الجمعة، 25 ديسمبر 2015

القدوة الأول في شهر مولده ... 2 المعلم الأول والمربي الأكمل إعداد : محمد أبوغدير المحامي


مقدمة
قال الله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ} الجمعة : 2
بينت هذه الآية مهام الرسول التعليمية والتربوية تجاه أمته ، فالأمة بلا علم يوضح لها جوانب سلوكها ، وبلا تربية يتخلى بموجبها كل فرد من أفرادها عن الرذائل ويتحلى بالفضائل ، تصبح أمة فوضوية تصرفاتها غير متوقعة وغير منضبطة ، ولكل فرد من أفرادها سلوك يخالف سلوك الآخر وعادات وتصورات تختلف فلا تكاد أمة تفلح ، ولا شك أن مهام الرسول التعليمية والتربوية هي الجانب الأعظم من حياته ، إذ بهذه المهام تستقيم حياة البشر السياسية الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية
وبالعلم والتربية صهر الرسول صلى الله عليه أفراد هذه الأمة صهراً تاماً ثم شكل منهم أمة جديدة لها كل مقوماتها الفكرية والسلوكية والتشريعية والدستورية واللسانية ، ورسم لهم الطريق وقادهم فترة ثم تركهم ماضياً إلى ربه سبحانه ، فانطلقوا بعده لم يغيروا ولم يبدلوا فكان ما كان ولا زال مما نشاهده من آثار المسلم العظيم الذي كلّما تعثر أخذت بيده تعاليم المعلم الأول محمد صلى الله عليه وسلم وتربيته فأنقذته وقذفت به إلى الأمام.

يقول الأستاذ سعيد حوى في كتابه الرسول صلى الله عليه وسلم : إن كمال المربي يظهر الآتي :

1 - في مقدار ما يستطيع أن ينقل نفس الإنسان وعقله من حالة دينا إلى حالة أعلى وكلما ترقى بالإنسان أكثر دلّ ذلك على كماله أكثر.

2 - في سعة دائرة البشر الذين استطاع أن ينقلهم إلى كمالهم الإنساني، فكلما كانت الدائرة أوسع كان أدل على الكمال.

3 - ثم في صلاحية هذه التعاليم والتربية، وحاجة الناس جميعاً إليها، واستمرار إيتاء هذه التعاليم آثارها على مدى العصور ؛ بحيث لا يستغني البشر عنها .

ولقد بلغ رسول صلى الله عليه وسلم منزلة المعلم الأول والمربي الأكمل واستوفي شروطها السالف بياتها ما بلغ أحد في تاريخ البشرية ما بلغه محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الجوانب كلها ، فما هذه السمات في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما شواهدها في أصحابه والأمة المسلمة .


أولا : النقلة التي أحدثها الرسول في نفس وعقل أصحابه :

من ينظر إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذين شرفوا برؤيته والإيمان به سواء من رافقه كل فترة البعثة أومن رآه مرة فسمع منه حديثاً ، ثم يجري مقارنة بين حياة هؤلاء قبل تلمذتهم على يديه وحياتهم بعده من حيث أهدافهم العامة والخاصة ، وتصوراتهم عن الله والكون والإنسان ، لا شك سوف يرى النقلة الواسعة التي أنتقل إليها أصحاب رسول الله من حضيض إلى سمو لا يدانيه سمو آخر وذلك بفضل الله ثم بكمال تربيته وتعليمه صلى الله عليه لهم ، وشواهد ذلك على سبيل المثال ما يأتي :

1 - عمر ابن الخطاب من اللهو والبطالة إلى الحاكم العادل :

عمر بن الخطاب في الجاهلية كان رجلاً قَبَلي الفكر والطبيعة والعاطفة والتصور، محدود الإدراك، همه في لحياة السكر واللهو والبطالة مع أصدقائه.
ولولا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعاش عمر ومات عمر وما أحس به أحد ولكنه ما إن يشرب كأس الإسلام من يد رسول الله حتى أصبح عمر الفاروق العبقري الفذ ، ورجل الدولة العظيم ، ورمز العدل الذي يجمع بين الحزم والرحمة ، وسعة الأفق وصدق الإدراك وحسن الفراسة .
عمر الذي أصبح ملء الدنيا سمعها وبصرها. ما كان ليكون شيئاً لولا أنه تربى في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ منه العلم والحكمة والتربية .

