ذات أوجه وتفاوت المدارك سنة من سنن الله في الخلق .
ولقد وقع هذا الخلاف من صحابة رسول الله فكان اختلافهم رحمة على الأمة ، حتى قال بعض أهل العلم : ( إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة ) .
ومعنى ذلك أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفرعي فيهم فكان فتح باب للأمة للدخول في هذه الرحمة ، وكيف لا يدخلون في قسْم ( من رحم ربك ) الوارد في قول الله يعالى (( و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ))؟! فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها والحمد لله .
ثالثا : و بالنسبة للأدلة الشرعية التي تنهى عن التنافس و طلب الإمارة و تتوعد من فعل ذلك بالخذلان و سوء العاقبة وهذا أصل عام صرحت به النصوص السابقة ولكن يرد عليه الإستثناءات الآتية :-
أ. من تتعين عليه الإمارة فله أن يطلبها بل قد يغفر له الحرص عليها وذلك استدلالاً بطلب يوسف عليه السلام للولاية من عزيز مصر كما قال تعالى " قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " يوسف : 55 وقال الألوسي في تفســير هذه الآية : ( وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه بالحق إذا جهر به ، وجواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة ) .
ب. إن المتأمل في الأحاديث التي تنهى عن تزكية النفس وطلب الولاية يستطيع أن يقيد المنع الوارد فيها بمن طلب ذلك لمصلحة نفسه ، أما من طلبها لمصلحة الدين وتحقيق الأصلح للمسلمين مع كونه أهلاً لها وقاصداً إلى إقامة الحق والعدل فيها فهو خارج عن دائرة هذه النصوص .
ت. إن من يحرصون على طلب الإمارة لإنفاذ برامج سياسية معينة يرونها أرضى لله وأنفع للمسلمين فالأمة لا تختارهم من ذواتهم وإنما لما يحملونه من برامج قدروا أنها أقوم لمصلحة الأمة .
رابعا : : بالنسبة للأدلة التي توجب طاعة الأئمة في غير معصية و تنهى عن منازعتهم و تحرم الخروج عليهم ، فهي حق ولكنها خارجة عن مورد المنازعة للأسباب الآتية :
إن السعي إلى المشاركة في الحكم من خلال الأطر المشروعة لإنفاذ برنامج سياسي ، سعي مشروع يقره الشرعية القائمة و يسمح به الإطار السياسي المعتمد من الكافة ، و الذي إلتزم الجميع بأن يقوموا على رعاية المعارضة و توفير الحماية لها كما يقومون على رعاية الأغلبية الحاكمة سواء بسواء
خامسا : أما عن الاحتجاج بفشل التجارب الحزبية المعاصرة غي أغلب البلاد الإسلامية فهو احتجاج غريب للأسباب الآتية :
أ : إن كل الأحزاب التي قامت في أغلب البلاد الإسلامية أحزاب علمانية ، لا نعلم واحدا منها قام علي أساس تحكيم الشريعة الإسلامية و إقامة الدين و استعادة الهوية الإسلامية ، و السعي لإقامة الدولة الإسلامية المنشودة فكيف يحتج بجرائم مثل هذه الأحزاب على فشل التجربة الحزبية في محيط الولة الإسلامية
ب : فإذا صح الاحتجاج بنتائج الحزبية العلمانية فلماذا نحتج ن بفشل الأحزاب في بلاد المسلمين و لا يحتج بنجاحها في بلاد الكافرين أو على الأقل يتعارض الدليلان فيسقطان .
ج : و الحقيقة أن هذا الدليل خارج محل النزاع لأن موضوع النزاه هو التعددية التي تنطلق من الأصول والقواعد الإسلامية و التي تعمل في إطار سيادة الشريعة و يسعى إلى إقامة المشروع الحضاري الإسلامي و وضعه موضع التنفيذ و التعددية بهذا المعنى لم تطبق و إنما أمل يراود التيار الإسلامي ، فكيف يحتج عليها بتجارب علمانية ما قام التيار الإسلامي إلا ليغيرها و تحويل وجهتها إلى الإسلام .
الفرع الثالث
رأي القائلين بمشروعية الأحزاب السياسية
يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن التعددية السياسية جائزة في إطار الشرعية الإسلامية ، وغلب هذا الاتجاه على الباحثين المعاصرين ، و قد أصبح حقيقة واقعة و تكاد أغلب الكتابات الحديثة في النظام السياسي في الإسلام تنحوا هذا المنحى ، وتلتمس من التخريجات الشرعية التي تدخله من منظومة المفاهيم الإسلامية .
و لقد انطلق القائلون بمشروعية السياسية من إطار المذهبية الإسلامية من خلال عدد من المرتكزات و الضوابط التي نوجز بيانها هيما يأتي :
1 : مرتكزات التعددية الحزبية
أولا : السياسة الشرعية :
و السياسة الشرعية : هي تدبير الشئون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح و رفع المضار بما لا بتعدي حدود الشريعة و أصولها الكلية و المراد بالشئون العامة للدولة كل ما تطلبه حياتها من نظم سواء أكانت دستوريه أم تشريعيه أم قضائية أم تنفيذية وسواء كانت من شئونها الداخلية أم من علاقاتها الخارجية .
وعلى ذلك فأن تدبير شئون الحكم وعقد السلطات العامة في الدول وتنظيم العلاقة بينهما وتمكين الأمة من ممارسة حقها في السلطة وتدبير أنظمة الشورى والحسية وتحوه كل ذلك من مسائل السياسة الشرعية التي لا يشترط فيها أن نكون على منال سابق ، بل الذي يشترط هو آلا تخرج عن قوانين الشريعة الكلية وحدودها العامة ، وان تحقق بها المصلحة ويرفع بها الخرج .
فإذا كان الواقع انه قد رق دين الحكام وضعف الوازع الداخلي الذي يحملهم على الإنصاف و أقامه العدل وحماية الحقوق والسهر على كافة المصالح و مت الحاجة إلى رقابة شعبية منظمة تأطر هؤلاء الحكام على الحق أطرا و تتبنى مطالب الأمة و تضع البرامج السياسية القادرة على استصلاح الأحوال و النهوض بالبلاد و العباد و تدفع بها إلى التنفيذ من خلال إطار سلمي مشروع يتفق عليه الكافة فإن ذلك مما يندرج في باب السياسة الشرعية و يكون من الواجب إحكام صياغة هذا النظام حتى لا يهدم أصلا قطعيا في الشريعة الإسلامية أو يعارض حكما من أحكامها
ثانيا : الأصل في العقود و المعاملات الإباحة حتى يأتي ما يثبت التحريم :
و هذا ما انتصر له عدد كبير من الفقها منهم شيخ الإسلام ابن تيميه و غيره و من المعلوم أن أعمال هذه القاعدة ووضعها موضع التنفيذ فإن استخلاص صياغة لتعددية حزبية تحقق المصلحة و تفي بالحاجة نو تصون الأمة من جور الحكام المستبدين و تحفظ له حقوقه في الرقابة و الحسبة و لم تصطدم هذه الصياغة بمحكم الشريعة سواء كان نصا جزئيا أو كليا ، فإن المصلحة تقتضي اعتباره من الحل و على مدعي المنع إقامة الدليل .
ثالثا : مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب :
فإذا استصحبنا هذه القعدة لتطبيقها في مجال السياسة و الحكم ، لوجدنا أن الشريعة تأمرنا بجملة من المبادئ الكلية يتوقف وجودها أو حسن القيام بها في واقعنا المعاصر على التعددية السياسية و ذلك على النحو التالي :
أ : الشـــــورى : و هي من عزائم الحكم وقواعد الشريعة الكلية و لا سبيل لتحقيقها و حسن تطبيقها في باب السياسة و الحكم - في الواقع المعاصر - ‘لا عن طريق التعددية السياسية .
ب : الرقابة على السلطة و محاسبة الحكام : حق أصيل للأمة و هو مبني على أساس أنها صاحبة الحق في السلطة ابتداء و قد فوصي أئمتها في القيام بتبعاته ، و يبقى لها الحق واجب الرقابة فإن استقام أئمتها استقامت لهم ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، و مقتضى ذلك وجب الرقابة و اليقظة لضمان بقاء تصرفات الأئمة في هذا الإطار
و لاشك أن إقامة هذا الواجب على وجهه يقتضي قيام تكتلات شعبية تتولى هذه المهمة و المعارضة الفردية لا جدوى لها أمام جبروت الطغاة ، ولقد أثبتت التجارب أن الأحزاب السياسية أكثر فاعلية و أعمق أثرا و أجدى - في باب التغيير و استصلاح الأحوال - من المعرضة الفردية المتناثرة
رابعا : صيانة الحقوق و الحريات :
للحقوق و الحريات - في الشريعة الإسلامية - منزلة عظيمة و صيانتها من مهام الدولة الأكيدة و لا يتأتى مقصود الشارع في صيانتها إلا بإنشاء هذه التكتلات الشعبية التي تحمي الشعب من عسف السلطان و جور الحكام و تحقق له السيادة على نقسه و على قراره في إطار سيادة الشريعة .
2 :مقومات و مبادئ الشريعة الإسلامية
تقيد التعددية السياسية
إن الإقرار بالتعددية يعني أن نتيح لجميع الأطراف فرصة متكافئة في الإعلام ، يدعون لبرامجهم و يقدمون أنفسهم إلي الأمة ، فهل يقبل المجتمع المسلم أن يترك الإعلام للملاحدة و لمرتدين يزيفون باطلهم و يروجون لإلحادهم و ردتهم و يتولون الحكم و تكون لهم الولاية ؟؟ و من ثم كيف يتم يداول السلطة ؟ .
و الحقيقة أن التعددية المطلقة لا وجود لها في الواقع لا في الدولة الإسلامية و لا في الدول العلمانية ، لأنه ما من دولة من الدول إلا و تقيد الحريات و غيرها بما يسمى بالنظام الغام و الآداب العامة أو المقومات و المبادئ الأساسية للمجتمع ، و قد تضيق دائرة القيود هذه و قد تتسع و تتفاوت من دولة لأخرى ، إلا أن هناك قدر محكم لدى الجميع هو وجود إطار يجب أن تتقيد به هذه التعددية و أن تدور في فلكه ، و من ثم يجب أ، تتقيد التعددية السياسية بالمقومات و المبادئ الشرعية الآتية :
1: أن تكون هذه التعددية في إطار الأصول الإسلامية الثابتة بالكتاب والسنة و الإجماع ، فلا يسمح نتحزب على أصول بدعية كتلك التي تتميز بها الفرق الضالة على مدار التاريخ ، فإن في ذلك خروج عن الجماعة وإتباعا لغير سبيل المؤمنين .
2 : أن يتفق جميع الأطراف على إطار جامع - يشمل هذه الأصول الثابتة بالكتاب و السنة والإجماع و المصالح العليا للبلاد - يكون موضع إقرار الكافة يعملون على دعمه و هم في ذلك نسيج واحد وحزب واحد وهم يد على من سواهم .
