الأحد، 28 أغسطس 2016

حـفـظ اللســان . . . مفهومه ، وفوائده ، ووسائله ، وشروط وأدأب الكلام ، وحالات إطلاق اللسان إعداد : محمد أبوغدير المحامي

أن اللسان على صغره حجمه نعمة جليلة ونقمة خطيرة ، فإن قل الإنسان كلامه وحفظ لسانه ، كان ذلك عنوانا لأدبه وإزكاء لنفسه ورجحانا لعقله، كما قال بعض الحكماء : " كلام المرء بيان فضله، وترجمان عقله، فاقصره على الجميل، واقتصر منه على القليل ".
أما إذا أطلق لسانه بالقول ساقه إلى شفا جرف هارٍ من النار ، كما في سؤال معاذ : يا نبي اللّه وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ ورد صلى اللّه عليه وسلم حين قال : ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم".
ولذا عُني الإسلام بأمر اللسان أيما عناية ، فحث ربنا جل وعلا في محكم التنزيل وعلى لسان سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه على حفظ اللسان وصيانة المنطق، ومجانبة الفحش والبذاء، وهذا الموضوع يقتضي التعرض للعناصر الآتية :
أولا : مفهوم حفظ اللسان  :
ثانيا : فوائد حفظ اللسان  :
ثالثا : وسائل حفظ اللسان :
رابعا : الالتزام بشروط الكلام وآدابه  :
خامسا : الحالات التي يجوز فيها إطلاق اللسان :

أولا : مفهوم حفظ اللسان  :

إ - معنى اللسان في القرآن الكريم

1. اللسان بمعنى عضو التحدث كقول الله تعالى :  "لا تحرك به لسانك لتعجل به" القيامة 16 ، وقوله سبحانه وتعالى " ولسانا وشفتين" البلد 9.
2. اللسان بمعنى التعبير عن النفس بمفردات اللغة ، كقوله تعالى :  واحلل عقدة من لساني" طه27 ،  قوله سبحانه وتعالى" وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون" القصص 34.
3. اللسان بمعنى الصدوق والكذاب ، كما في قوله تعالى : " ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا" مريم50 ،  قوله سبحانه وتعالى " واجعل لي لسان صدق في الآخرين" الشعراء84
4. اللسان بمعنى اللغة ، كما في قوله تعالى : " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم" ابراهيم4 ، وقوله سبحانه وتعالى " بلسان عربي مبين" الشعراء 195

ب : المقصود بحفظ اللسان :

المقصود بحفظ اللسان، هو ألا يتحدث الإنسان إلا بخير، ويبتعد عن قبيح الكلام ، فالإنسان مسئول عن كل لفظ يخرج من فمه؛ حيث يسجله الله ويحاسبه عليه، يقول الله تعالى: ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) ق: 18.
عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تُكَفِّر اللسان (تذل له وتخضع) تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوَجَجْتَ اعوَجَجْنَا)رواه الترمذي وصححه الألباني .

ج - أقوال السلف في حفظ اللسان :

عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا ويكتب عليه حتى أنينه في مرضه ، فلما مرض الإمام أحمد فقيل له: إن طاووساً كان يكره أنين المرض ، فتركه .
وكان الشعبي إذا طُلب في المنزل وهو يكره خط دائرة وقال للجارية : ضعي الأصبع فيها وقولي ليس هاهنا
قال عبد الله بن محمد بن زياد : كنت عند أحمد بن حنبل فقال له رجل : يا أبا عبد الله قد اغتبتك ، فاجعلني في حل ، قال : أنت في حل إن لم تعد ، فقلت له : أتجعله في حل يا أبا عبد الله وقد اغتابك ؟ قال : ألم ترني اشترطت عليه .

ثانيا : فوائد حفظ اللسان  :

أ - حفظ اللسان طريق النجاة في الدنيا:

قال ابن مفلح المقدسي رحمه الله: "وعن ابن عمرو مرفوعًا : ( من صمت نجا )؛ رواه أحمد والترمذي وقال: غريب  ، وعن أبي سعيد قال: ( إذا أصبح ابن آدم قالت الأعضاء كلها للِّسان: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا ) ؛ رواه الترمذي مرفوعًا .