2 - عبد الله بن مسعود من الراعي المجهول إلى العالم الفقيه :

عبد الله لن مسعود هذا الرجل النحيل القصير الحَمِش الساقين ، كان يرعى غنما لعقبة بن أبي معيط ، فماذا أصبح بعد أن ربته يد النبوة ؟
خاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلاة والسلام ومع خلفائه من بعده وشهد أعظم إمبراطوريتين في عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات الإسلام ومشيئته..
ورأى المناصب , والأموال الوفيرة تتدحرج بين الأيدي , فما شغله من ذلك شيء عن العهد الذي عاهد الله عليه ورسوله.. ولا صرفه صارف عن إخباته وتواضعه ومنهج حياته..
ويصبح ابن مسعود الرجل الذي يعتبر مؤسسة أكبر مدرسة في الفقه الإسلامي والتي ينتسب إليها أبو حنيفة النعمان، يصبح الرجل الذي يقول فيه عمر لأهل الكوفة ؛ لقد آثرتكم بعبد الله على نفسي .

3 – مصعب بن عمير من الفتى المدلل إلى المجاهد الشهيد :

كان مصعب في الجاهلية الفتى المدلل، وكانت أمه من أغنى أهل مكة تكسوه أحسن الثياب وأجمل اللباس ، وكان أعطر أهل مكة ، فلما أسلم وتربى على يدي رسول الله انخلع من ذلك كله ، وأصابه من التعذيب والبلاء ما غيَّر لونه وأنهك جسمه، وكان أول سفير وأول داعية إلى الإسلام ، وكانت نهايته شهادة كما يقول عنه خبّاب بن الأرت : قتل يوم أحدفلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة.. فكنا إذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه, وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه, فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اجعلوها مما يلي رأسه, واجعلوا على رجليه من نبات الأذخر"


ثانيا : الرسول يفجر طاقات أصحابة والإنسان:

عندما تدرس شخصية الإنسان قبل اتصالها برسول الله وبعد اتصالها تجد أن كل شيء فيها قد تغير وتجد كل طاقاتها وملكاتها قد انطلقت في الطريق الصحيح. لمستقيم، بحيث لا يستطيع إنسان أن يقول إن طاقة ما معطلة عند أصحابها أو أنها تعمل عملاً غير صالح.

فجر صلى الله عليه وسلم طاقة العمل بقوله : ” إن الله يحب العبد المحترف” أخرجه الحاكم والطبراني والبيهقي عن ابن عمر وضعفه السيوطي .

كما فجر صلى الله عليه وسلم طاقة المشاركة في العمل العام فقال :” إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وتبعتم أذناب البقر وتركتم جهادكم سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تعودوا إلى دينكم” رواه أبوا داود وحسنه السيوطي.

كما فجر صلى الله عليه وسلم الطاقة الجسمية حين قال :” المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف..” أخرجه مسلم .

كما فجر صلى الله عليه وسلم طاقة الفكر والعلم بقوله : ” طلب العلم فريضة” أخرجه الطبراني وهو حديث حسن لغيره وقوله صلى الله عليه وسلم : “تفكر ساعة خير من قيام ليلة”] أخرجه ابن سعد .

الطاقة الجنسية:” تزوجوا الولود الودود” أخرجه أبو داود والنسائي .

كما فجر صلى الله عليه وسلم ملكة حسن الهندام حين قال : ” فأصلحوا رحالكم وأحسنوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في أعين الناس فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش” أخرجه أبو داود .