3 : أن يكون الالتزام بالحق والمصالح العليا للبلاد هو البديل للالتزام الحزبي كما في المبدأ الديموقراطي : النائب يمثل الأمة و ليس دائرته فقط حتى يكون الصالح العام أولى بالاعتبار.
4 : و أن يكون الترشيح من قبل الحزب و ينأى الشخص بنفسه عن التهالك على الأمر و أن يكون معيار التقويم والمفاضلة بين المرشحين هو ما يقدمونه من برامج و إجتهادات سياسية ناضجة ، و يكون طلب الولاية لمصلحة الأمة و ليس لمصلحته الشخصية أو الحزب و بهذا نتجاوز آفة التنافس في التعددية .
5: و بالنسبة للدعاية الانتخابية فتقتصر على القدر الذي يتحقق به التعريف في إطار الصدق و الموضوعية و أن يتمحور البيان و التزكية على البرامج المقترحة للإصلاح ، وتجنبا للقدح في الآخرين فيجب الالتزام بالضوابط المقررة شرعا و الحزم في التصدي للتجاوزات في هذا المجال .
المطلب الثالث
الحرية السياسية و تداول السلطة السياسية
تمهيد : المقصود بالحقوق السياسية :
الحقوق السياسية عند في فقه العلوم السياسية و النظم الدستورية تعني : الحقوق التي يكتسبها الشخص باعتباره عضوا في هيئة سياسية مثل حق الانتخاب و الترشيح و حق الشورى
الفرع الأول
حرية الترشيح و الانتخاب
أولاً : حق الترشيح
حق الفرد في الترشيح : من حق الإنسان أن يرشح نفسه لمنصب من مناصب الدولة أو وظيفة من وظائفها العامة ، فهل يملك هذا الحق انفرد في الدولة الإسلامية ؟ الظاهر انه لا يملك هذا الحق _كقاعدة عامة _ فلقد جاء في الحديث الصحيح عن عبد الرحمن بن سمرة أن النبي قال له (( يا عبد الرحمن بن سمرة لا يسأل الإمارة فان أعطيتها عن مسالة وكلت إليها و إن أعطيتها من غير مسالة اعنت عليها )) فالترشيح يتضمن طلب المنصب أو الوظيفة و هذا غير جائز ، أما ترشيح المرء لغيره فجائز لأنه لا يتضمن طلب الولاية و إنما يتضمن دعوة الأمة إلى انتخاب المرشح الكفء ، هذا في الأصل .
حكم الترشيح في الوقت الحاضر : أما إذا اقتضت الضرورة أو المصلحة العامة ترشيح المرء لنفسه فجائز و لا خلاف أن الأمور قد تعقدت في الوقت الحاضر و اتسعت و ما عاد بالإمكان معرفة الأمة للأكفاء الصالحين حتى تنتخبهم ، فإن قام الكفء بترشيح نفسه من قبيل الدلالة على الخير و إرشاد الأمة و إعانتها على انتخاب الأصلح لتحقيق المصلحة العامة فجائز و ذلك استئناسا بقول يوسف ((اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم )) يوسف : 55
الدعاية للمرشح : و يجوز للمرشح أن يعرض نفسه على الناخبين و يعرفهم بنفسه و يبين لهم برنامجه الانتخابي و فكرته و منهجه في العمل دون مدح لنفسه و ذم للآخرين و تنقيص لهم
ثانياً : حق الانتخاب
حق الفرد في الانتخاب أساسه الشرعي :
من حق أي فرد -في الدولة الإسلامية - أن يمارس حقه في الانتخاب سواء كان هذا انتخاب رئيس الدولة أو أهل الشورى و هذا الحق ثابت و قد صرح به الفقهاء فمن أقوالهم الصريحة في انتخاب رئيس الدولة : ( فمن اتفق المسلمون على إمامته و بيعته ثبتت إمامته و وجبت معونته ) فرئيس الدولة رجل تنتخبه الأمة و ترضى به ، ويستمد سلطانه من هذا الرضا و ذاك الاختيار.
الفرع الثاني
حرية الرأي و الشورى
أولاً : حرية الرأي
مكانة هذه الحرية في الشريعة :
حرية الرأي حق الفرد في الدولة الإسلامية بالغ الأهمية والخطورة لا يجوز للدولة أن تنتقص منه ولا يجوز للفرد أن يتنازل عنه .. أنه ضروري لكيان الفرد الفكري والإنساني ، ولازم لقيام المسلم
بفرائض الإسلام .. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم فرائض الإسلام ، وتحقيقه يستلزم بداهة حرية الرأي . جاء في القرآن الكريم ، في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر "
( العصر : 1- 3 ) و قوله تعالى " والمؤمنون والمؤمنات يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " ( التوبة : 71 ) ، " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " ( آل عمران : 104 ) وفي الحديث الشريف : (( من رأى منكم فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ))
حدود حرية الرأي :
و حرية الرأي ليست مطلقة من كل قيد ، بل هي تخضع لجملة من القيود ، و أول هذه القيود : ذلك القيد العام الذي يقيد استعمال كل حق ، و خو حسن القصد و خلوص النية ، بأن يريد من حرية الرأي الوصول إلى الحق و إفادة المجتمع ، و النصح للإسلام و لأئمة الإسلام و عامتهم لما أمر الله
و القيد الثاني : وهو من القيد الأول ألا يبغي بحرية الرأي الفخر و الرياء و تنقيص الآخرين و التشهير بهم و تكبير عيوبهم ، بقصد الوصول إلى مغنم أو منصب .
و القيد الثالث : مراعاة العقيدة و المبادئ الإسلامية ، فلا يجوز الطعن في الإسلام أو في عقيدته بحجة حرية الرأي .
القيد الرابع : أن يراعي المعاني الأخلاقية في الإسـلام ، فلا يجوز نهش الأعراض و سب الناس و رميهم بالقبائح بحجة حرية الرأي ، فالحرية تقف عندما تصبح أداة إضرار و إفسـاد .
ثانياً : حق المشاورة
حق المشاورة أساسه الشرعي :
و حق المشاورة هو في الحقيقة امتداد لحق الأمة في انتخاب رئيس الدولة فهي التي انتخبته ومن حقها عليه ألا يبرم أمرا من الأمور الهامة التي تؤثر في حاضرها و مستقبلها إلا بعد الرجوع أليها و أخذ مشورتها (( و أمرهم شورى بينهم )) سورة الشورى ، قال تعالى في سورة الشورى موضحا صفات المؤمنين ( و الذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة و أرهم شورى بينهم و مما رزقناهم ينفقون ) الآية الكريمة تضمنت حكما هو أن : أمر المسلمين شورى بينهم ، فهم يتشاورون في أمورهم العامة و الخاصة لإقامة العدل و تنفيذ حكم الله و تحقيق مصالح العباد ، و حتى لا يستبد فرد أو قلة من الناس بالتصرف أمر تعم به البلوى ، و تتأثر به مصالح الغالبية من الشعب المسلم .
و هذه النصوص الشرعية واضحة الدلالة علي وجوب المشاورة و لا خلاف بين الفقهاء على ذلك ، قال ابن تيمية( لا غنى لولي الأمر عن المشاورة فإن الله تعالى أمر بها نبيه ) ، و هذا المعنى ذكره كل من القرطبي و الرازي و الطبري في تفاسيرهم .
ترك الشورى موجب لعزل الحاكم :
و نظرا لثبوت حق الأمة في المشاورة و لزومه على الحاكم ، صرح الفقهاء بأن يرك هذا الحق من قبل الحاكم موجب لعزله قاله القرطبي ( قال بن عطية : والشورى من قواعد السريعة و عزائم الأحكام ، من لم يستشر أهل العلم و الدين فعزله واجب ) فلا بقاء لحاكم مستبد في دولة تقام على الإسلام .
الفرع الثالث
الحق في مراقبة و محاسبة الحاكم
و للأمة - و الفرد واحد منها - الحق في مراقبة رئيس الدولة وسائر ولاتها ، في أعمالهم وتصرفاتهم التي تخص شئون الدولة . وتستمد الأمة هذا الحق من طبيعة علاقتها مع رئيس الدولة ، فعلاقتها معه علاقة وكالة ، فهي التي اختارته ، ومن حق الموكل أن يراقب وكيلة ليطمئن على حسن قيامة فيما وكله فيه .
وحق الأمة ، في مراقبة رئيس الدولة وسائر ولاتها وحكامها ، كأن مرعيا أحسن رعاية في عصر الإسلام الأول ، واكثر من ذلك كان رؤساء الدولة الإسلامية يدعون الأمة لمراقبتهم وتقويمهم إذا رأوا في سيرتهم اعوجاجا ، وقد حفظ لنا التاريخ سوابق خالدة في هذا الباب من ذلك ما قاله الخليفة أبوبكر الصديق في خطبة له (( .. فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني )) ، ومن خطبة للخليفة عمر بن الخطاب : (( من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه ، فقال له أحد الحاضرين : والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا ، فقال الإمام عمر بن الخطاب : (( الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم عمر بسيفه )) .
الخاتمة
هذه الدراسة عنوانها : ( تداول السلطة السياسية في الشريعة الإسلامية ) و لقد قسمتها إلى ثلاثة مطالب ، في كل مطلب ثلاثة فروع .
و كان في المطلب الأول : تناولت قيام سلطة الحكم و انتهاءها و هذا لب البحث و أساسه فمن خلال ثبوت احكم و انقضائه يتم تداول السلطة ، و في الفرع الأول : بينت الشروط الواجب توافرها في الحاكم وطرق انعقاد الحكم ثم إجراءات اختيار الحاكم و قد رأيت أن الطريق الوحيد الذي ينعقد به الحكم و تثبت به السلطة هو الانتخاب ، و في الفرع الثاني : تعرضت للأـسباب التقليدية التي ينتهي بها الحكم و هي الوفاة و الاستقالة و العزل ، و في العادة يستمر الحاكم في حكمه مدى الحياة ما لم يحدث سبب من هذه الأسباب ، و لما كان لتداول السلطة يعني أن ينتقل الحكم من شخص لآخر و من حزب سياسي لغيره ، لذلك طرحت - في الفرع الثالث - مسألة : تحديد مدة لرئيس الدولة و انتهيت إلى أن من الفقهاء المعاصرين و السالفين من يرى جواز ذلك على أساس أن الخلافة عقد بين الحاكم و الأمة يتم بالتراضي بينهما ، فإنه يجوز تقييدها بما يقيد سائر العقود من الشروط و القيود شريطة أن تكون في دائرة الشرعية ، فلا تحل حراما و لا تحرم حلالا و لا تأمر بمنكر و لا تنهى عن معروف ، فإنه إذا تم النص في عقد التولية على تقييده بمدة زمنية معينة فلا حرج في ذلك ، و يصبح هذا التقييد ملزما للكافة ، و لا يعتبر السعي لتولي مقاليد السلطة بعد انتهاء المدة الدستورية شقا لعصا المسلمين ، و يجوز في تلك الحالة أن يتعدد المرشحون الذين تقومون أو يقامون لتتفق الأمة على واحد منهم ، كما وقع عند خلافة الصديق ة خلافة عثمان رضي الله عنهما فإذا انعقدت الحكومة بأغلبية أصوات الأمة ، و استلم الرجل المنتخب زمام الحكم فحينئذ لا يجوز لحد أن يقوم لينازعه طوال فترة حكمه .