ب - حفظ اللسان طريق النجاة في الآخرة :

قال ابن مفلح المقدسي رحمه الله: وعن أبي هريرة مرفوعًا: ( إن العبد ليتكلَّم بالكلمة ما يتبين فيها، يزلُّ بها في النار أبعدَ مما بين المشرق والمغرب ) ؛ رواه أحمد والبخاري ومسلم، ومعنى "ما يتبين فيها": لا يتدبرها ويفكر في قبحها، وما يخاف أن يترتب عليها .
ولأحمد والبخاري: ( أن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في نار جهنم ) .

ج : حفظ اللسان طريق الفوز بالجنة  :

روى البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَضْمَنْ لي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ".
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلِمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ اطَّلَعَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَهُوَ يَمُدُّ لِسَانَهُ فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْجَسَدِ، إِلا وَهُوَ يَشْكُو ذَرَبَ اللِّسَانِ" رواه أبو يعلى والبيهقي ، ومعنى ذرب اللسان : حدته وشره وفحشه ، وإذا كان الصديق رضي الله عنه يقول هذا ويفعل هذا بلسانه فما بالنا نحن.
وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : ( والله الذي لا إله إلا هو ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان ).

د - استقامةُ اللسان استقامةٌ للجوارح  :

روى الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا ) ..
ومعنى تُكَفِّر اللسان تذل وتخضع له من قولهم كفَّر اليهودي إذا خضع وطأطأ رأسه وانحنى لتعظيم صاحبه.
قال الغزالي : المعنى فيه أن نطق اللسان يؤثر في أعضاء الإنسان بالتوفيق والخذلان فاللسان أشد الأعضاء جماحاً وطغياناً وأكثرها فساداً وعدواناً ويؤكد هذا المعنى قول مالك بن دينار رضي الله عنه إذا رأيت قساوة في قلبك ووهناً في بدنك وحرماناً في رزقك فاعلم أنك تكلمت فيما لا يعنيك.

ثالثا : وسائل حفظ اللسان  :

أ - اجتناب الخوض في الباطل :

الخوض في الباطل : هو الكلام في المعاصي، كذكر مجالس الخمر، ومقامات الفساق ، وقريب من ذلك الجدال والمراء ، وهو كثرة الملاحاة للشخص لبيان غلطه وإفحامه، والباعث على ذلك الترفع فينبغي للإنسان أن ينكر المنكر من القول، ويبين الصواب فإن قبل منه وإلا ترك المماراة ، هذا إذا كان معلقا بالدين، فإما إن كان في أمور لذ فلا وجه للمجادلة فيه.
وروى البخاريِّ ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة لا يرى بها بأسًا، يهوي بها سبعين خريفًا في النار ).
ويقول ابن القيم رحمه الله : ( وفي اللسان آفتان عظيمَتان ، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى : آفة الكلام ، وآفة السكوت، وقد يكون كلٌّ منهما أعظمَ إثمًا مِن الأخرى في وقتِها، فالساكت عن الحق شيطانٌ أخرسُ عاصٍ الله، مُراءٍ مُداهنٌ ؛ إذا لم يخَف على نفسه، والمتكلِّم بالباطل شيطانٌ ناطقٌ عاصٍ لله، وأكثر الخلق منحرفٌ في كلامه وسكوته ؛ فهُم بين هذين النوعين، وأهل الوسط - وهم أهل الصراط المستقيم - كَفُّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعُه في الآخرة ).

ب - لزوم الصمت  :

روى أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ صَمَتَ نَجَا ).
روى البيهقي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِرَارٍ: "رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا تَكَلَّمَ فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ ).
روى الطبراني عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عليك بُحسن الخلُق، وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده، ما تجمَّل الخلائق بمثلهما ).
روى الطبراني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لن تزال سالمًا ما سكتَّ، فإذا تكلَّمت كُتِبَ لك أو عليك".
روى البخاري عن سهل بن سعد  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من يضمنُ لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة ).
وعن أسلم أن عمر رضي الله عنه دخل يومًا على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يجبذ لسانه، فقال عمر : مَه ، غفر الله لك . فقال له أبو بكر: إن هذا أوْردني شرَّ الموارد.

ج - ترك الكلام فيما لا يعني  :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركُهُ ما لا يعنيه" .
وكان عطاء بن أبي رباح يعظ ، فقال ( إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله أن تقرأه أو تأمر بمعروف، أو تنهى عن منكر، أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها، أتنكرون: أمَا يستحي أحدكم أنه لو نشرت عليه صحيفته التي أملى صدر نهاره، كان أكثر ما فيها، ليس من أمر دينه، ولا دُنياه.
قال الله تعالى ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ ) الانفطار:10، 11، وقال سبحانه أيضا : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ق:17، 18.