إنك لا تجد طاقة من طاقات الإنسان إلا وقد أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقها الصحيح، فأصبحت ترى من أصحابه العجب، في تكامل شخصياتهم عباداً زهاداً شجعاناً محاربين عادلين رحماء إداريين سياسيين حكماء مربين. كل واحد منهم أمة، وما أسهل عليه أن يقود أمة، ولا أدل على ذلك أنه ندر واحد منهم لم يصبح أميراً بعد ذلك ولم يفشل واحد منهم في ما ولي من قيادات.

وقد ثبت مقدار ما رفع رسول الله النفس البشرية من خلال هذه الأمثلة الآتية ذات الدلالة الكبيرة:

أ – المرأة المسلمة تنتزع حقوقها :

نتيجة حتمية لتربية الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة ارتقت المرأة تطالب حقوقها إذا فقدتها وتجد من يسمع لها ويعطيها إياه ومن الأمثلة على ذلك :

1 . أخرج النسائي عن عائشة – رضي الله عنها – أن فتاة قالت – يعني للنبي صلى الله عليه وسلم -: إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبيها فجاء فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله ! إني قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلّم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء”. ؟

2 . وأخرج الخمسة إلا مسلماً قصة الحب العجيبة تلك التي كانت عند العبد مغيث للعبدة بريرة التي أصبحت بعد ذلك حرة وانفصم ما بينهما من نكاح وكانت لا تحبه وكان مولعاً بها يقول ابن عباس: إن زوج بريرة كان عبداً يقال له مغيث، كأني أنظر إليه خلفها يطوف ودموعه تسيل على لحيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثاً ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو راجعته ؟ فقالت: يا رسول الله ! تأمرني ؟ قال: لا إنما أشفع قالت: لا حاجة لي فيه”.
أهناك أبلغ في التربية من هذا الذي وصلت إليه هذه الأمة لقد أصبح كل فرد فيها يعرف حقه وواجبه ويجادل فيه ويقف عنده.

ب _ عزة نفس لا مثيل لها :

احدث الرسول المربي نقلة عظيمة تمثلت في عزة نفس لا مثيل لها،تحمل في طياتها أبلغ ما وصلت إليه التربية الاستقلالية التي لا يكون معها معنى من معاني الاتكال على الغير وهذه أمثلة على ذل :

1 . أخرج ابن عساكر عن عوف بن مالك الأشجعي – رضي الله عنه – قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فرددها ثلاث مرات. فقدمنا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله ! قد بايعناك فعلى أي شيء نبايعك ؟
فقال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وأسر كلمة خفية أن لا تسألوا الناس شيئاً. قال: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطه فما يقول لأحد يناوله إياه.

2 . وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يبايع ؟ فقال ثوبان - رضي الله عنه - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بايعنا يا رسول الله ! قال: على أن لا تسأل أحداً شيئاً. فقال ثوبان: فما له يا رسول الله ؟ قال: الجنة. فبايعه ثوبان.
قال أبو أمامة: فلقد رأيته بمكة في أجمع ما يكون من الناس يسقط سوطه وهو راكب فربما وقع على عاتق رجل فيأخذه الرجل فيناوله فما يأخذه حتى يكون هو ينزل فيأخذه.

3 . وأخرج عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب قال: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام - رضي الله عنه - يوم حنين عطاء فاستقله فزاده فقال: يا رسول الله ! أي عطيتك خير ؟ قال: الأولى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا حكيم بن حزام ! إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس وحسن أكلة بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس وسوء أكلة لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى، قال: ومنك يا رسول الله ؟ قال: ومني ! قال: فوالذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً أبداً.
قال: فلم يقبل ديواناً ولا عطاء حتى مات.
قال: وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: اللهم إني أشهدك على حكيم بن حزام أني أدعوه لحقه من هذا المال وهو يأبى، فقال: إني والله ما أرزؤك ولا غيرك شيئاً. كذا في الكنز .

ج _ التكافل التعليمي :

كانت توجيهاته صلى الله عليه وسلم المعلم والمربي تفترض على المتعلم أن يعلم وعلى الجاهل أن يتعلم حتى تترقى الأمة كلها وقد سبق هديه العالم المعاصر الذي يفرض التعليم ويجعله إلزامياً إجبارياً.