و المطلب الثاني كان عنوانه : التعددية السياسية و تعرضت فيها للأحزاب السياسية ، و لما كانت موضوعها من المسائل الحادثة التي لا عهد للأمة بها من قبل تفاوتت اجتهادات الفقهاء المعاصرين في هذه القضية بين رأيين : الأول : يرى حرمة الأحزاب السياسية و الآخر: يرى مشروعيتها ، و نحن مع هذا الرأي باعتبار أن الأحزاب السياسية من مسائل السياسة الشرعية التي تعتمد الموازنة بين المصالح و المفاسد و لا يشترط لمشروعيتها أن تكون على مثال سابق ، و أن الأصل في العادات و المعاملات الحل حتى يأتي ما يدل على التحريم ، و قاعة الذرائع و ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فالتعددية أمثل طريق إلى تحقيق الشورى و الرقابة على السلطة و صيانة الحقوق و التحريات ، لما أنها الطريق إلى الاستقرار السياسي و منع التمرد و الخروج المسلح على السلطة فضلا عن أن بديلها الاستبداد بالسلطة و ما ترتب عليه - كما يحكي التاريخ - من الإغراء بالقهر و التسلط ، و الأهم من ذلك كله أن كل الأدلة التي ساقها المعارضون محل نظر ، و أن ما ذكروه من المفاسد منها ما يمكن تجنبه بالكلية و منها ما يمكن تقليله بحيث يبدوا مرجوحا إذا ما قورن بما في التعددية من المصالح الراجحة .
و في المطلب الأخير : تعرضت لمجموعة من الحقوق والحريات اللازمة و الضرورية لتداول السلطة و انتقالها من حاكم لآخر و من حزب سياسي لغيره و هي حرية الانتخاب و الترشيح والرأي ثم حق الشورى و حق الأمة في مراقبة تصرفات الحاكم و محاسبته عليها ، و تعرضت لكل حرية أو حق بإيجاز شديد يفي ببيانه و لزومه لتداول السلطة .
و بعد فلا أدعي أني وفيت موضوع البحث حقه ولا استوفيت عناصره ، و إنما هي محاولة أفتح بها باب البحث - مع من سبقني في هذا الباب - أحسب أني بذلت فيها جهدا و أنفقت وقتا أحتسبه عند ربي سبحانه و تعالى و أسأله أن يغفر لي تقصيري و الله من وراء القصد و هو يهدي السبيل .
المراجع
سلسل اسم المؤلف اسم الكتاب دار النشر و تاريخ الطبعة
أولا : القرآن الكريم
ثانيا : كتب التفاسير
1 الأمام ابن كثير تفسير القران العظيم طبعة الحلبي
2 الإمام للألوسي روح المعاني
3 . الإمام البغوي معامل التنزيل مطبعة التقدم
4 الإمام القرطبي جامع لأحكام القران دار الكتابة العربيةا1967 م
5 لإمام الرازي تفسير
6 الإمام الطبري جامع البيات في تأويل القران دار المعارف بمصر 1975
ثالثا : كتب الحديث
7 لإمام الإمام أحمد ابن حنبل مسند الإمام أحمد دار المعارف 1313
8 الإمام لترمذي سنن الترمذي
9 الإمام ابن حجر العسقلاني فتح الباري المطبعة الخيرية بمصر
10 الإمام ابن حزم الفصل في الملل والأهواء والنحل مكتبة السلام العالمية بالقاهرة
11 الإمام الشهرستاني الملل والنحل مطبعة الحلبي 1931
12 الإمام لشاطبي الاعتصام المكتبة التجارية ط 1
خامسا : كتب الفقه
13 الإمام ابن تيميه مجموعة الفتاوى ط 1 1386
14 أبن قدامه الحنبلي المغني مطبعة الإمام
15 الدرديري الشرح الكبير على مختصر خليل المطبعة العامرة 1392هـ
16 ابن سعد
سادسا : كتب السياسة الشرعية
17 الإمام المارودي الأحكام السلطانية مطبعة عيسى الحلبي
18 ابن تيمية السياسة الشرعية
19 بن خلدون المقدمة
سابعا : كتب حديثة في النظم السياسية و القانون الدستوري
20 د / زكريا عبد المنعم الخطيب - نظام الشورى في الإسلام طبعة 1985
21 د/ سليمان الطماوي السلطات الثلاثة دار الفكر العربي ط 1979م
22 د / صلاح الصاوي ، التعددية السياسية ط 1 1414هـ 1992م دار الإعلام الدولي القاهرة
23 د / عبدالرازق السنهوري فقه الخلافة الهيئة المصرية العامة للكتاب ط2 1993
24 عبد القادر عودة التشريع الجنائي الإسلامي الهيئة المصرية العامة للكتاب
25 د / عبد الكريم زيدان الفرد و الدولة في الشريعة الإسلامية سلسلة صوت الحق دار العلوم للطباعة
بحث قدم الى :
المؤتمر العام الأول للمحامين بمدينة رأس البر
في الفترة من 11/9 إلى 14/9/2001م
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله
صلى الله عليه و آله و من والاه
أما بعد
هل تعرف الشريعة الإسلامية مبدأ تداول السلطة ؟ ، و هل يمكن أن يتحول هذا المبدأ إلى واقع في ظل الدولة الإسلامية المنشودة ؟
هذا السؤال يتردد كثيرا - في واقعنا المعاصر- على صعيد العمل السياسي ، قد يكون الدافع إليه إحراج الباحثين في فقه الشريعة الإسلامية و اتهام هذه الشريعة بالقصور و عدم مواكبة النظم الدستورية الحديثة و وصم الدولة الإسلامية المرتقبة بالدكتاتورية و القهر و أنه لا مكان - في ظلها - لتداول السلطة و التعددية السياسية ، و قد يكون الدافع إليه هو إظهار عجز الحركة الإسلامية عن أن تقدم تصورا لمستقبل العمل السياسي و برنامج الحل الإسلامي الذي تنشده و تلح في طلبه صباح مساء .
و أيا كان الدافع إلى هذا التســاؤل ، فهو جدير بالإجابة عليه ، أو هو - بالمعنى الصحيح - جدير بأن يوضع على مائدة البحث و النقاش ، لنضع أطروحة أو اجتهاد فقهي نمهد به لدراسة أوسع و أعمق .
و تداول السلطة تتمثل في وجود حاكم استوفى كافة الشروط اللازمة لتولي الحكم ، و تم ترشيحه بواسطة أهل الحل و العقد ، وانعقد له الحكم بموجب البيعة من عامة الأمة - وبالرغم من أنه على قيد الحياة و لم بتم عزله - انتهت مدة حكمه بموجب العقد الذي تولى به و عادت السلطة إلى الأمة مرة أخرى لكي تقوم بإعادة الاختيار من جديد ، و يتقرر الحق لكل التكتلات السياسية الموجودة أن تعرض برامجها السياسية على الأمة لتتولى المقارنة بين مدى فاعلية هذه البرامج و مدى مصداقية القائمين عليها ، و من تمنحه الأمة ثقتها و تبذل له تأييدها تنتقل سلطة الحكم إليه إلى حين ، و تبقى بقية البرامج و القائمين عليها في الظل ترقب مسار العمل السياسي و تتابع مستجداته و تجدد نفسها في ضوئه .
و بناء على هذا المثال تداول السلطة يتطلب البحث في المسائل الآتية :
! : سلطة حكم شرعية قائمة .
2 : نظام شرعي يبيح التعددية السياسية .
3 : وثيقة تقرر حقوق و حريات تكفل مناخ سياسي من خلاله يتم انتقال السلطة من حزب إلي آخر .
لذلك أرى أن أسير في هذا البحث بالخطة الآتية
المطلب الأول : قيام سلطة الحكم و انتهاؤها في الشريعة الإسلامية
الفرع الأول : قيام سلطة الحاكم
الفرع الثاني : انتهاء سلطة الحكم
الفرع الثالث : مشروعية توقيت مدة الحكم
المطلب الثاني : الـتـعـدديـة الســياســـية في الشريعة الإسلامية
الفرع الأول : رأي القائلين حرمة إنشاء الأحزاب السياسية
الفرع الثاني : الرد على من قال بالحرمة
الفرع الثالث : رأي القائلين بمشروعية الأحزاب السياسية
المطلب الثالث : الحرية السياسية و تداول السلطة السياسية
الفرع الأول : حرية الترشيح و الانتخاب
الفرع الثاني : حرية الرأي و الشورى
الفرع الثالث : الحق في مراقبة و محاسبة الحاكم
الخـاتمة
المراجع
الفهرست
المطلب الأول
قيام سلطة الحكم وانتهاؤها
في الشريعة الإسلامية
تمهيد ويشمل فقرتين :
أولا : أساس العلاقة بين الحاكم و المحكومين :
العلاقة بين الحاكم و المحكومين أساسها عقد طرفاه الخليفة من ناحية و أولي الرأي من الناحية الأخرى و لا ينعقد إلا بإيجاب من أولي الرأي من الأمة و القبول من جانب الحاكم و ينعقد الحكم بترشيح أهل الحل و العقد من الأمة و المبايعة العامة من الأمة ، و هذا العقد يسمى عقد الخلافة .
فالحاكم أو الخليفة هو وكيل الأمة - الذي اختارته - و نائبها ، و مركزه القانوني هو مركز النائب و الوكيل عن الأمة و قد أدرك الفقهاء هذا المعنى و صرحوا به ، قال الماوردي - حال بيانه أثر موت الخليفة أو الوزير على سلطة أمير البلد أو القصر - ما نصه : ( و إذا كان تقليد الأمير من قبل الخليفة لم ينعزل أمير البلاد بموت الخليفة ، و إن كان من قبل الوزير إنعزل بموت الوزير لأن تقليد الخليفة نيابة عن المسلمين و تقليد الوزير نيابة عن نفسه )
ثانيا : تعريف الخلافة و حكمها :
الخلافة - كما يعرفها الأستاذ / عبدالقادر عودة - هي : ( عقد بين الحاكم و الأمة يتم بالتراضي بينهما يلتزم فيه الأول بأن يشرف على الشؤون العامة للأمة في الداخل و الخارج نما يحقق مصلحتها في حدود الإسلام ، و في مقابل ذلك تلتزم له الأمة على لسان ممثليها - الذين اختاروه إماما - أن تسمع له و تطيع أمره )
وفي هذا المطلب نتناول الفروع الآتية
الفرع الأول : قيام سلطة الحاكم
الفرع الثاني : انتهاء سلطة الحكم
الفرع الثالث : مشروعية توقيت مدة الحكم
الفرع الأول
قيام سلطة الحاكم
يتولى الحاكم - في ظل الشريعة الإسلامية - مهام منصبه بعد بيعة عامة المسلمين له و منذ هذه اللحظة ويتولى وظيفته و هي إقامة الدين و سياسة الدولة وهو المسئول عن إقامة الشورى و تنفيذ الأحكام ، لذلك لا يصلح كل شخص أن يكون حاكما لكون هذه الوظيفة تقتضي أن يكون شاغلها متحليا بصفات معينة و شروط خاصة .