د - تجنب الغيبة والنميمة والسخرية :

الغيبة : هي ذكر أخاك الغائب بما يكرهه إذا بلغه، سواء كان نقصًا في بدنه أو في نسبه أو في ثوبه .
النميمة : وهي إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه.
السخرية والاستهزاء.. ومعنى السخرية الاحتقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه.

رابعا : الالتزام بشروط الكلام وآدابه  :

أ - شروط الكلام :

يقول الماوردي في أدب الدنيا والدين : واعلم أنّ للكلام شروطا لا يسلم المتكلّم من الزّلل إلّا بها ، ولا يعرى من النّقص إلّا بعد أن يستوفيها :
1. أن يكون الكلام لداع كاجتلاب نفع أو دفع ضرر :ذلك أنّ مالا داعي له هذيان ، لأن من لم يراع صحّة دواعي كلامه وإصابة معانيه ، كان قوله مرذولا ورأيه معلولا .
2. أن يكون الكلام في موضعه ويصيب به فرصته : لأنّ الكلام في غير حينه لا يقع موقع الانتفاع به ، فإن قدّم ما يقتضي التّأخير كان عجلة وخرقا ، وإن أخّر ما يقتضي التّقديم كان توانيا وعجزا ، لأنّ لكلّ مقام قولا، وفي كلّ زمان عملا .
3. أن يقتصر منه على قدر حاجته : فإنّ الكلام إن لم ينحصر بالحاجة ويقدّر بالكفاية ، لم يكن لحدّه غاية ولا لقدره نهاية ، وما لم يكن من الكلام محصورا كان إمّا حصرا إن قصر، أو هذرا إن كثر .
4. اختيار اللّفظ الّذي يتكلّم به  :لأنّ اللّسان عنوان الإنسان، يترجم عن مجهوله ، ويبرهن عن محصوله ، فيلزمه أن يهذب ألفاظه ، وحريّ به تقويم لسانه .

ب - آداب الكلام  :

1. يقول الماوردي في أدب الدنيا والدين : أنّ للكلام آدابا إن أغفلها المتكلّم أذهب رونق كلامه وطمس بهجة بيانه، ولها النّاس عن محاسن فضله، بمساوئ أدبه ، فعدلوا عن مناقبه ، بذكر مثالبه .
2. أن لا يتجاوز في مدح  ولا يسرف في ذمّ : وإن كانت النّزاهة عن الذّمّ كرما، والتّجاوز في المدح قلقا يصدر عن مهانة؛ والسّرف في الذّمّ انتقام يصدر عن شرّ، وكلاهما شين، وإن سلم من الكذب .
3. أن لا تبعثه الرّغبة والرّهبة في وعد أو وعيد يعجز عنهما ولا يقدر على الوفاء بهما فإنّ من أطلق بهما لسانه، وأرسل فيهما عنانه ، ولم يستثقل من القول ما يستثقله من العمل صار وعده نكثا ووعيده عجزا .
4. أنّه إن قال قولا حقّقه بفعله، وإذا تكلّم بكلام صدّقه بعمله، فإنّ إرسال القول اختيار، والعمل به اضطرار، ولأن يفعل ما لم يقل أجمل من أن يقول ما لم يفعل .
5. أن يراعي مخارج كلامه بحسب مقاصده وأغراضه ، فإن كان ترغيبا قرنه باللّين واللّطف ، وإن كان ترهيبا خلطه بالخشونة والعنف .
6. ألّا يرفع بكلامه صوتا مستكرها، ولا ينزعج له انزعاجا مستهجنا، وليكفّ عن حركة تكون طيشا، وعن حركة تكون عيّا، فإنّ نقص الطّيش أكثر من فضل البلاغة .
7. أن يتجافى هجر القول ومستقبح الكلام ، وليعدل إلى الكناية عمّا يستقبح صريحة ، ويستهجن فصيحة ، ليبلغ الغرض ، فهكذا يصون عنه سمعه فلا يصغي إلى فحش .