فقد روى الطبراني في الكبير عن بكير بن معروف عن علقمة... عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم ؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون ؟ والله ليعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة.
ثم نزل، فقال قوم: من ترونه عنى بهؤلاء ؟ قال: الأشعريون هم قوم فقهاء ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب، فبلغ ذلك الأشعريين فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله ! ذكرت قوماً بخير وذكرتنا بشر فما بالنا.
فقال: يعلِّمنَّ قوم جيرانهم وليعظنَّهم وليأمرنَّهم ولينهونَّهم وليتعلَّمن قوم من جيرانهم ويتعظون ويتفقهون أو لأعاجلنَّهم العقوبة في الدنيا. فقالوا: يا رسول الله ! أنعظنَّ غيرنا ؟ فأعاد قوله عليهم، فأعادوا قولهم: أنعظنَّ غيرنا ؟ فقال ذلك أيضاً. فقالوا: أمهلنا سنة، فأمهلهم سنة يفقهوهم ويعلموهم ويعظوهم. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ}المائدة : 78 ، 79 ..


ثالثا : شمول النقلة العلمية والتربوية لتعم كل الجزيرة العربية :

ولم تكن دائرة تربية الرسول صلى الله عليه وسلم محدودة بل شملت كل الجزيرة العربية، بترتيب وسائل هذه التربية، فكان لا يكتفي من القبيلة بإسلامها حتى يأتيه وفدها، وكان يبقى الوفد عنده في المدينة أياماً تمتد كثيراً أحياناً.

وخلال هذه الإقامة كان صلى الله عليه وسلم يصوغهم صياغة جديدة. سواء بتوجيهاته أو بالاقتداء. أو بأمر أصحابه أن يعلموهم . حتى إذا ما أذن لهم بالرحيل أمّر عليهم رجلاً منهم وأمرهم أن يقوموا بعملية التربية والتعليم نيابة عنه. وكان زيادة على ذلك يرسل أصحابه آحاداً أو جماعات ممن فقهوا وربوا تربية عالية إلى كل مكان، ليقوموا بدور المربي.

فكان من آثار ذلك أنه خلال سنوات معدودة لا تتجاوز عشراً، أصبحت الجزيرة العربية – وما أوسعها حتى لتكاد تكون قارة – واعية لدين الله ، مرباة مهذبة إلى حد كبير، تغيرت مفاهيمها إلى أعلى ما يبلغ إنسان من تصورات، بعد أن كانت في أدنى دركات الانحطاط الفكري حتى ليعبد أحدهم تمرات صباحاً ويأكلهن مساءً.

وكان القرآن حفظاً وفهماً وتطبيقاً وسلوكاً هو أداة هذه التربية العظيمة. وسترى في بحث المعجزة القرآنية أن هذا القرآن أحاط بكل شيء. وفتح آفاق النفوس والعقول على كل مشهد. فلم يعد به خافياً على أحد ما ينبغي أن يأخذ وأن يدع، ولم يبق معه سؤال بلا جواب، ولم تبق حجة لمنحرف إلا وقد دحضت فيه، ولا شبهة على الإسلام وأهله إلا كشفت به، ولا جانب من جوانب الحياة إلا وقد عرف الحق فيه منه.

والرسول صلى الله عليه وسلم كان همه أن يستوعب الناس هذا القرآن حفظاً وفهماً وتطبيقاً، إذ على قدر ما يستوعبه أفراد الأمة على قدر ما ترتفع أنفسها، ويسمو تفكيرها، وتتفتح آفاق الحياة أمامها، ولذلك جعل مقياس الخيرية القرآن فقال:” خيركم من تعلم القرآن وعلمه” أخرجه البخاري .