و الحاكم - في فقه الشريعة الإسلامية - لا يفرض على المسلمين ، بل هم الذين يختاروه انتخابا و يتم ذلك بعد اختيار أهل الحل و العقد لأكثر المرشحين للحكم فضلا و أكملهم شروطا ، ثم البيعة العامة من كل المسلمين ، لذلك وجب أن يشمل هذا المطلب النقاط الآتية :
أولا : الشروط الواجب توافرها في الحاكم
ثانيا : طرق انعقاد الحكم
ثالثا : إجراءات اختيار الحاكم
أولا : الشروط الواجب توافرها في الحاكم
لعل أبو الحسن المارودي قاضي قضاة بغداد هو أول من قنن الشروط الواجب توافرها فيمن يرشح للخلافة ووسع في دائرتها ، فذكر أن الشروط المعتبرة في أهل الإمامة سبعة : العدالة على شروطها العامة ، والعلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام ، وسلامة الحواس والأعضاء والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح ، والشجاعة المؤدية حماية البيضة وجهاد العدو والنسب بأن يكون من قريش .
يرى الفقهاء المعاصرين أن الشروط المنطلقة في الخليفة لا تخرج عن كونها الإسلام والعدالة والكفاءة وذلك على التفصيل الآتي :-
1. الإسلام : وهذا شرط طبيعي لأن وظيفة الخليفة تقتضي هذا ، فمهمته إقامة الإسلام وتوجيه سياسة الدولة في حدود الإسلام ، ولا يستطيع أن يقوم بذلك على وجهه الصحيح إلا المسلم المؤمن بالإسلام ويعرف مبادئه واتجاهاته ، فضلاً عن أن الإسلام يحرم أن يلي أمر المسلمين غير المسلم ، قال تعالى " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون الله ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء " ( النساء : 141 ) ويعلق ابن حزم على هذه الآية بقوله " والأمانة أعظم السبيل " .
2. العدالة : ومعناها الواسع أن يخشى الله تعالى في كل أمر وأن يقيم حدود الإسلام وينفذ أحكامه بلا ظلم أو جو ، وأن يختار خاصته ومعاونيه ممن تتوافر فيهم الكفاءة اللازمة بلا محاباة ولا تحيز ، فلا يؤثر قريباً ولا صديقاً .
3. الكفاءة : وهي تشمل القدرات والإمكانيات التي تمكن من القيام بمهام المنصب بالقدر المتيقن لدى أوساط الناس على النحو التالي :-
أن يكون بالغاً : لأن غير البالغ - كما يقول المارودي - لا يجري عليه قلم ولا يتعلق بقوله على نفسه حكم ، فكان الأولى ألا يتعلق به على غيره حكم ، وكما قال ابن حزم أن جميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة امرأة أو صبي لم يبلغ .
و أن يكون عاقلا : و كما يقو ل الماوردي - لا يكفي العقل الذي يثبت به التكليف بل يلزم العلم بالمدركات الضرورية ليكون صحيح التمييز جيد الفطنة بعيدا عن السهو و الغفلة حتى يتوصل به إلى إيضاح ما أشكل و فصل ما أعضل .
و يشترط كذلك العلم و الشجاعة : و يكفي من العلم ما يلزم أمور الدين و السياسة الأحكام و لا يشترط الاجتهاد ، و من الشجاعة ما يمكنه من إصدار قراراته و تنفيذ الأحكام و الحدود
و ما فوق ذلك من قدرات و إمكانات يعوض باستشارة أهل الخبرة و الرأي .
ثانيا: طرق انعقاد الحكم
حدد الفقهاء المسلمين طرق انعقاد الحكم بأكثر من وجه تكاد تنحصر في الطرق الآتية :
1 : الاختيار و البيعة العامة ، 2 : الاستخلاف و ولاية العهد , 3 : النص أو الوصية . 4 : التغلب و القهر ، و نرى أن الطريق الوحيد لانعقاد الحلم هو طريق الاختيار و الانتخاب
الاختيار و البيعة
هو الطريق الوحيد لانعقاد الحكم في الشريعة الإسلامية
لا خلاف بين فقهاء أهل السنة من المسلمين على أن الخلافة تنفذ باختيار أهل الحل و العقد ، قال أبن خلدون ( و إذا تقرر أن هذا المنصب واجب بإجماع المسلمين - فهو من فروض الكفاية و راجع إلى أهل الحل و العقد - فتعين عليهم نصبه و يجب على الخلق جميعا طاعته )
و قال الماوردي ( و الخلافة تنعقد من وجهين : أحدهما باختيار أهل الحل و العقد )
و يرى فقهاء العصر الحديث أن الطريق الوحيد لتنصيب الحاكم هو الانتخاب ، فيقول العميد الطماوي ( و إذا استثنينا شيعة علي كرم الله وجهه فإن فقهاء المسلمين قد أجمعوا على أن الطريق الوحيد لاختيار الخليفة هو اختيار المسلمين ) و يرى الأستاذ عبد القادر عوده ( أن الإمامة تنعقد عن طريق واحد مشروع لا ثان له و هو اختيار أهل الحل و العقد و قبول الإمام أو الخليفة .
فالخلافة ليست إلا عقد طرفاه الخليفة من ناحية و أولو الرأي من الأمة من الناحية الأخرى ، و لا ينعقد إلا بإيجاب من أولي الأمر من الأمة و أهل الشورى و قبول من جانب الحاكم .
ثالثا : إجراءات اختيار الحاكم
هذا الاختيار يمر بمراحل ثلاثة هي :
1 : اختيار أهل الحل و العقد لأفضل المرشحين .
2 : قبول من وقع عليه الاختيار .
3 : البيعة من عامة الناس . نبينهم بإجاز فيما يأتي :
1 : اختيار أهل الحل و العقد لأفضل المرشحين :
مما لاشك فيه أن مهمة اختيار الحاكم خطيرة و دقيقة لذلك فإن هذا الأمر لا يعهد إلى عامة الناس ، إنما يوكل إلى ذوي إمكانات و كفاءات تمكنهم في النظر في الشروط التي يجب أن تتوافر في المرشح لتولي هذا المنصب الخطير و كذلك البحث و المفاضلة و الترجيح بين من يحمل هذه الشروط .
لذلك يتولى هذا الاختيار أهل الحل و العقد الذين يتصفون بالصفات الآتية :
العدالة الجامعة لشروطها و العلم و الإلمام بالشريعة الإسلامية و على وجه الخصوص الشروط الواجب توافرها فيمن يتولى الخلافة و أن يتصف بالحكمة التي تمكنه من اختيار الأصلح .
و يتم الاختيار باجتماع أهل الحل و العقد و النظر في المرشحين الذين تتوافر فيهم الشروط فيقدموا البيعة منهم أكثر فضلا و أكملهم شروطا و من يسرع الناس إلى طاعته و لا يتوقفون عند بيعته .
2: قبول من وقع عليه الاختيار
فإذا تعين لأهل الحل و العقد من بين المرشحين من هو أهلا للخلافة عرضوا عليه الخلافة فأن أجاب إليها بايعوه و انعقدت بيعتهم له بالخلافة و إن أمتنع و لم يقبلها لا يجبر عليها ، و كان عليهم العدول عنه إلى سواه من مستحقيها .
3: البيعة من عامة الناس
الحقيقة أن عقد الخلافة لا يصح نهائيا بمجرد اختيار أهل الحل و العقد إذ لابد من موافقة الأمة لهذا الاختيار و إعلان رضاها عن شخصه و هذا ما يسمى بالبيعة العامة .
و البيعة هي العهد على الطاعة ، ذلك لن المسلم إذا بايع أميره يكون قد عاهده على السمع و الطاعة و اليد هي الترجمان الذي يترجم هذا المعنى و يخرجه إلى حيز التنفيذ .
الفرع الثاني
انتهاء سلطة الحاكم
لما كانت الخلافة عقداً بين الأمة وبين الخليفة ، فإن هذا العقد يظل منتجاً لآثاره ما دام سليماً . فإذا طرأ على هذا العقد ما يبطله ، كان لذلك صداه على مركز الخليفة ، ومن ثم فإن الخليفة يفقد منصبه في رأي الفقهاء للأسباب الآتية :-
أولا : موت الحاكم
من المسلم به أن السلطات التي يستمدها الخليفة من عقد الخلافة هي سلطات شخصية ، بمعنى أن تلك السلطات لا تسمح له بأن ينقل سلطاته إلى أحد غيره بعد وفاته .. وكل ماله في هذا الخصوص ينحصر في ترشيح من يراه صالحاً في هذا المنصب ، على أن تكون الكلمة النهائية في الاختيار للمسلمين .
فبوفاة الحاكم ، تصبح الولاية شاغرة و يجب اتباع الإجراءات المقررة لتنصيب الحاكم الجديد و يجب على الناخبين انتخاب حاكم جديد أو مبايعة الشخص الذي أستخلفه المتوفى - عند الاقتضاء - إن وجد و ليس هناك فترة محددة لمبايعة الحاكم الجديد و لكن لا يجوز وهذا هو السبب الطبيعي والغالب لفض المنصب ، القاعدة التي استقرت في تقاليد المسلمين هي عدم توقيت الخلافة بمدة زمنية بل يظل الخليفة ما دام قادراً على ذلك ، وما لم يطرأ عليه أسباب تجيز عزله ، لأنها حالة عاجلة تمس المصالح الجوهرية للأمة الإسلامية لذلك فإنه فور وفاة الرسول كان أول اهتمام المسلمين هو القيام باختيار الخليفة الأول أبوبكر الصديق ، و قدموا ذلك على دفن النبي
ثانياً : تنحي الحاكم عن منصبه أو استقالته
أجاز الفقهاء للحاكم أن ينحي نفسه مختاراً عن المنصب ، يقول المواردي : ( وإذا خلع الخليفة نفسه انتقلت إلى ولي عهده وقام خلعه مقام موته .ويرى د/ السنهوري أن هذا الرأي يستند إلى أنه من صالح سير نظام الخلافة ألا يفرض على الخليفة على البقاء إرادته إذا أراد التنحي عن مهام منصبه ، و لا يعني هذا أن الاستقالة من المنصب تؤدي إلى أيلولة الخلافة آلياً إلى من عينه الخليفة ، لأن الخلع يقوم مقام الموت بمعنى أن يتعين استيفاء إجراءات تعيين الخليفة الجديد وفقاً للخطوات السابق بيانها ، ويرى الفقهاء أن استقالة الخليفة بمجرد أن تأول الخلافة إلى شخص معين يعينه هو أمر غير مشروع
ثالثاً : عزل الحاكم من منصبه
تسقط ولاية الحاكم إذا تغير حاله تغييراً نتج عنه فقد واحدة أو أكثر من شروط الأهلية المطلوبة عند إتمام عقد الخلافة ، وقد عددها الماوردي في حالتين هما : وجود عيب أو نقص معنوي يزيل عنه صفة العدالة والثاني نقص أو عيب عضوي أو جسماني .