خامسا : الحالات التي يجوز فيها إطلاق اللسان :

أ - كثرة ذكر الله تعالى:

روى الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “ أربع من أعطيهن فقد أوتي خيري الدنيا والآخرة: لسانًا ذاكراً، وقلباً شاكر، وبدناً على البلاء صابراً، وزوجة صالحة لا تبغيه حوبا في نفسها وماله”.
وحول الفقرة الأولى من هذا الحديث يقول الدكتور القرضاوي : أن أولى هذه النعم اللسان الذاكر بأن يؤتي الله المؤمن لساناً يذكره في كل الأحيان، وفي كل الأحوال، لا يفتر عن ذكر الله، فحينما ينشغل الناس بدنياهم، وحينما تستغرق الناس مصالحهم، هو يذكر الله عز وجل، فإن الله سبحانه لم يرض من عباده أن يذكروه مجرد ذكر، أو ذكراً قليلاً، وإنما قال : “يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا وسبحوه بكرة وأصيلاً .) 41 الأحزاب
المؤمنون دائمو الذكر لله عز وجل ( يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا ) ، آل عمران 191 .
روى الترمذي عن عبد الله بن بُسر  كما سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا رسول الله ، إن شرائع الإسلام كثرت علي ، فباب نتمسك به جامع . فقال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله .(
ومع هذا ينبغي أن يكون القلب مع اللسان ، وإذا لم يحضر القلب فبالتعود . إن شاء الله تصل إلى حضور القلب .

ب - كلمة الحق  :

إن للكلمة أثرا عظيما في النفس البشرية،فهي في قوتها تفوق السلاح المادي، فالسلاح مهما بلغت قوته يظل قاصرا على إخضاع الأجساد والجوارح في أفعالها وحركاتها، عاجزا عن إخضاع العقول والنفوس في تفكيرها وأحاسيسها .
ولقد أعلا الإسلام من شأن كلمة الحق، وجعلها من أعظم الجهاد وأفضله، فقد روى أحمد عن أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه،أن النبي عليه السلام قال: ( ألا لا يمنعن رجلا مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر )
وقال بعض العلماء : الساكت عن الحق شيطان أخرس ، والناطق بالباطل شيطان ناطق ، فالذي يقول الباطل ويدعو إلى الباطل هذا من الشياطين الناطقين، والذي يسكت عن الحق مع القدرة ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يغير ما يجب تغييره ويسكت وهو يستطيع أن يتكلم هذا يقال له شيطان أخرس من شياطين الإنس يعني؛ لأن الواجب على المؤمن إنكار الباطل والدعوة إلى المعروف وإذا استطاع هذا وجب عليه ، ، فالذي يسكت عن إنكار المنكر وهو قادر ليس له مانع هذا هو الشيطان الأخرس .

ج - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

قال الله جل وعلا : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (آل عمران:104) وقال سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ(التوبة: من الآية71)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم – : (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه) وقال عليه الصلاة والسلام : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) خرجه الإمام مسلم في صحيحه، فهذا يبين لنا وجوب إنكار المنكر على حسب الطاقة باليد ثم اللسان ثم القلب.
عن أم حبيبة مرفوعًا: ((كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر، أو ذكر الله عز وجل)) ورواه ابن ماجه .

الأحد، 14 أغسطس 2016

#التنمية_البشرية_في_السيرة_النبوية 5 . فـن الإيـجـابـيـة إعداد : محمد أبوغدير المحامي

تعريف الإيجابية :
هي اقتناع عقلي ودافع نفسي وجهد بدني ، به لا يكتفي المرء بتنفيذ الواجب بل يبادر في طلبه ، ولا يرضى بمجرد أدائه بل يتقنه ، ويضيف إلى العمل المتقن روحاً وفعالية ، دون جفاء أو تبرم أو استثقال .
وبهذا المعنى للإيجابية كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإيجابي الأول ، ولقد ورثها لأصحابه الكرام رضوان الله عليهم ، فهو معلمهم وزعيمهم وقدوتهم ،
وفيما يلي ثلاثة أمثلة يتبين من خلالها كيف كان صلى الله عليه وسلم يزرع الإيجابية في عقول أصحابه ومشاعرهم لتنطق بها حواسهم .
.
.
أولا : الرسول يريدها إيجابية مطلقة :

روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا ) .

وتتجلى روعة هذا الحديث الذي رغب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم على غرس فسيلة النخيل وهي التي لا  تؤتي ثمارها في الحياة الدنيا إلا بعد سنوات ، ومع اليقين باستحالة أن ينتفع بها أحد والقيامة قائمة ، ومن ثم يتضمن هذا الحديث الدلالات الآتية :

أ - دل هذا الحديث على الإيجابية المطلقة التي لا يتقيد فيها العمل بمدة محددة ولا بزمن محدود ، ولا بثمرة مرتقبة ، فقط الترغيب فى اغتنام آخر فرصة من الحياة الدنيا .