وكان يختار للإمرة أكثر الناس أخذاً للقرآن حفظاً وفهماً وتطبيقاً. وربى أصحابه على ذلك، فكانت سياسة الخلفاء بعده منصبة على أن يبلغ الناس بالقرآن غاية الجد فيه، والحرص عليه، حتى قال عمر لجيش من جيوشه وقد أرسله:” إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدويِّ النحل فلا تصدّوهم بالأحاديث فتشغلوهم جَودوا القرآن وأقّلوا الرواية عن رسول الله امضوا وأنا شريككم” أخرجه الطبري .

ولم تمض فترة إلا وأصبح القرآن على كل لسان، وأصبح كثير من الناس وقد حفظوه كله، فارتقت بذلك مدارك المسلمين كلها ارتقاء لا مثيل له سواء في ذلك جوانب العقيدة أو العبادة أو السياسة أو الإدارة أو الأخلاق أو التشريع أو الحرب أو السلم أو العلم أو العمل. فترة بسيطة من الزمان وإذا بالأمة الأمية لا يغلبها غالب فكراً أو حرباً أو حضارة وكل ذلك أثر من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن ينسب لسواه، وحدث بذلك مرة واحدة في تاريخ البشر أن الإنسانية رأت أمة: الحق عندها يحكم القوة، والزهد عندها ترافقه الشجاعة، والعبادة عندها ترافقها الحكمة، أمة ما رأت مثلها الدنيا لذلك فإنها ما كادت تتعرف عليها حتى دخلت في دينها.

أوليس عجيباً أن البلاد التي فتحها هؤلاء الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل أهلها في الإسلام طوعاً لا كرها ً وأخلصوا للدين الجديد حتى فدوه بالأرواح والأموال والأولاد مع أن الإسلام أعطاهم حرية البقاء على دينهم الأول كل ذلك إنما كان كأثر من الإعجاب برجال لهم دين ليس مثله بين الأديان ولا يوجد مثلهم بين الرجال.


رابعا : النضج الفكري لأصحاب للصحابة ومجابهتهم كل الثقافات الأخرى :
.
من ثمار التربية المحمدية لهذه الأمة كان النضج الفكري الذي وصل إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جابهوا كل الثقافات الأخرى غالبين وهذه أمثلة منها:

أ‌- قال المقوقس لحاطب:
ما منعه إن كان نبياً أن يدعو على من خالفه وأخرجه من بلده ؟ فقال حاطب: ما منع عيسى وقد أخذه قومه ليقتلوه أن يدعو الله عليهم فيهلكهم ؟ فقال المقوقس: أحسنت أنت حكيم جاء من عند حكيم أخرجه البيهقي .

ب‌- وقال العلاء الحضرمي لأمير البحرين:
“ يا منذر إنك عظيم العقل في الدنيا فلا تصغرن عن الآخرة. إن هذه المجوسية شر دين، ليس فيها تكرم العرب، ولا علم أهل الكتاب، ينكحون ما يستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يتنزه عن أكله، ويعبدون في الدنيا ناراً تأكلهم يوم القيامة... ولست بعديم عقل ولا رأي فانظر:
هل ينبغي لمن لا يكذب في الدنيا ألا تصدقه، ولمن لا يخون ألا تأمنه، ولمن لا يخلف ألاَّ تثق به، هذا هو النبي الأمي الذي لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه أو نقص من عقابه. إذ كل ذلك منه على أمنية أهل العقل، وفكر أهل النظر” ذكره الشيخ الغزالي في كتابه فقه السيرة .