عزل الحاكم لأسباب معنوية
ا . الردة : لما كان يشترط فيمن يتولى الحكم - في الدولة الإسلامية - أن يكون مسلماً فإنه يترتب على ذلك أن تسقط عنه الولاية بحكم القانون إذا ارتد .
ب.الفسق : إذا فقد الحاكم صفة العدالة بفسقه تسقط عنه الولاية ، والفسق نوعان : الفسق الظاهري المعروف بذلك لأنه يظهر في السلوك الخارجي كارتكاب المعاصي والتجرؤ على الأعمال المكروهة مع إتباع الشهوات والاستسلام للأهواء وهو يظهر في السلوك الشخصي للحاكم سواء في حياته الخاصة أو حال ممارسته السلطة في الحياة العامة ويعتبر الخليفة فاسقاً بهذا المعنى إذا ارتكب إحدى الكبائر أو اعتاد ارتكاب الصغائر ، أما النوع الثاني : من الفسق المعنوي يتحقق بخروج الحاكم في ممارسته ولايته عن الأصول الشرعية إذا تجاوز سلطاته أو أساء استعمال ولايته .
وهنا يثور سؤال : هل يترتب على الفسق سقوط الولاية تلقائياً بحكم القانون أم أنه يجب خلع الحاكم بقرار من جهة ما ؟ يرى الإمام الشافعي أن السقوط يقوم تلقائياً بحكم القانون ، ويرى البعض أن السقوط يكون بقرار من الأمة أو من يمثلونها .
الفرع الثالث
مشروعيةتوقيت مدةالحكم
لا خلاف أن الحاكم - في الدولة الإسلامية - إذا تولى الحكم يستمر في حكمه مادامت شروط اختياره متوافرة في حقه ، وهذا ما جرى عليه العمل و حكاه التاريخ عبر الدولة الإسلامية منذ الخلافة الراشدة و حتى سقوط الدولة العثمانية في بداية القرن الماضي .
و لما كان الحاكم يتولى حكمه بموجب عقد الخلافة المبرم بين الأمة و الحاكم فإنه يجوز للأمة صاحبة الحق الأصيل حال إبرامها لهذا العقد أن تضع له مدة محددة فإذا انتهت هذه المدة عاد هذا الحق إلى الأمة من جديد فهي بالخيار في أن تختار ذات الحاكم أو تختار غيره ، و هذا هو الأساس الذي يبنى عليه نظام تداول السلطة .
هل في نصوص الشريعة الإسلامية من النصوص أو القواد الفقهية ما يؤيد هذا الرأي ؟ ذلك هو موضوع هذا الفرع الذي نعالج فيه النقاط الآتية :
1 : طبيعة العلاقة بين الحاكم و المحكومين .
2 : جواز تقييد عقد الخلافة بشروط.
3 : مشروعية توقيت عقد الخلافة
و سوف نبين ذلك بشيء من التفصيل :
أولا : طبيعة العلاقة بين الحاكم و المحكومين
الخلافة عقد بين الحاكم و الأمة يتم بالتراضي بينهما و الاختيار يلتزم فيه الأول بأن يشرف على الشئون العامة للأمة في الداخل و الخارج بما يحقق مصلحتها في حدود الإسلام و في المقابل يلتزم له الأمة - على لسان ممثليها الذين اختاروه إماما - أن تسمع له و تطيع أمره .
فالحاكم أو الخليفة هو وكيل الأمة - التي اختارته - و نائبها و مركزه القانوني هو مركز النائب و الوكيل عنها و قد أدرك الفقهاء هذا المعنى و صرحوا به ، فمن أقوالهم في هذا الباب ما ذكره المودودي وهو يتكلم عن موت الخليفة والوزير و أثر ذلك في سلطة الأمير فقال ما نصه ( و إذا كان تقليد الأمير من قبل الخليفة لم ينعزل بموت الخليفة و إذا كان من قبل الوزير عزل بموت الوزير ، لأن تقليد الخليفة نيابة عن المسلمين و تقليد الوزير نيابة عن نفسه )
ثانيا: جواز تقييد عقد الخلافة بشروط .
إذا كانت الخلافة عقدا - كما سبق البيان - فإنه يجوز تقييدها بما يقيد سائر العقود من الشروط و القيود شريطة أن تكون في دائرة الشرعية ، فلا تحل حراما و لا تحرم حلالا و لا تأمر بمنكر و لا تنهى عن معروف .
و مبدأ تعليق الولاية بالشروط من المبادئ المعروفة في الفقه الإسلامي و لقد عنون الشوكاني في نيل الأوطار فقال : ( باب تعليق الولاية بشروط ) و ساق ما رواه البخاري عن أبن عمر قال : (( أمر رسوا الله في غزوة مؤته زيد بن حارثة و قال إن قتل زيد فجعفر ، و إن قتل جعفر فعبد الله بن رواحه )) ، و لقد أشار الماوردي إلى جواز تعليق تولية الخليفة بشروط و استشهد بعمل النبي في تولية القواد في غزوة م}ته ، وعلل ذلك بأن الولاية من المصالح العامة التي يتسع حكمها على أحكام العقود الخاصة ، و لا فرق هنا بين الولاية الجزئية - المشار إليها - و الولاية العامة و هي الولاية العظمى المراد الاستدلال عليها إذ كلا الولايتين عقد من العقود لم يتغير إلا أطرافه و لكن حقيقة التعامل قائمة في الحالتين فتنصرف مشروعية التقييد إلى كليهما .
ثالثا : مشروعية توقيت عقد الخلافة
بناء على ما سبق بيانه فإنه إذا تم النص في عقد التولية على تقييده بمدة زمنية معينة فلا حرج في ذلك ، و يصبح هذا التقييد ملزما للكافة ، و لا يعتبر السعي لتولي مقاليد السلطة بعد انتهاء المدة الدستورية شقا لعصا المسلمين ، ولا خروج على جماعتهم و لا منازعة لأئمتهم ، و إنما يكون من جنس السعي لإقامة الإمامة في حالة خلو الزمان من الأمام و شغوره من السلطان .
و يقول المبارك فوري ( إذا اتفقت الأمة و الشورى على دستور يقضي بنهاية الحكم بمجرد انتهاء فترة محددة فإن سيبقى بعد ذلك على كرسي الحكم لا يكون حاكما شرعيا ، و إنما يكون مشرفا مؤقتا أمسك بزمام الحكم ليسلمه إلى من يتفق عليه الناس ، ومن خاض معركة الانتخاب ليتسلم زمام الحكم بعد نهاية
هذه الفترة فليس هو بمنازع على الحكم ‘ ولا مفرقا لأمر الأمة بعد اجتماعها على أحد ، بل هو إنما يستعد لأخذ زمام الأمة في حال خلوها من الأمير .
و يجوز في تلك الحالة أن يتعدد المرشحون الذين تقومون أو يقامون لتتفق الأمة على واحد منهم ، كما وقع عند خلافة الصديق ة خلافة عثمان رضي الله عنهما فإذا انعقدت الحكومة بأغلبية أصوات الأمة ، و استلم الرجل المنتخب زمام الحكم فحينئذ لا يجوز لحد أن يقوم لينازعه طوال فترة حكمه التي اتفق عليها الأمة و الشورى تحت الدستور .
المطلب الثاني
الـتـعـدديـة الســياســـية
في الشريعة الإسلامية
تمهيد :
مما لاشك فيه أن الأحزاب السياسية باعتبارها تكتلات سياسية تعمل بالوسائل الديموقراطية للوصول إلى الحكم لتنفيذ برنامجا معينا ، هي وليدة الديمقراطية الغربية التي تقوم على أساس علماني و هو فصل الدين عن الدولة ، فهل يتسع فقه الشريعة الإسلامية لتعدد الأحزاب السياسية ؟ ،
و الحقيقة أن الأحزاب السياسية - باعتبارها تكتلات سياسية تعمل بالوسائل الديموقراطية للوصول إلى الحكم لتنفيذ برنامجا معينا - من المسائل الحادثة التي لا عهد للأمة بها من قبل ، لذلك قد تفاوتت اجتهادات الفقهاء المعاصرين في هذه القضية و بين رأيين : الأول يرى حرمة الأحزاب السياسية و الآخر يرى مشروعيتها .ويبقى على الاتجاه القائل بمشروعية التعددية داخل الإطار الإسلامي أن يبين كيفية استيعابها .
تباينت آراء الفقهاء حول قضية الأحزاب السياسية في الشريعة الإسلامية على اتجاهين هما:
الاتجاه الأول : يرى حرمة إنشاء الأحزاب السياسية :
الاتجاه الثاني : يرى مشروعيتها :
و فيما يلي عرض هذين الاتجاهين ، مع مناقشة أدلة القائلين بالحرمة و نرد عليها :
الفرع الأول
رأي القائلين حرمة إنشاء الأحزاب السياسية
يرى أنصار هذا الاتجاه أن نظام الأحزاب السياسية لا سبيل له في المجتمع الإسلامي ، و لا تتسع له المذاهب الفقهية لما يخرقه من الأصول و القواعد الشرعية، و لما يقضي إليه من المآلان الوخيمة و العواقب المنكورة ، و أنه يجب أن تسد الذرائع إليه بكل سبيل ، و قد استدل القائلون بالمنع بعدد من الأدلة نوجز بيانها في الآتي :
أولا الأدلة الشرعية ينهى عن التفرق و تحض على الاجتماع
ففي القرآن : قاله : إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم في شئ
و قال و اعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
و قوله أيضا و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم
ففي هذه الآيات - و الكثير غيرها - نهي من الله تعالى عن التفرق في الدين و التنازع المفضي إلى الفشل و ذهاب الريح ، و أمر بالاعتصام بحبل الله عز و جل .
و من السنة : قول النبي (( الجماعة رحمة و الفرقة عذاب ))
و قوله (( عليكم بالجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد ، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ))
و قوله (( من أتاكم و أمركم جميعا على قلب رجل واحد يريد أن يشق عصاكم و يفرق جماعتكم فاقتلوه بالسيف كائنا من كان )) رواه مسلم
ثانيا : إن الأحزاب السياسية لم تذكر في النصوص الشرعية إلا مقترنة بالوعد و الوعيد و اقتصرت الإشارة بها إلى أعداء الدين ، و في المقابل لم يشر إلى جماعة المسلمين بتعبير الأحزاب فقط .
و إنما أشير إليهم بصيغة المفرد على أنهم حزب الله و ذلك في موضعين فقط من القرآن الكريم ، فدل ذلك على أ، الشريعة الإسلامية لا تتسع إلا لحزب واحد فقط هو حزب الله ، أما الأحزاب الأخرى هي تعبير يتسع لجميع الفرق و النحل الخارجة عن جماعة المسلمين .
ثالثا : الأدلة الشرعية تنهى عن التنافس و طلب الإمارة و تتوعد من فعل ذلك بالخذلان و سوء العاقبة و من أمثلتها :
ما رواه البخاري ومسلم : عن أبى موسى الأشعري قال : ((دخلت على النبي أنا ورجلان من قومي فقال أحد الرجلين أمرنا يا رسول الله وقال الآخر مثله فقال رسول الله أنا لا نولي هذا من سأله و لا من حرص عليه ))
و ما رواه البخاري و غيره عن أبي هريرة عن النبي قال (( إنكم ستحرصون على الإمارة و ستكون ندامة يوم القيامة ، فنعم المرصفة و نعم الفاطمة ))
و نظام الأحزاب قائم على التنافس علو الإمارة و الوصول إلى الحكم و منازعة السلطة القائمة ، وكم تستحل باسم ذلك حرمات ويقطع أرجاء و تمزق أواصر .
رابعا : ومن السنة النبوية ما توجب طاعة الأئمة في غير معصية و تنهى عن منازعتهم و تحرم الخروج عليهم ، و نذكر من هذه النصوص ما يأتي :
ما رواه البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم (( أسمعوا و أسمعوا أطيعوا ولو أستعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ))
و ما رواه مسلم عن ابن عمر من قوله (( من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة و لا حجة له ، ومن مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ))
و من المعلوم أن التعددية السياسية قائمة على التنافس على طاب الولاية و السعي إلى الحكم هو مفرق الطرق بين الأحزاب السياسية و بين غيرها من التكتلات البشرية الأخرى ، فأنى تتحقق المشروعية لهذا النظام مع قيامه ابتداء على مناقضة هذه النصوص ؟ .
خامسا : فشل التجارب الحزبية المعاصرة غي أغلب البلاد الإسلامية :
لا نعرف حزبا معاصرا في أي بلد من بلاد المسلمين و في بما عاهد الشعب عليه قبل الانتخابات ، بل كان في الجملة وبالا على الأمة و جرثومة تنخر في كيانها و قرحات اخترقت الأمة من خلالها ، فالأحزاب السياسية في مقاعد المعارضة لم تأل جهدا في تشقق الأمة و إثارة الأحقاد و العداوة بين أبنائها و في موقع السـلطة سوم الأمة سوء العذاب و تاجرت بالبلاد ، فلا خير فيها حاكمة و لا خير فيها معارضة .
هذه خلاصة الأدلة التي ذهب إليها القائلون بالمنع المطلق من إنشاء الأحزاب السياسية في الإسلام .
الفرع الثاني
مناقشة رأي القائلين بالحرمة
أولا: بالنسبة للرأي القائل بأن الأحزاب السياسية لم تذكر في النصوص الشرعية إلا مقترنة بالوعد و الوعيد و اقتصرت الإشارة بها إلى أعداء الدين ، و في المقابل لم يشر إلى جماعة المسلمين بتعبير الأحزاب فقط ، فيمكن أن يناقش و يرد عليه بالآتي :
أ : إن المفهوم الحديث للحزب السياسي يختلف عن مفهوم الحزب الوارد في القرآن الكريم على سبيل الذم: إن الحزب بالمفهوم المعاصر مجموعة متآلفة من الناس يجمع بينهم وحدة الاتجاه السياسي داخل الإطار الإسلامي فهو أشبه ما يكون بالمذهب الفقهي ، وقد تلقت الأمة المذاهب الفقهية بالقبول ، ولم تعتبر ذلك نوعاً من التعددية المرفوضة لأن تفاوت الاجتهادات وتباين الآراء سنة من سنن الاجتماع ، وطبيعة من طبائع البشر .
أما الأحزاب بمفهومها القديم فهي تكتلات عشائرية أو قبلية أو قومية تؤلف بينها العصبيات الجاهلية ، وتجمع بينها وحدة الالتقاء على حرب الإسلام والكيد لأهله ، فهي مرفوضة لهذا المعنى سواء سميت حزباً أو جماعة أو أمة أو تنظيماً أو دولة أو ما شاء أصحابها من المسميات ، فإن المذموم ليس مجرد التسمية وإنما الاجتماع على أواصر جاهلية والانتصاب لحرب الله ورسوله .
ب : بالنسبة لما ورد في القرآن الكريم و السنة المطهرة وينهيان عن التفرق و تحضان على الاجتماع وتصف الاجتماع بالرحمة والفرقة بالعذاب :
لابد أن تحمل على التفرق في الأصول الكلية التي خالفت به الفرق الضالة جماعة المسلمين ، أو على التعصب الذي ينشأ عن هذا الخلاف ويؤدي إلى التهارج والتدابر وفساد ذات البين .
أما مجرد تفاوت الآراء في المسائل الاجتهادية فلا حرج فيه ولا تثريب على أصحابه لأن النصوص في هذا المجال ظنية ذات أوجه وتفاوت المدارك سنة من سنن الله في الخلق .
ولقد وقع هذا الخلاف من صحابة رسول الله فكان اختلافهم رحمة على الأمة ، حتى قال بعض أهل العلم : ( إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة ) .
ومعنى ذلك أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفرعي فيهم فكان فتح باب للأمة للدخول في هذه الرحمة ، وكيف لا يدخلون في قسْم ( من رحم ربك ) الوارد في قول الله يعالى (( و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ))؟! فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها والحمد لله .
ثالثا : و بالنسبة للأدلة الشرعية التي تنهى عن التنافس و طلب الإمارة و تتوعد من فعل ذلك بالخذلان و سوء العاقبة وهذا أصل عام صرحت به النصوص السابقة ولكن يرد عليه الإستثناءات الآتية :-
أ. من تتعين عليه الإمارة فله أن يطلبها بل قد يغفر له الحرص عليها وذلك استدلالاً بطلب يوسف عليه السلام للولاية من عزيز مصر كما قال تعالى " قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " يوسف : 55 وقال الألوسي في تفســير هذه الآية : ( وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه بالحق إذا جهر به ، وجواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة ) .
ب. إن المتأمل في الأحاديث التي تنهى عن تزكية النفس وطلب الولاية يستطيع أن يقيد المنع الوارد فيها بمن طلب ذلك لمصلحة نفسه ، أما من طلبها لمصلحة الدين وتحقيق الأصلح للمسلمين مع كونه أهلاً لها وقاصداً إلى إقامة الحق والعدل فيها فهو خارج عن دائرة هذه النصوص .
ت. إن من يحرصون على طلب الإمارة لإنفاذ برامج سياسية معينة يرونها أرضى لله وأنفع للمسلمين فالأمة لا تختارهم من ذواتهم وإنما لما يحملونه من برامج قدروا أنها أقوم لمصلحة الأمة .
رابعا : : بالنسبة للأدلة التي توجب طاعة الأئمة في غير معصية و تنهى عن منازعتهم و تحرم الخروج عليهم ، فهي حق ولكنها خارجة عن مورد المنازعة للأسباب الآتية :
إن السعي إلى المشاركة في الحكم من خلال الأطر المشروعة لإنفاذ برنامج سياسي ، سعي مشروع يقره الشرعية القائمة و يسمح به الإطار السياسي المعتمد من الكافة ، و الذي إلتزم الجميع بأن يقوموا على رعاية المعارضة و توفير الحماية لها كما يقومون على رعاية الأغلبية الحاكمة سواء بسواء
خامسا : أما عن الاحتجاج بفشل التجارب الحزبية المعاصرة غي أغلب البلاد الإسلامية فهو احتجاج غريب للأسباب الآتية :
أ : إن كل الأحزاب التي قامت في أغلب البلاد الإسلامية أحزاب علمانية ، لا نعلم واحدا منها قام علي أساس تحكيم الشريعة الإسلامية و إقامة الدين و استعادة الهوية الإسلامية ، و السعي لإقامة الدولة الإسلامية المنشودة فكيف يحتج بجرائم مثل هذه الأحزاب على فشل التجربة الحزبية في محيط الولة الإسلامية
ب : فإذا صح الاحتجاج بنتائج الحزبية العلمانية فلماذا نحتج ن بفشل الأحزاب في بلاد المسلمين و لا يحتج بنجاحها في بلاد الكافرين أو على الأقل يتعارض الدليلان فيسقطان .
ج : و الحقيقة أن هذا الدليل خارج محل النزاع لأن موضوع النزاه هو التعددية التي تنطلق من الأصول والقواعد الإسلامية و التي تعمل في إطار سيادة الشريعة و يسعى إلى إقامة المشروع الحضاري الإسلامي و وضعه موضع التنفيذ و التعددية بهذا المعنى لم تطبق و إنما أمل يراود التيار الإسلامي ، فكيف يحتج عليها بتجارب علمانية ما قام التيار الإسلامي إلا ليغيرها و تحويل وجهتها إلى الإسلام .
الفرع الثالث
رأي القائلين بمشروعية الأحزاب السياسية
يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن التعددية السياسية جائزة في إطار الشرعية الإسلامية ، وغلب هذا الاتجاه على الباحثين المعاصرين ، و قد أصبح حقيقة واقعة و تكاد أغلب الكتابات الحديثة في النظام السياسي في الإسلام تنحوا هذا المنحى ، وتلتمس من التخريجات الشرعية التي تدخله من منظومة المفاهيم الإسلامية .
و لقد انطلق القائلون بمشروعية السياسية من إطار المذهبية الإسلامية من خلال عدد من المرتكزات و الضوابط التي نوجز بيانها هيما يأتي :
1 : مرتكزات التعددية الحزبية
أولا : السياسة الشرعية :
و السياسة الشرعية : هي تدبير الشئون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح و رفع المضار بما لا بتعدي حدود الشريعة و أصولها الكلية و المراد بالشئون العامة للدولة كل ما تطلبه حياتها من نظم سواء أكانت دستوريه أم تشريعيه أم قضائية أم تنفيذية وسواء كانت من شئونها الداخلية أم من علاقاتها الخارجية .
وعلى ذلك فأن تدبير شئون الحكم وعقد السلطات العامة في الدول وتنظيم العلاقة بينهما وتمكين الأمة من ممارسة حقها في السلطة وتدبير أنظمة الشورى والحسية وتحوه كل ذلك من مسائل السياسة الشرعية التي لا يشترط فيها أن نكون على منال سابق ، بل الذي يشترط هو آلا تخرج عن قوانين الشريعة الكلية وحدودها العامة ، وان تحقق بها المصلحة ويرفع بها الخرج .
فإذا كان الواقع انه قد رق دين الحكام وضعف الوازع الداخلي الذي يحملهم على الإنصاف و أقامه العدل وحماية الحقوق والسهر على كافة المصالح و مت الحاجة إلى رقابة شعبية منظمة تأطر هؤلاء الحكام على الحق أطرا و تتبنى مطالب الأمة و تضع البرامج السياسية القادرة على استصلاح الأحوال و النهوض بالبلاد و العباد و تدفع بها إلى التنفيذ من خلال إطار سلمي مشروع يتفق عليه الكافة فإن ذلك مما يندرج في باب السياسة الشرعية و يكون من الواجب إحكام صياغة هذا النظام حتى لا يهدم أصلا قطعيا في الشريعة الإسلامية أو يعارض حكما من أحكامها
ثانيا : الأصل في العقود و المعاملات الإباحة حتى يأتي ما يثبت التحريم :
و هذا ما انتصر له عدد كبير من الفقها منهم شيخ الإسلام ابن تيميه و غيره و من المعلوم أن أعمال هذه القاعدة ووضعها موضع التنفيذ فإن استخلاص صياغة لتعددية حزبية تحقق المصلحة و تفي بالحاجة نو تصون الأمة من جور الحكام المستبدين و تحفظ له حقوقه في الرقابة و الحسبة و لم تصطدم هذه الصياغة بمحكم الشريعة سواء كان نصا جزئيا أو كليا ، فإن المصلحة تقتضي اعتباره من الحل و على مدعي المنع إقامة الدليل .
ثالثا : مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب :
فإذا استصحبنا هذه القعدة لتطبيقها في مجال السياسة و الحكم ، لوجدنا أن الشريعة تأمرنا بجملة من المبادئ الكلية يتوقف وجودها أو حسن القيام بها في واقعنا المعاصر على التعددية السياسية و ذلك على النحو التالي :
أ : الشـــــورى : و هي من عزائم الحكم وقواعد الشريعة الكلية و لا سبيل لتحقيقها و حسن تطبيقها في باب السياسة و الحكم - في الواقع المعاصر - ‘لا عن طريق التعددية السياسية .
ب : الرقابة على السلطة و محاسبة الحكام : حق أصيل للأمة و هو مبني على أساس أنها صاحبة الحق في السلطة ابتداء و قد فوصي أئمتها في القيام بتبعاته ، و يبقى لها الحق واجب الرقابة فإن استقام أئمتها استقامت لهم ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، و مقتضى ذلك وجب الرقابة و اليقظة لضمان بقاء تصرفات الأئمة في هذا الإطار
و لاشك أن إقامة هذا الواجب على وجهه يقتضي قيام تكتلات شعبية تتولى هذه المهمة و المعارضة الفردية لا جدوى لها أمام جبروت الطغاة ، ولقد أثبتت التجارب أن الأحزاب السياسية أكثر فاعلية و أعمق أثرا و أجدى - في باب التغيير و استصلاح الأحوال - من المعرضة الفردية المتناثرة
رابعا : صيانة الحقوق و الحريات :
للحقوق و الحريات - في الشريعة الإسلامية - منزلة عظيمة و صيانتها من مهام الدولة الأكيدة و لا يتأتى مقصود الشارع في صيانتها إلا بإنشاء هذه التكتلات الشعبية التي تحمي الشعب من عسف السلطان و جور الحكام و تحقق له السيادة على نقسه و على قراره في إطار سيادة الشريعة .
2 :مقومات و مبادئ الشريعة الإسلامية
تقيد التعددية السياسية
إن الإقرار بالتعددية يعني أن نتيح لجميع الأطراف فرصة متكافئة في الإعلام ، يدعون لبرامجهم و يقدمون أنفسهم إلي الأمة ، فهل يقبل المجتمع المسلم أن يترك الإعلام للملاحدة و لمرتدين يزيفون باطلهم و يروجون لإلحادهم و ردتهم و يتولون الحكم و تكون لهم الولاية ؟؟ و من ثم كيف يتم يداول السلطة ؟ .
و الحقيقة أن التعددية المطلقة لا وجود لها في الواقع لا في الدولة الإسلامية و لا في الدول العلمانية ، لأنه ما من دولة من الدول إلا و تقيد الحريات و غيرها بما يسمى بالنظام الغام و الآداب العامة أو المقومات و المبادئ الأساسية للمجتمع ، و قد تضيق دائرة القيود هذه و قد تتسع و تتفاوت من دولة لأخرى ، إلا أن هناك قدر محكم لدى الجميع هو وجود إطار يجب أن تتقيد به هذه التعددية و أن تدور في فلكه ، و من ثم يجب أ، تتقيد التعددية السياسية بالمقومات و المبادئ الشرعية الآتية :
1: أن تكون هذه التعددية في إطار الأصول الإسلامية الثابتة بالكتاب والسنة و الإجماع ، فلا يسمح نتحزب على أصول بدعية كتلك التي تتميز بها الفرق الضالة على مدار التاريخ ، فإن في ذلك خروج عن الجماعة وإتباعا لغير سبيل المؤمنين .
2 : أن يتفق جميع الأطراف على إطار جامع - يشمل هذه الأصول الثابتة بالكتاب و السنة والإجماع و المصالح العليا للبلاد - يكون موضع إقرار الكافة يعملون على دعمه و هم في ذلك نسيج واحد وحزب واحد وهم يد على من سواهم .
3 : أن يكون الالتزام بالحق والمصالح العليا للبلاد هو البديل للالتزام الحزبي كما في المبدأ الديموقراطي : النائب يمثل الأمة و ليس دائرته فقط حتى يكون الصالح العام أولى بالاعتبار.
4 : و أن يكون الترشيح من قبل الحزب و ينأى الشخص بنفسه عن التهالك على الأمر و أن يكون معيار التقويم والمفاضلة بين المرشحين هو ما يقدمونه من برامج و إجتهادات سياسية ناضجة ، و يكون طلب الولاية لمصلحة الأمة و ليس لمصلحته الشخصية أو الحزب و بهذا نتجاوز آفة التنافس في التعددية .
5: و بالنسبة للدعاية الانتخابية فتقتصر على القدر الذي يتحقق به التعريف في إطار الصدق و الموضوعية و أن يتمحور البيان و التزكية على البرامج المقترحة للإصلاح ، وتجنبا للقدح في الآخرين فيجب الالتزام بالضوابط المقررة شرعا و الحزم في التصدي للتجاوزات في هذا المجال .
المطلب الثالث
الحرية السياسية و تداول السلطة السياسية
تمهيد : المقصود بالحقوق السياسية :
الحقوق السياسية عند في فقه العلوم السياسية و النظم الدستورية تعني : الحقوق التي يكتسبها الشخص باعتباره عضوا في هيئة سياسية مثل حق الانتخاب و الترشيح و حق الشورى
الفرع الأول
حرية الترشيح و الانتخاب
أولاً : حق الترشيح
حق الفرد في الترشيح : من حق الإنسان أن يرشح نفسه لمنصب من مناصب الدولة أو وظيفة من وظائفها العامة ، فهل يملك هذا الحق انفرد في الدولة الإسلامية ؟ الظاهر انه لا يملك هذا الحق _كقاعدة عامة _ فلقد جاء في الحديث الصحيح عن عبد الرحمن بن سمرة أن النبي قال له (( يا عبد الرحمن بن سمرة لا يسأل الإمارة فان أعطيتها عن مسالة وكلت إليها و إن أعطيتها من غير مسالة اعنت عليها )) فالترشيح يتضمن طلب المنصب أو الوظيفة و هذا غير جائز ، أما ترشيح المرء لغيره فجائز لأنه لا يتضمن طلب الولاية و إنما يتضمن دعوة الأمة إلى انتخاب المرشح الكفء ، هذا في الأصل .
حكم الترشيح في الوقت الحاضر : أما إذا اقتضت الضرورة أو المصلحة العامة ترشيح المرء لنفسه فجائز و لا خلاف أن الأمور قد تعقدت في الوقت الحاضر و اتسعت و ما عاد بالإمكان معرفة الأمة للأكفاء الصالحين حتى تنتخبهم ، فإن قام الكفء بترشيح نفسه من قبيل الدلالة على الخير و إرشاد الأمة و إعانتها على انتخاب الأصلح لتحقيق المصلحة العامة فجائز و ذلك استئناسا بقول يوسف ((اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم )) يوسف : 55
الدعاية للمرشح : و يجوز للمرشح أن يعرض نفسه على الناخبين و يعرفهم بنفسه و يبين لهم برنامجه الانتخابي و فكرته و منهجه في العمل دون مدح لنفسه و ذم للآخرين و تنقيص لهم
ثانياً : حق الانتخاب
حق الفرد في الانتخاب أساسه الشرعي :
من حق أي فرد -في الدولة الإسلامية - أن يمارس حقه في الانتخاب سواء كان هذا انتخاب رئيس الدولة أو أهل الشورى و هذا الحق ثابت و قد صرح به الفقهاء فمن أقوالهم الصريحة في انتخاب رئيس الدولة : ( فمن اتفق المسلمون على إمامته و بيعته ثبتت إمامته و وجبت معونته ) فرئيس الدولة رجل تنتخبه الأمة و ترضى به ، ويستمد سلطانه من هذا الرضا و ذاك الاختيار.
الفرع الثاني
حرية الرأي و الشورى
أولاً : حرية الرأي
مكانة هذه الحرية في الشريعة :
حرية الرأي حق الفرد في الدولة الإسلامية بالغ الأهمية والخطورة لا يجوز للدولة أن تنتقص منه ولا يجوز للفرد أن يتنازل عنه .. أنه ضروري لكيان الفرد الفكري والإنساني ، ولازم لقيام المسلم
بفرائض الإسلام .. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم فرائض الإسلام ، وتحقيقه يستلزم بداهة حرية الرأي . جاء في القرآن الكريم ، في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر "
( العصر : 1- 3 ) و قوله تعالى " والمؤمنون والمؤمنات يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " ( التوبة : 71 ) ، " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " ( آل عمران : 104 ) وفي الحديث الشريف : (( من رأى منكم فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ))
حدود حرية الرأي :
و حرية الرأي ليست مطلقة من كل قيد ، بل هي تخضع لجملة من القيود ، و أول هذه القيود : ذلك القيد العام الذي يقيد استعمال كل حق ، و خو حسن القصد و خلوص النية ، بأن يريد من حرية الرأي الوصول إلى الحق و إفادة المجتمع ، و النصح للإسلام و لأئمة الإسلام و عامتهم لما أمر الله
و القيد الثاني : وهو من القيد الأول ألا يبغي بحرية الرأي الفخر و الرياء و تنقيص الآخرين و التشهير بهم و تكبير عيوبهم ، بقصد الوصول إلى مغنم أو منصب .
و القيد الثالث : مراعاة العقيدة و المبادئ الإسلامية ، فلا يجوز الطعن في الإسلام أو في عقيدته بحجة حرية الرأي .
القيد الرابع : أن يراعي المعاني الأخلاقية في الإسـلام ، فلا يجوز نهش الأعراض و سب الناس و رميهم بالقبائح بحجة حرية الرأي ، فالحرية تقف عندما تصبح أداة إضرار و إفسـاد .
ثانياً : حق المشاورة
حق المشاورة أساسه الشرعي :
و حق المشاورة هو في الحقيقة امتداد لحق الأمة في انتخاب رئيس الدولة فهي التي انتخبته ومن حقها عليه ألا يبرم أمرا من الأمور الهامة التي تؤثر في حاضرها و مستقبلها إلا بعد الرجوع أليها و أخذ مشورتها (( و أمرهم شورى بينهم )) سورة الشورى ، قال تعالى في سورة الشورى موضحا صفات المؤمنين ( و الذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة و أرهم شورى بينهم و مما رزقناهم ينفقون ) الآية الكريمة تضمنت حكما هو أن : أمر المسلمين شورى بينهم ، فهم يتشاورون في أمورهم العامة و الخاصة لإقامة العدل و تنفيذ حكم الله و تحقيق مصالح العباد ، و حتى لا يستبد فرد أو قلة من الناس بالتصرف أمر تعم به البلوى ، و تتأثر به مصالح الغالبية من الشعب المسلم .
و هذه النصوص الشرعية واضحة الدلالة علي وجوب المشاورة و لا خلاف بين الفقهاء على ذلك ، قال ابن تيمية( لا غنى لولي الأمر عن المشاورة فإن الله تعالى أمر بها نبيه ) ، و هذا المعنى ذكره كل من القرطبي و الرازي و الطبري في تفاسيرهم .
ترك الشورى موجب لعزل الحاكم :
و نظرا لثبوت حق الأمة في المشاورة و لزومه على الحاكم ، صرح الفقهاء بأن يرك هذا الحق من قبل الحاكم موجب لعزله قاله القرطبي ( قال بن عطية : والشورى من قواعد السريعة و عزائم الأحكام ، من لم يستشر أهل العلم و الدين فعزله واجب ) فلا بقاء لحاكم مستبد في دولة تقام على الإسلام .
الفرع الثالث
الحق في مراقبة و محاسبة الحاكم
و للأمة - و الفرد واحد منها - الحق في مراقبة رئيس الدولة وسائر ولاتها ، في أعمالهم وتصرفاتهم التي تخص شئون الدولة . وتستمد الأمة هذا الحق من طبيعة علاقتها مع رئيس الدولة ، فعلاقتها معه علاقة وكالة ، فهي التي اختارته ، ومن حق الموكل أن يراقب وكيلة ليطمئن على حسن قيامة فيما وكله فيه .
وحق الأمة ، في مراقبة رئيس الدولة وسائر ولاتها وحكامها ، كأن مرعيا أحسن رعاية في عصر الإسلام الأول ، واكثر من ذلك كان رؤساء الدولة الإسلامية يدعون الأمة لمراقبتهم وتقويمهم إذا رأوا في سيرتهم اعوجاجا ، وقد حفظ لنا التاريخ سوابق خالدة في هذا الباب من ذلك ما قاله الخليفة أبوبكر الصديق في خطبة له (( .. فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني )) ، ومن خطبة للخليفة عمر بن الخطاب : (( من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه ، فقال له أحد الحاضرين : والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا ، فقال الإمام عمر بن الخطاب : (( الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم عمر بسيفه )) .
الخاتمة
هذه الدراسة عنوانها : ( تداول السلطة السياسية في الشريعة الإسلامية ) و لقد قسمتها إلى ثلاثة مطالب ، في كل مطلب ثلاثة فروع .
و كان في المطلب الأول : تناولت قيام سلطة الحكم و انتهاءها و هذا لب البحث و أساسه فمن خلال ثبوت احكم و انقضائه يتم تداول السلطة ، و في الفرع الأول : بينت الشروط الواجب توافرها في الحاكم وطرق انعقاد الحكم ثم إجراءات اختيار الحاكم و قد رأيت أن الطريق الوحيد الذي ينعقد به الحكم و تثبت به السلطة هو الانتخاب ، و في الفرع الثاني : تعرضت للأـسباب التقليدية التي ينتهي بها الحكم و هي الوفاة و الاستقالة و العزل ، و في العادة يستمر الحاكم في حكمه مدى الحياة ما لم يحدث سبب من هذه الأسباب ، و لما كان لتداول السلطة يعني أن ينتقل الحكم من شخص لآخر و من حزب سياسي لغيره ، لذلك طرحت - في الفرع الثالث - مسألة : تحديد مدة لرئيس الدولة و انتهيت إلى أن من الفقهاء المعاصرين و السالفين من يرى جواز ذلك على أساس أن الخلافة عقد بين الحاكم و الأمة يتم بالتراضي بينهما ، فإنه يجوز تقييدها بما يقيد سائر العقود من الشروط و القيود شريطة أن تكون في دائرة الشرعية ، فلا تحل حراما و لا تحرم حلالا و لا تأمر بمنكر و لا تنهى عن معروف ، فإنه إذا تم النص في عقد التولية على تقييده بمدة زمنية معينة فلا حرج في ذلك ، و يصبح هذا التقييد ملزما للكافة ، و لا يعتبر السعي لتولي مقاليد السلطة بعد انتهاء المدة الدستورية شقا لعصا المسلمين ، و يجوز في تلك الحالة أن يتعدد المرشحون الذين تقومون أو يقامون لتتفق الأمة على واحد منهم ، كما وقع عند خلافة الصديق ة خلافة عثمان رضي الله عنهما فإذا انعقدت الحكومة بأغلبية أصوات الأمة ، و استلم الرجل المنتخب زمام الحكم فحينئذ لا يجوز لحد أن يقوم لينازعه طوال فترة حكمه .
و المطلب الثاني كان عنوانه : التعددية السياسية و تعرضت فيها للأحزاب السياسية ، و لما كانت موضوعها من المسائل الحادثة التي لا عهد للأمة بها من قبل تفاوتت اجتهادات الفقهاء المعاصرين في هذه القضية بين رأيين : الأول : يرى حرمة الأحزاب السياسية و الآخر: يرى مشروعيتها ، و نحن مع هذا الرأي باعتبار أن الأحزاب السياسية من مسائل السياسة الشرعية التي تعتمد الموازنة بين المصالح و المفاسد و لا يشترط لمشروعيتها أن تكون على مثال سابق ، و أن الأصل في العادات و المعاملات الحل حتى يأتي ما يدل على التحريم ، و قاعة الذرائع و ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فالتعددية أمثل طريق إلى تحقيق الشورى و الرقابة على السلطة و صيانة الحقوق و التحريات ، لما أنها الطريق إلى الاستقرار السياسي و منع التمرد و الخروج المسلح على السلطة فضلا عن أن بديلها الاستبداد بالسلطة و ما ترتب عليه - كما يحكي التاريخ - من الإغراء بالقهر و التسلط ، و الأهم من ذلك كله أن كل الأدلة التي ساقها المعارضون محل نظر ، و أن ما ذكروه من المفاسد منها ما يمكن تجنبه بالكلية و منها ما يمكن تقليله بحيث يبدوا مرجوحا إذا ما قورن بما في التعددية من المصالح الراجحة .
و في المطلب الأخير : تعرضت لمجموعة من الحقوق والحريات اللازمة و الضرورية لتداول السلطة و انتقالها من حاكم لآخر و من حزب سياسي لغيره و هي حرية الانتخاب و الترشيح والرأي ثم حق الشورى و حق الأمة في مراقبة تصرفات الحاكم و محاسبته عليها ، و تعرضت لكل حرية أو حق بإيجاز شديد يفي ببيانه و لزومه لتداول السلطة .
و بعد فلا أدعي أني وفيت موضوع البحث حقه ولا استوفيت عناصره ، و إنما هي محاولة أفتح بها باب البحث - مع من سبقني في هذا الباب - أحسب أني بذلت فيها جهدا و أنفقت وقتا أحتسبه عند ربي سبحانه و تعالى و أسأله أن يغفر لي تقصيري و الله من وراء القصد و هو يهدي السبيل .
المراجع
سلسل اسم المؤلف اسم الكتاب دار النشر و تاريخ الطبعة
أولا : القرآن الكريم
ثانيا : كتب التفاسير
1 الأمام ابن كثير تفسير القران العظيم طبعة الحلبي
2 الإمام للألوسي روح المعاني
3 . الإمام البغوي معامل التنزيل مطبعة التقدم
4 الإمام القرطبي جامع لأحكام القران دار الكتابة العربيةا1967 م
5 لإمام الرازي تفسير
6 الإمام الطبري جامع البيات في تأويل القران دار المعارف بمصر 1975
ثالثا : كتب الحديث
7 لإمام الإمام أحمد ابن حنبل مسند الإمام أحمد دار المعارف 1313
8 الإمام لترمذي سنن الترمذي
9 الإمام ابن حجر العسقلاني فتح الباري المطبعة الخيرية بمصر
10 الإمام ابن حزم الفصل في الملل والأهواء والنحل مكتبة السلام العالمية بالقاهرة
11 الإمام الشهرستاني الملل والنحل مطبعة الحلبي 1931
12 الإمام لشاطبي الاعتصام المكتبة التجارية ط 1
خامسا : كتب الفقه
13 الإمام ابن تيميه مجموعة الفتاوى ط 1 1386
14 أبن قدامه الحنبلي المغني مطبعة الإمام
15 الدرديري الشرح الكبير على مختصر خليل المطبعة العامرة 1392هـ
16 ابن سعد
سادسا : كتب السياسة الشرعية
17 الإمام المارودي الأحكام السلطانية مطبعة عيسى الحلبي
18 ابن تيمية السياسة الشرعية
19 بن خلدون المقدمة
سابعا : كتب حديثة في النظم السياسية و القانون الدستوري
20 د / زكريا عبد المنعم الخطيب - نظام الشورى في الإسلام طبعة 1985
21 د/ سليمان الطماوي السلطات الثلاثة دار الفكر العربي ط 1979م
22 د / صلاح الصاوي ، التعددية السياسية ط 1 1414هـ 1992م دار الإعلام الدولي القاهرة
23 د / عبدالرازق السنهوري فقه الخلافة الهيئة المصرية العامة للكتاب ط2 1993
24 عبد القادر عودة التشريع الجنائي الإسلامي الهيئة المصرية العامة للكتاب
25 د / عبد الكريم زيدان الفرد و الدولة في الشريعة الإسلامية سلسلة صوت الحق دار العلوم للطباعة