ب - المسلم الإيجابي قلبه معلق بالمثوبة متطلع للأجر ، يثق بأن أجره ممتد إلى ما بعد انقضاء عمره ، وذلك كله لا يكون بالأمنيات ولا يتحقق بالشفاعات ، وإنما ميدانه العمل ، قال الله تعالى : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون )  سورة التوبة: 105   .

ج - المسلم الإيجابي هو من أدرك رسالته وعرف أنه لم يخلق عبثاً ولم يترك هملاً ، بل هو حامل رسالة ومبلغ أمانة ، ومن ثم فلا مكان عنده لنوم ولا كسل ،
وإيجابيته هذه أداء للواجب فضلا عن كونها معذرة إلى الله عز وجل من التقصير ، قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَتْ أمة منهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ معذبهم عذابا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) الأعراف : 164
.
.
ثانيا : الرسول يزرع الإيجابية في حياة أصحابه :

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا ؟ ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : أَنَا .
قَالَ صلى الله عليه وسلم : ( فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً ؟) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : أَنَا .
قَالَ صلى الله عليه وسلم : ( فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا ؟ ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : أَنَا.
قَالَ صلى الله عليه وسلم : ( فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا ؟ ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : أَنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّة )َ .

يحكي هذا الحديث عن برنامج تربوي خاص ، يطرحه الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام ، في وقت مخصوص ، ليحقق اهدافا مخصوصة ، وبيان ذلك في الآتي :

أ - في بداية يوم جديد وبعد صلاة الفجر التي لا يحضرها منافق ، يدعوا الرسول أصحابه ليقتربوا منه وليتفوا حوله ، ليكونوا في ذمة الله وحفظه ، ويوجه عدة أسئلة إليهم يحاسبهم أو يتابعهم في تنفيذ أعمال هي صيام النافلة ، وإتباع الجنازة ، وإطعام الفقير ، وعيادة المريض .

ب - ويريد بذلك صلى الله عليه وسلم أن يشحذ همم أصحابه ويذكي طموحهم ، وبالتالي يدفعهم إلى البذل والعمل ، وانتهاز الفرص واستثمار الواقع ، فإذا كان اهتمامه بنوافل الأعمال ورغائبها هكذا ، فكيف يكون الحال بشأن أركان الدين وفرائضه فلا شك ستكون المحاسبة أشد والمتابعة أقوى ، وبذلك يستهدف وصولهم إلى الإيجابية بمعناها السابق .

ج - قد يشعر المرء من أول وهلة باستحالة تنفيذ الأسئلة التي يطرحها الرسول على أصحابه ، أو على الأقل بصعوبتها ، وخاصة انه لم يكن قد مضي من الوقت بعد صلاة الفجر إلا لحظات ، فمتى وكيف تتبع الجنائز ويطعم المسكين ويعاد المريض ويتحدد الصائم من المفطر ، إلا أن أبو بكر الصديق يقف ويعلن حال إجابته على كل سؤال انه نفذ المطلوب ، ومن ثم يستطيع غيره أن يفعلها ، ويضحى البرنامج الذي وضعه رسول الله مثاليا في رفع همة أصحابه وتحقيق مهارة الإيجابية لديهم .

د - وكانت لهذه النوافل التي اختارها المصطفي ليتابع أداء أصحابه لها قيمة تربوية خاصة ، فهي زاد المصلحين للوصول إلى قمة الإيجابية التي هي الطريق إلى هداية الأفراد وإصلاح المجتمعات وتحكيم الشريعة ،
فالصوم السبيل إلى التقوى ووسيلة لضبط شهوات الشباب فالصوم جنة من الخطأ ووجاء لمن لم يستطع الزواج ، وإتباع الجنازة يذكر بالموت ويزهد في الدنيا ويرفع الهمة إلى العمل الصالح استعدادا للقاء الله ، وإطعام الفقير وعيادة المريض هما مثالين للتكافل الواجب بين المسلمين الذين يسعى بذمتهم أدناهم وهم كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .

ه - وهنا تبرز عبقرية الصديق أبو بكر لكونه جمع أعمال الخير الكثيرة في يوم واحد ، ويستحق بشري الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال عن هذه الأعمال ( ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ) فهنيئا لأبي بكر ، وهنيئا لكل من اتبع سنة النبي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده صلى الله عليه وسلم .
.
.
ثالثا : صورة ﻹيجابية الصحابة ذكورا وإناث  :

عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَوِّبٌ بِهِ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ القِدِّ، يَكْسِرُ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ الجَعْبَةُ مِنَ النَّبْلِ، فَيَقُولُ: « انْشُرْهَا لأبِي طَلْحَةَ ».
فَأَشْرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى القَوْمِ ، فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَة َ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، لاَ تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ القَوْمِ ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ ،
وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ، وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ ، أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تُنْقِزَانِ القِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا ، تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ القَوْمِ ، ثُمَّ تَرْجِعَان ِفَتَمْلَآَنِهَا ، ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ القَوْمِ ، وَلَقَدْ وَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدَيْ أَبِي طَلْحَةَ إِمَّا مَرَّتَيْنِ وَإِمَّا ثَلاَثًا ) .

هذا مشهد لجانب من يَوْمُ أُحُد حينما حاصر المشركون رسول الله صلى الله عليه ، يقطع بالمستوى الرفيع من الإيجابية التي وصل إليها أصحابه رجالا ونساء أثمرت أن يضحوا بأنفسهم في سبيل الله ، وبيان ذلك في الآتي :

أ - أهم ما يميز المسلم الإيجابي أنه ذو همة عالية ، يرمق أعلى الجنة ويرجوها ، يحب رسوله صلى الله عليه وسلم ويتخذه قدوة ويفديه بروحه وولده وأمه وأبيه ، عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) رواه البخاري ومسلم .

ب - وقد ظهر ذلك الحب بصورة عملية حينما حاصر المشركون الرسول ومن معه في أحد ، إذ كان أصحابه رضوان الله عليهم ويفدونه بأرواحهم ويتلذذون بأصناف العذاب لينجو هو صلى الله عليه وسلم ويستشهدوا هم .

ج - فقام أبو طلحة يسور نفسه بين يديه صلى الله عليه وسلم ويرفع صدره ليقيه من سهام العدو ، ويقول : " نحري دون نحرك يا رسول الله " ، وعرضت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -- صخرة من الجبل فنهض أبو طلحة إليها ليعلوها فلم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض عليه، فقال صلى الله عليه وسلم : ( أوجب طلحة ) أي وجبت الجنة.

د - في هذه المعركة ظهرت بطولات النساء وصدق إيمانهن ، إذ أثبت أنهن خرجن لكي يسقين العطشى ويداوين الجرحى ومنهن من قامت برد ضربات المشركين الموجهة للرسول صلى الله عليه وسلم ،
وممن شاركن في غزوة أحد أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر ، وأم عمارة ، وحمنة بنت جحش الأسدية ، وأم سليط، وأم سليم رضي الله عنهن .
وثبت كذلك أن امرأة من بني دينار أصيب زوجها وأخوها وأبوها ، فلما نعوهم لها قالت: " ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ، قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل ـ أي صغيرة ـ " .
.
.
رابعا : الإيجابية فريضة لتحقيق منهج الإسلام :

أ - إن الإسلام منهج حياة واقعية ، لا تكفي فيه المشاعر والنيات ما لم تتحول إلى حركة واقعية ، إنما يتحقق في حياة البشر بجهدهم البشري , وفي حدود طاقتهم البشرية .

ب - ويبدأ العمل بالمنهج بأن تحمله مجموعة من البشر ، تؤمن به إيمانا كاملا ، وتستقيم عليه وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها ، وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك ، وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهدا ولا طاقة ، وهذه هي الإيجابية المنشودة .

الأربعاء، 3 أغسطس 2016

#التنمية_البشرية_في_السيرة_النبوية 4 . هيا نتعلم فن التعامل مع المخطئين إعداد : محمد أبوغدير المحامي

الخطأ : ضد الصواب ، وهو : ما لم يتعمد من الأفعال ، عكس الخِطْء : وهو الذي يتعمد .
المُخْطِئُ : من أراد الصواب فصار إلى غيره ، والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي .

لذلك كان كل بني آدم خطاء ، وقد قع من أصحاب النبي كثيرا من الزلات والأخطاء ، ومن ثم كان الإحسان والرفق واللين مع المخطئين - الذين يقعون في الخطأ ولا يتعمدونه - قيمة إنسانية راقية نحتاج أن نتقن فنها اليوم في مجتمعاتنا ، وذلك لا يتعارض مع مجاهدة الخاطئين وإنكار خطاياهم .

ولقد جسد النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في تعامله مع المخطئين بأساليب مختلفة استطاع في كل مرة أن يكسب المخطئ في صفه ويقنعه بأنه مخطئ دون المساس بكرامته أو تحميله ما لا يطيق .

وفيما يلي ثلاثة أمثلة لحالات مختلفة من خطأ اصحابه ، نبين خلالها كيف كان هديه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المخطئين .

.
اولا : تعامله صلى الله عليه وسلم باللطف والتعليم مع من بال في المسجد :

روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَجُلا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَصْحَابُهُ فِيهِ ، فَقَالُوا : مَهْ مَهْ ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " دَعُوهُ لا تُزْرِمُوهُ فَلَمَّا فَرَغَ دَعَاهُ ، فَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلاةِ ، ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ شَنًّا وَتَرَكُوهُ " .

وفي هذه القصة بال الأعرابي في بيت من بيوت الله تعالى وهي محل الصلاة والذكر والدعاة ، وهي لاشك واقعة خطيرة ، فكيف تعامل رسول الله وصحبه الصحابة الكرامة مع فعل المخطئ :

أ - رأفته ولطفه صلى الله عليه وسلم بالمخطئ :

تعامل صلى الله عليه وسلم بالرفق الأعرابي المخطئ ، وهذه شيمته الدائمة ، روى الإمام مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : " إنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ في شَيْءٍ إلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إلاَّ شَانَهُ " .

ب - أمر صلى الله عليه وسلم بالكفِّ عن أذى المخطئ  :

رغم أن رسول الله صلى الله لم يعب على أصحابه إنكارهم على الأعرابي فعلته ، إلا أنه أمر بأن لا تقطع بولته ، وبذلك دفع صلى الله عليه وسلم أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما وهيَّ النَّجاسة التي وقعت بالفعل ، ﻷن إيقاف البول فيه مفسدة على البائل .

ج - تعليم المخطئ وتوجيهه لتعظيم المساجد  :

لم يكتف صلى الله عليه وسلم بالرفق بالأعرابي وكف الأذى عنه وإنما وجهه إلى وجوب احترام المساجد وتنزيهها عن الأقذار ، بقوله صلى الله عليه وسلم-: "إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا البول ولا القذر .

د - الرسول قدوة للمعلمين والمربين  :

وهكذا ينبغي أن يقتدي كل معلم ومرب ومسئول في كل عصر ومصر، برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يتحلى بالأخلاق الفاضلة، وبالآداب الكريمة مع الناس، حتى ولو وقع منهم سلوك مشين، كما وقع من هذا الأعرابي.

.
ثانيا : تعامله صلى الله عليه وسلم مع حاطب بأسلوب العفو والصفح  :

روى الإمام البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال بشأن مواجه الرسول صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه بأمر كتابه إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ،
فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حاطب ، ما هذا ؟ ،
قال: يا رسول الله لا تعجل عليَّ ، إني كنت امرءاً ملصقا في قريش (كنت حليفا) ، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين، من لهم قربات يحمون أهليهم وأموالهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم ، أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي ، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ،
فقال: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : أما إنه قد صدقكم .
فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ،
فقال صلى الله عليه وسلم : إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدرا فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) .

فالخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير ، إنه حاول أن يكشف أسرار الدولة المسلمة لأعدائها ، فكيف تعامل رسول الله مع فعل المخطئ .

أ - عدم التسرع في إصدار الأحكام  :

فحينما قال عمر ـ رضي الله عنه ـ للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إن حاطباً خان الله ورسوله ) ، أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحاطب وسأله، ليتثبت منه ويستمع له، ويعرف عذره، في مصارحة ووضوح، ويعطيه الفرصة للدفاع عن نفسه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا حاطب ، ما هذا؟

ب - الاستماع إلى رأي المخالف، ومحاولة إقناعه :

وذلك في مراجعة عمر ـ رضي الله عنه ـ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: ( إنه خان الله ورسوله والمؤمنين )، واستماع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له، ورده عليه بقوله عن حاطب : ( صدق ، لا تقولوا له إلا خيرا )،ومرة أخرى: ( لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم )، ولم يعنف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمر لأنه خالفه ، مع أنه رسول مؤيد بالوحي .

ج - إقالة ذوي العثرات  :

فالخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير ، فلم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى حاطب من زاوية خطأه السالف بيانه فحسب ـ وإن كان جريمة كبرى ـ وإنما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله وإعزازه لدينه ، فوجد أنه قد شهد بدراً ،
فعامل صلى الله عليه وسلم المخطئ معاملة رحيمة تدل على إقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة، فجعل من ماضي حاطب سببًا في الصفح عنه ، ليس إقرارا لخطئه ولا تهوينا من زلته ، ولكنها مع الإنكار عليه ونصحه  ، يتضمن إنقاذا له  بأخذ يده ليستمر في سيره إلى الله  .

ء - أدب الصحابة مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم :

طلب عمر رضي الله عنه على الرسول صلى الله عليه وسلم قتل حاطب ، ولهذا الطلب ما يبرر ، إلا أنه صلى الله عليه وسلم رفضه معللا رفضه  بأن المخطئ من أهل بدر ، وفي هذا الرد ما فيه من معان يعرفها عمر ، فسكت عمر دون أن أن يجادل في رأيه ويصر عليه  .

ه - النظرة المتكاملة ﻷصحاب الأخطاء :

وهكذا كان موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلوبا تربويا بليغا - يتضمن توجيها للمسلمين أن ينظروا إلى أصحاب الأخطاء نظرة متكاملة ، وأن يأخذوا بالاعتبار ما قدموه من خيرات وأعمال صالحة في حياتهم ، في مجال الدعوة والجهاد والعلم والتربية .

.
ثالثا : تعامله صلى الله عليه وسلم مع خطأ أبي ذر بأسلوبى العتاب والتأنيب :

روى البخاري عن أبي ذر قال : "سببت رجلاً فعيّـرته بأمه قال له : يا ابن السوداء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا ذر، أعيرته بأمه ، إنك امرؤ فيك جاهلية  .
فبكى أبو ذر .. وأتى الرسول عليه السلام وجلس ، وقال يا رسول الله استغفر لي ، سل الله لي المغفرة ، ثم خرج باكيا من المسجد ،
وأقبل بلال ماشيا ، فطرح أبو ذر رأسه في طريق بلال ووضع خده على التراب ، وقال : والله يا بلال لا ارفع خدي عن التراب حتى تطأه برجلك  ،
فأخذ بلال يبكي .. وأقترب وقبل ذلك الخد ثم قاما وتعانقا وتباكيا.
وكذلك كان الخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير ، فكيف تعامل مع رسول الله مع فعل المخطئ .

أ – أسلوب العتاب والتوبيخ هو المناسب لهذا الخطأ :

الخطأ الذي ارتكبه أبو ذر لا شك جسيم إذ تمثل في تعييَّر الرجل بسواد أمه ، مخالف بذلك قيم المساواة بين الناس دون النظر إلى الجنس أو العرق أو اللون أو الثروة ، ومن ثم كان عقاب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر بالتوبيخ والتأنيب هو الأسلوب الامثل على الفعل كعقاب توجيهي ، دون إسفافٍ ولا إسراف .

ب - الرسول القائد صلى الله عليه وسلم يرتقي بأصحابه :

قرب النبي صلى الله عليه وسلم كل أصحابه إليه ، ورفع قدرهم جميعا بحسن تربيته لهم على عزة المؤمن وكرامته التي لا تهان ولا تنتهك ، فلم يرتض بلال بأن يعيره أبا ذر بسواد أمه ، فاستعمل حق الشكوى ووجد في قائده وزعيمه صلى الله عليه وسلم ملاذاً قريباً يشكو إليه ،  ووجد - كذلك - إهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بشكايته ، واقنعه بالعقوبة التوجيهية التي نالت المشكو في حقه .

ج - الرسول صلى الله عليه وسلم ينتصر لحقوق الإنسان وكرامته :

حيث أن الإسلام أقر حق المساواة ونبذ العنصرية والطبقية ، وألغى الفوارق بين الناس بسبب الجنس أو العرق أو اللون أو الثروة ، فقال صلى الله عليه وسلم في بيان هذه الحقوق : يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى" رواه أحمد .

.
وهكذا كان الحكمة البالغة التي تعامل بها الرسول صلى الله عليه وسلم مع المخطئين ، واثرها البالغ في تربية النفوس وإصلاحها بموجب مناهج تربوية راقية ، وحري بنا أن نتأسى به -صلى الله عليه وسلم- ونقتفي أثره مصداقا لقوله سبحانه وتعالى﴿لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾  سورة الأحزاب الآية 21 .