جـ- ولما أرسل سعد بن أبي وقاص إلى كسرى وفداً يدعونه إلى الإسلام كان من قصتهم:
جاء في البداية والنهاية الجزء السابع ما يأتي : أنهم استأذنوا على كسرى فأذن لهم وخرج أهل البلد ينظرون إلى أشكالهم وأرديتهم على عواتقهم، وسياطهم بأيديهم، والنعال في أرجلهم وخيولهم الضعيفة وخبطها الأرض بأرجلها، وجعلوا يتعجبون منها غاية العجب، كيف مثل هؤلاء يقهرون جيوشهم مع كثرة عددها وعددها، ولما استأذنوا على الملك يزدجر أذن لهم وأجلسهم بين يديه، وكان متكبراً قليل الأدب – ثم جعل يسألهم عن ملابسهم هذه ما اسمها وعن الأردية والنعال والسياط .
ثم كلما قالوا شيئاً من ذلك تفاءل فرد الله فأله على رأسه. ثم قال لهم: ما الذي أقدمكم هذه البلاد ؟ أظننتم أنا لما تشاغلنا بأنفسنا اجترأتم علينا ؟
قال له النعمان بن مقرن - رضي الله عنه -:
إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة. فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين فرقة تقاربه وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص، فمكث ذلك ما شاء الله أن يمكث. ثم أمر أن ينهد إلى من خالفه من العرب ويبدأ بهم ففعل فدخلوا معه جميعأً على وجهين مكره عليه فاغتبط، وطائع إياه فازداد، فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق، وأمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف فنحن ندعوكم إلى ديننا وهو دين الإسلام. حسّن القبيح وقبح القبيح كله. فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزاء فإن أبيتم فالمناجزة ( المقاتلة ) وإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم. وإن أتيتمونا بالجزي قبلنا ومنعناكم وإلا قاتلناكم.
قال فتكلم يزدجر فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم ولا تغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عددهم كثر فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم فأسكت القوم.
فقام المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - فقال: أيها الملك، إن هؤلاء رؤوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الأشراف الأشراف، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف، وليس كل ما أرسلوا له جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك. فجاوبني، فأكون أنا الذي أبلغك ويشهدون على ذلك، إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً، فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات ونرى ذلك طعامنا، وأما المنال فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم. ديننا أن يقتل بعضنا بعضاً، وأن يبغي بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه، وكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك. فبعث الله رجلاً معروفاً نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته خير بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو نفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد، إلا ترب كان له هو الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا فلم يقل شيئاً إلا كان فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله. فقال لنا: إن ربكم يقول: أنا الله وحدي لا شريك لي كنت إذ لم يكن شيء، وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شيء وإليَّ يصير كل شيء، وإن رحمتي أدركتكم، فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي أنجيكم بها بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري دار السلام. فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق. وقال من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم، فمن قتل منكم أدخلته جنتي ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه، فاختر إن شئت الجزية وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف أو تسلم فتنجو بنفسك. فقال يزدجر: أتستقبلني بمثل هذا ؟ فقال: ما استقبلت إلا من كلمني. ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به


خامسا : شهادة غير المسلمين بكمال المربي محمد رسول الله :

من ذلك ما ذكره الكاتب عبد الرحمن عزام في كتابه بطـل الأبطال :

قال موير:
” لم يكن الإصلاح أعسر ولا أبعد منالاً منه وقت ظهور محمد ولا نعلم نجاحاً وإصلاحاً تم كالذي تركه عند وفاته”

وقالت دائرة المعارف البريطانية:
” لقد صادف محمد النجاح الذي لم ينل مثله نبي ولا مصلح ديني في زمن من الأزمنة”.

ويقول يوزورث سمث:
” إن محمداً بلا نزاع أعظم المصلحين على الإطلاق” .

ويقول هيل:
” عن جميع الدعوات الدينية قد تركت أثراً في تاريخ البشر، وكل رجال الدعوة والأنبياء قد أثروا تأثيراً عميقاً في حضارة عصرهم وأقوامهم ولكنا لا نعرف في تاريخ البشر أن دينا انتشر بهذه السرعة ، وغيّر العالم بأثره المباشر، كما فعل الإسلام، ولا نعرف في التاريخ دعوة كان صاحبها سيّداً مالكاً لزمانه ولقومه كما كان محمد. لقد خرج أمة إلى الوجود ومكّن لعبادة الله في الأرض وفتحها لرسالة الطهر والفضيلة، ووضع أسس العدالة والمساواة الاجتماعية بين المؤمنين، وأصّل النظام والتناسق والطاعة والعزة في أقوام لا تعرف غير الفوضى”.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق