أن اللسان على صغره حجمه نعمة جليلة ونقمة خطيرة ، فإن قل الإنسان كلامه وحفظ لسانه ، كان ذلك عنوانا لأدبه وإزكاء لنفسه ورجحانا لعقله، كما قال بعض الحكماء : " كلام المرء بيان فضله، وترجمان عقله، فاقصره على الجميل، واقتصر منه على القليل ".
أما إذا أطلق لسانه بالقول ساقه إلى شفا جرف هارٍ من النار ، كما في سؤال معاذ : يا نبي اللّه وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ ورد صلى اللّه عليه وسلم حين قال : ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم".
ولذا عُني الإسلام بأمر اللسان أيما عناية ، فحث ربنا جل وعلا في محكم التنزيل وعلى لسان سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه على حفظ اللسان وصيانة المنطق، ومجانبة الفحش والبذاء، وهذا الموضوع يقتضي التعرض للعناصر الآتية :
أولا : مفهوم حفظ اللسان :
ثانيا : فوائد حفظ اللسان :
ثالثا : وسائل حفظ اللسان :
رابعا : الالتزام بشروط الكلام وآدابه :
خامسا : الحالات التي يجوز فيها إطلاق اللسان :
أولا : مفهوم حفظ اللسان :
إ - معنى اللسان في القرآن الكريم
1. اللسان بمعنى عضو التحدث كقول الله تعالى : "لا تحرك به لسانك لتعجل به" القيامة 16 ، وقوله سبحانه وتعالى " ولسانا وشفتين" البلد 9.
2. اللسان بمعنى التعبير عن النفس بمفردات اللغة ، كقوله تعالى : واحلل عقدة من لساني" طه27 ، قوله سبحانه وتعالى" وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون" القصص 34.
3. اللسان بمعنى الصدوق والكذاب ، كما في قوله تعالى : " ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا" مريم50 ، قوله سبحانه وتعالى " واجعل لي لسان صدق في الآخرين" الشعراء84
4. اللسان بمعنى اللغة ، كما في قوله تعالى : " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم" ابراهيم4 ، وقوله سبحانه وتعالى " بلسان عربي مبين" الشعراء 195
ب : المقصود بحفظ اللسان :
المقصود بحفظ اللسان، هو ألا يتحدث الإنسان إلا بخير، ويبتعد عن قبيح الكلام ، فالإنسان مسئول عن كل لفظ يخرج من فمه؛ حيث يسجله الله ويحاسبه عليه، يقول الله تعالى: ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) ق: 18.
عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تُكَفِّر اللسان (تذل له وتخضع) تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوَجَجْتَ اعوَجَجْنَا)رواه الترمذي وصححه الألباني .
ج - أقوال السلف في حفظ اللسان :
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا ويكتب عليه حتى أنينه في مرضه ، فلما مرض الإمام أحمد فقيل له: إن طاووساً كان يكره أنين المرض ، فتركه .
وكان الشعبي إذا طُلب في المنزل وهو يكره خط دائرة وقال للجارية : ضعي الأصبع فيها وقولي ليس هاهنا
قال عبد الله بن محمد بن زياد : كنت عند أحمد بن حنبل فقال له رجل : يا أبا عبد الله قد اغتبتك ، فاجعلني في حل ، قال : أنت في حل إن لم تعد ، فقلت له : أتجعله في حل يا أبا عبد الله وقد اغتابك ؟ قال : ألم ترني اشترطت عليه .
ثانيا : فوائد حفظ اللسان :
أ - حفظ اللسان طريق النجاة في الدنيا:
قال ابن مفلح المقدسي رحمه الله: "وعن ابن عمرو مرفوعًا : ( من صمت نجا )؛ رواه أحمد والترمذي وقال: غريب ، وعن أبي سعيد قال: ( إذا أصبح ابن آدم قالت الأعضاء كلها للِّسان: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا ) ؛ رواه الترمذي مرفوعًا .
ب - حفظ اللسان طريق النجاة في الآخرة :
قال ابن مفلح المقدسي رحمه الله: وعن أبي هريرة مرفوعًا: ( إن العبد ليتكلَّم بالكلمة ما يتبين فيها، يزلُّ بها في النار أبعدَ مما بين المشرق والمغرب ) ؛ رواه أحمد والبخاري ومسلم، ومعنى "ما يتبين فيها": لا يتدبرها ويفكر في قبحها، وما يخاف أن يترتب عليها .
ولأحمد والبخاري: ( أن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في نار جهنم ) .
ج : حفظ اللسان طريق الفوز بالجنة :
روى البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَضْمَنْ لي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ".
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلِمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ اطَّلَعَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَهُوَ يَمُدُّ لِسَانَهُ فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْجَسَدِ، إِلا وَهُوَ يَشْكُو ذَرَبَ اللِّسَانِ" رواه أبو يعلى والبيهقي ، ومعنى ذرب اللسان : حدته وشره وفحشه ، وإذا كان الصديق رضي الله عنه يقول هذا ويفعل هذا بلسانه فما بالنا نحن.
وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : ( والله الذي لا إله إلا هو ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان ).
د - استقامةُ اللسان استقامةٌ للجوارح :
روى الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا ) ..
ومعنى تُكَفِّر اللسان تذل وتخضع له من قولهم كفَّر اليهودي إذا خضع وطأطأ رأسه وانحنى لتعظيم صاحبه.
قال الغزالي : المعنى فيه أن نطق اللسان يؤثر في أعضاء الإنسان بالتوفيق والخذلان فاللسان أشد الأعضاء جماحاً وطغياناً وأكثرها فساداً وعدواناً ويؤكد هذا المعنى قول مالك بن دينار رضي الله عنه إذا رأيت قساوة في قلبك ووهناً في بدنك وحرماناً في رزقك فاعلم أنك تكلمت فيما لا يعنيك.
ثالثا : وسائل حفظ اللسان :
أ - اجتناب الخوض في الباطل :
الخوض في الباطل : هو الكلام في المعاصي، كذكر مجالس الخمر، ومقامات الفساق ، وقريب من ذلك الجدال والمراء ، وهو كثرة الملاحاة للشخص لبيان غلطه وإفحامه، والباعث على ذلك الترفع فينبغي للإنسان أن ينكر المنكر من القول، ويبين الصواب فإن قبل منه وإلا ترك المماراة ، هذا إذا كان معلقا بالدين، فإما إن كان في أمور لذ فلا وجه للمجادلة فيه.
وروى البخاريِّ ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة لا يرى بها بأسًا، يهوي بها سبعين خريفًا في النار ).
ويقول ابن القيم رحمه الله : ( وفي اللسان آفتان عظيمَتان ، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى : آفة الكلام ، وآفة السكوت، وقد يكون كلٌّ منهما أعظمَ إثمًا مِن الأخرى في وقتِها، فالساكت عن الحق شيطانٌ أخرسُ عاصٍ الله، مُراءٍ مُداهنٌ ؛ إذا لم يخَف على نفسه، والمتكلِّم بالباطل شيطانٌ ناطقٌ عاصٍ لله، وأكثر الخلق منحرفٌ في كلامه وسكوته ؛ فهُم بين هذين النوعين، وأهل الوسط - وهم أهل الصراط المستقيم - كَفُّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعُه في الآخرة ).
ب - لزوم الصمت :
روى أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ صَمَتَ نَجَا ).
روى البيهقي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِرَارٍ: "رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا تَكَلَّمَ فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ ).
روى الطبراني عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عليك بُحسن الخلُق، وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده، ما تجمَّل الخلائق بمثلهما ).
روى الطبراني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لن تزال سالمًا ما سكتَّ، فإذا تكلَّمت كُتِبَ لك أو عليك".
روى البخاري عن سهل بن سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من يضمنُ لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة ).
وعن أسلم أن عمر رضي الله عنه دخل يومًا على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يجبذ لسانه، فقال عمر : مَه ، غفر الله لك . فقال له أبو بكر: إن هذا أوْردني شرَّ الموارد.
ج - ترك الكلام فيما لا يعني :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركُهُ ما لا يعنيه" .
وكان عطاء بن أبي رباح يعظ ، فقال ( إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله أن تقرأه أو تأمر بمعروف، أو تنهى عن منكر، أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها، أتنكرون: أمَا يستحي أحدكم أنه لو نشرت عليه صحيفته التي أملى صدر نهاره، كان أكثر ما فيها، ليس من أمر دينه، ولا دُنياه.
قال الله تعالى ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ ) الانفطار:10، 11، وقال سبحانه أيضا : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ق:17، 18.
د - تجنب الغيبة والنميمة والسخرية :
الغيبة : هي ذكر أخاك الغائب بما يكرهه إذا بلغه، سواء كان نقصًا في بدنه أو في نسبه أو في ثوبه .
النميمة : وهي إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه.
السخرية والاستهزاء.. ومعنى السخرية الاحتقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه.
رابعا : الالتزام بشروط الكلام وآدابه :
أ - شروط الكلام :
يقول الماوردي في أدب الدنيا والدين : واعلم أنّ للكلام شروطا لا يسلم المتكلّم من الزّلل إلّا بها ، ولا يعرى من النّقص إلّا بعد أن يستوفيها :
1. أن يكون الكلام لداع كاجتلاب نفع أو دفع ضرر :ذلك أنّ مالا داعي له هذيان ، لأن من لم يراع صحّة دواعي كلامه وإصابة معانيه ، كان قوله مرذولا ورأيه معلولا .
2. أن يكون الكلام في موضعه ويصيب به فرصته : لأنّ الكلام في غير حينه لا يقع موقع الانتفاع به ، فإن قدّم ما يقتضي التّأخير كان عجلة وخرقا ، وإن أخّر ما يقتضي التّقديم كان توانيا وعجزا ، لأنّ لكلّ مقام قولا، وفي كلّ زمان عملا .
3. أن يقتصر منه على قدر حاجته : فإنّ الكلام إن لم ينحصر بالحاجة ويقدّر بالكفاية ، لم يكن لحدّه غاية ولا لقدره نهاية ، وما لم يكن من الكلام محصورا كان إمّا حصرا إن قصر، أو هذرا إن كثر .
4. اختيار اللّفظ الّذي يتكلّم به :لأنّ اللّسان عنوان الإنسان، يترجم عن مجهوله ، ويبرهن عن محصوله ، فيلزمه أن يهذب ألفاظه ، وحريّ به تقويم لسانه .
ب - آداب الكلام :
1. يقول الماوردي في أدب الدنيا والدين : أنّ للكلام آدابا إن أغفلها المتكلّم أذهب رونق كلامه وطمس بهجة بيانه، ولها النّاس عن محاسن فضله، بمساوئ أدبه ، فعدلوا عن مناقبه ، بذكر مثالبه .
2. أن لا يتجاوز في مدح ولا يسرف في ذمّ : وإن كانت النّزاهة عن الذّمّ كرما، والتّجاوز في المدح قلقا يصدر عن مهانة؛ والسّرف في الذّمّ انتقام يصدر عن شرّ، وكلاهما شين، وإن سلم من الكذب .
3. أن لا تبعثه الرّغبة والرّهبة في وعد أو وعيد يعجز عنهما ولا يقدر على الوفاء بهما فإنّ من أطلق بهما لسانه، وأرسل فيهما عنانه ، ولم يستثقل من القول ما يستثقله من العمل صار وعده نكثا ووعيده عجزا .
4. أنّه إن قال قولا حقّقه بفعله، وإذا تكلّم بكلام صدّقه بعمله، فإنّ إرسال القول اختيار، والعمل به اضطرار، ولأن يفعل ما لم يقل أجمل من أن يقول ما لم يفعل .
5. أن يراعي مخارج كلامه بحسب مقاصده وأغراضه ، فإن كان ترغيبا قرنه باللّين واللّطف ، وإن كان ترهيبا خلطه بالخشونة والعنف .
6. ألّا يرفع بكلامه صوتا مستكرها، ولا ينزعج له انزعاجا مستهجنا، وليكفّ عن حركة تكون طيشا، وعن حركة تكون عيّا، فإنّ نقص الطّيش أكثر من فضل البلاغة .
7. أن يتجافى هجر القول ومستقبح الكلام ، وليعدل إلى الكناية عمّا يستقبح صريحة ، ويستهجن فصيحة ، ليبلغ الغرض ، فهكذا يصون عنه سمعه فلا يصغي إلى فحش .
خامسا : الحالات التي يجوز فيها إطلاق اللسان :
أ - كثرة ذكر الله تعالى:
روى الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “ أربع من أعطيهن فقد أوتي خيري الدنيا والآخرة: لسانًا ذاكراً، وقلباً شاكر، وبدناً على البلاء صابراً، وزوجة صالحة لا تبغيه حوبا في نفسها وماله”.
وحول الفقرة الأولى من هذا الحديث يقول الدكتور القرضاوي : أن أولى هذه النعم اللسان الذاكر بأن يؤتي الله المؤمن لساناً يذكره في كل الأحيان، وفي كل الأحوال، لا يفتر عن ذكر الله، فحينما ينشغل الناس بدنياهم، وحينما تستغرق الناس مصالحهم، هو يذكر الله عز وجل، فإن الله سبحانه لم يرض من عباده أن يذكروه مجرد ذكر، أو ذكراً قليلاً، وإنما قال : “يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا وسبحوه بكرة وأصيلاً .) 41 الأحزاب
المؤمنون دائمو الذكر لله عز وجل ( يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا ) ، آل عمران 191 .
روى الترمذي عن عبد الله بن بُسر كما سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا رسول الله ، إن شرائع الإسلام كثرت علي ، فباب نتمسك به جامع . فقال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله .(
ومع هذا ينبغي أن يكون القلب مع اللسان ، وإذا لم يحضر القلب فبالتعود . إن شاء الله تصل إلى حضور القلب .
ب - كلمة الحق :
إن للكلمة أثرا عظيما في النفس البشرية،فهي في قوتها تفوق السلاح المادي، فالسلاح مهما بلغت قوته يظل قاصرا على إخضاع الأجساد والجوارح في أفعالها وحركاتها، عاجزا عن إخضاع العقول والنفوس في تفكيرها وأحاسيسها .
ولقد أعلا الإسلام من شأن كلمة الحق، وجعلها من أعظم الجهاد وأفضله، فقد روى أحمد عن أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه،أن النبي عليه السلام قال: ( ألا لا يمنعن رجلا مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر )
وقال بعض العلماء : الساكت عن الحق شيطان أخرس ، والناطق بالباطل شيطان ناطق ، فالذي يقول الباطل ويدعو إلى الباطل هذا من الشياطين الناطقين، والذي يسكت عن الحق مع القدرة ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يغير ما يجب تغييره ويسكت وهو يستطيع أن يتكلم هذا يقال له شيطان أخرس من شياطين الإنس يعني؛ لأن الواجب على المؤمن إنكار الباطل والدعوة إلى المعروف وإذا استطاع هذا وجب عليه ، ، فالذي يسكت عن إنكار المنكر وهو قادر ليس له مانع هذا هو الشيطان الأخرس .
ج - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال الله جل وعلا : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (آل عمران:104) وقال سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ(التوبة: من الآية71)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم – : (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه) وقال عليه الصلاة والسلام : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) خرجه الإمام مسلم في صحيحه، فهذا يبين لنا وجوب إنكار المنكر على حسب الطاقة باليد ثم اللسان ثم القلب.
عن أم حبيبة مرفوعًا: ((كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر، أو ذكر الله عز وجل)) ورواه ابن ماجه .
أما إذا أطلق لسانه بالقول ساقه إلى شفا جرف هارٍ من النار ، كما في سؤال معاذ : يا نبي اللّه وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ ورد صلى اللّه عليه وسلم حين قال : ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم".
ولذا عُني الإسلام بأمر اللسان أيما عناية ، فحث ربنا جل وعلا في محكم التنزيل وعلى لسان سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه على حفظ اللسان وصيانة المنطق، ومجانبة الفحش والبذاء، وهذا الموضوع يقتضي التعرض للعناصر الآتية :
أولا : مفهوم حفظ اللسان :
ثانيا : فوائد حفظ اللسان :
ثالثا : وسائل حفظ اللسان :
رابعا : الالتزام بشروط الكلام وآدابه :
خامسا : الحالات التي يجوز فيها إطلاق اللسان :
إ - معنى اللسان في القرآن الكريم
1. اللسان بمعنى عضو التحدث كقول الله تعالى : "لا تحرك به لسانك لتعجل به" القيامة 16 ، وقوله سبحانه وتعالى " ولسانا وشفتين" البلد 9.
2. اللسان بمعنى التعبير عن النفس بمفردات اللغة ، كقوله تعالى : واحلل عقدة من لساني" طه27 ، قوله سبحانه وتعالى" وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون" القصص 34.
3. اللسان بمعنى الصدوق والكذاب ، كما في قوله تعالى : " ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا" مريم50 ، قوله سبحانه وتعالى " واجعل لي لسان صدق في الآخرين" الشعراء84
4. اللسان بمعنى اللغة ، كما في قوله تعالى : " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم" ابراهيم4 ، وقوله سبحانه وتعالى " بلسان عربي مبين" الشعراء 195
ب : المقصود بحفظ اللسان :
المقصود بحفظ اللسان، هو ألا يتحدث الإنسان إلا بخير، ويبتعد عن قبيح الكلام ، فالإنسان مسئول عن كل لفظ يخرج من فمه؛ حيث يسجله الله ويحاسبه عليه، يقول الله تعالى: ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) ق: 18.
عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تُكَفِّر اللسان (تذل له وتخضع) تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوَجَجْتَ اعوَجَجْنَا)رواه الترمذي وصححه الألباني .
ج - أقوال السلف في حفظ اللسان :
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا ويكتب عليه حتى أنينه في مرضه ، فلما مرض الإمام أحمد فقيل له: إن طاووساً كان يكره أنين المرض ، فتركه .
وكان الشعبي إذا طُلب في المنزل وهو يكره خط دائرة وقال للجارية : ضعي الأصبع فيها وقولي ليس هاهنا
قال عبد الله بن محمد بن زياد : كنت عند أحمد بن حنبل فقال له رجل : يا أبا عبد الله قد اغتبتك ، فاجعلني في حل ، قال : أنت في حل إن لم تعد ، فقلت له : أتجعله في حل يا أبا عبد الله وقد اغتابك ؟ قال : ألم ترني اشترطت عليه .
ثانيا : فوائد حفظ اللسان :
أ - حفظ اللسان طريق النجاة في الدنيا:
قال ابن مفلح المقدسي رحمه الله: "وعن ابن عمرو مرفوعًا : ( من صمت نجا )؛ رواه أحمد والترمذي وقال: غريب ، وعن أبي سعيد قال: ( إذا أصبح ابن آدم قالت الأعضاء كلها للِّسان: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا ) ؛ رواه الترمذي مرفوعًا .
ب - حفظ اللسان طريق النجاة في الآخرة :
قال ابن مفلح المقدسي رحمه الله: وعن أبي هريرة مرفوعًا: ( إن العبد ليتكلَّم بالكلمة ما يتبين فيها، يزلُّ بها في النار أبعدَ مما بين المشرق والمغرب ) ؛ رواه أحمد والبخاري ومسلم، ومعنى "ما يتبين فيها": لا يتدبرها ويفكر في قبحها، وما يخاف أن يترتب عليها .
ولأحمد والبخاري: ( أن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في نار جهنم ) .
ج : حفظ اللسان طريق الفوز بالجنة :
روى البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَضْمَنْ لي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ".
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلِمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ اطَّلَعَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَهُوَ يَمُدُّ لِسَانَهُ فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْجَسَدِ، إِلا وَهُوَ يَشْكُو ذَرَبَ اللِّسَانِ" رواه أبو يعلى والبيهقي ، ومعنى ذرب اللسان : حدته وشره وفحشه ، وإذا كان الصديق رضي الله عنه يقول هذا ويفعل هذا بلسانه فما بالنا نحن.
وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : ( والله الذي لا إله إلا هو ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان ).
د - استقامةُ اللسان استقامةٌ للجوارح :
روى الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا ) ..
ومعنى تُكَفِّر اللسان تذل وتخضع له من قولهم كفَّر اليهودي إذا خضع وطأطأ رأسه وانحنى لتعظيم صاحبه.
قال الغزالي : المعنى فيه أن نطق اللسان يؤثر في أعضاء الإنسان بالتوفيق والخذلان فاللسان أشد الأعضاء جماحاً وطغياناً وأكثرها فساداً وعدواناً ويؤكد هذا المعنى قول مالك بن دينار رضي الله عنه إذا رأيت قساوة في قلبك ووهناً في بدنك وحرماناً في رزقك فاعلم أنك تكلمت فيما لا يعنيك.
ثالثا : وسائل حفظ اللسان :
أ - اجتناب الخوض في الباطل :
الخوض في الباطل : هو الكلام في المعاصي، كذكر مجالس الخمر، ومقامات الفساق ، وقريب من ذلك الجدال والمراء ، وهو كثرة الملاحاة للشخص لبيان غلطه وإفحامه، والباعث على ذلك الترفع فينبغي للإنسان أن ينكر المنكر من القول، ويبين الصواب فإن قبل منه وإلا ترك المماراة ، هذا إذا كان معلقا بالدين، فإما إن كان في أمور لذ فلا وجه للمجادلة فيه.
وروى البخاريِّ ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة لا يرى بها بأسًا، يهوي بها سبعين خريفًا في النار ).
ويقول ابن القيم رحمه الله : ( وفي اللسان آفتان عظيمَتان ، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى : آفة الكلام ، وآفة السكوت، وقد يكون كلٌّ منهما أعظمَ إثمًا مِن الأخرى في وقتِها، فالساكت عن الحق شيطانٌ أخرسُ عاصٍ الله، مُراءٍ مُداهنٌ ؛ إذا لم يخَف على نفسه، والمتكلِّم بالباطل شيطانٌ ناطقٌ عاصٍ لله، وأكثر الخلق منحرفٌ في كلامه وسكوته ؛ فهُم بين هذين النوعين، وأهل الوسط - وهم أهل الصراط المستقيم - كَفُّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعُه في الآخرة ).
ب - لزوم الصمت :
روى أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ صَمَتَ نَجَا ).
روى البيهقي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِرَارٍ: "رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا تَكَلَّمَ فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ ).
روى الطبراني عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عليك بُحسن الخلُق، وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده، ما تجمَّل الخلائق بمثلهما ).
روى الطبراني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لن تزال سالمًا ما سكتَّ، فإذا تكلَّمت كُتِبَ لك أو عليك".
روى البخاري عن سهل بن سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من يضمنُ لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة ).
وعن أسلم أن عمر رضي الله عنه دخل يومًا على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يجبذ لسانه، فقال عمر : مَه ، غفر الله لك . فقال له أبو بكر: إن هذا أوْردني شرَّ الموارد.
ج - ترك الكلام فيما لا يعني :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركُهُ ما لا يعنيه" .
وكان عطاء بن أبي رباح يعظ ، فقال ( إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله أن تقرأه أو تأمر بمعروف، أو تنهى عن منكر، أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها، أتنكرون: أمَا يستحي أحدكم أنه لو نشرت عليه صحيفته التي أملى صدر نهاره، كان أكثر ما فيها، ليس من أمر دينه، ولا دُنياه.
قال الله تعالى ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ ) الانفطار:10، 11، وقال سبحانه أيضا : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ق:17، 18.
د - تجنب الغيبة والنميمة والسخرية :
الغيبة : هي ذكر أخاك الغائب بما يكرهه إذا بلغه، سواء كان نقصًا في بدنه أو في نسبه أو في ثوبه .
النميمة : وهي إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه.
السخرية والاستهزاء.. ومعنى السخرية الاحتقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه.
رابعا : الالتزام بشروط الكلام وآدابه :
أ - شروط الكلام :
يقول الماوردي في أدب الدنيا والدين : واعلم أنّ للكلام شروطا لا يسلم المتكلّم من الزّلل إلّا بها ، ولا يعرى من النّقص إلّا بعد أن يستوفيها :
1. أن يكون الكلام لداع كاجتلاب نفع أو دفع ضرر :ذلك أنّ مالا داعي له هذيان ، لأن من لم يراع صحّة دواعي كلامه وإصابة معانيه ، كان قوله مرذولا ورأيه معلولا .
2. أن يكون الكلام في موضعه ويصيب به فرصته : لأنّ الكلام في غير حينه لا يقع موقع الانتفاع به ، فإن قدّم ما يقتضي التّأخير كان عجلة وخرقا ، وإن أخّر ما يقتضي التّقديم كان توانيا وعجزا ، لأنّ لكلّ مقام قولا، وفي كلّ زمان عملا .
3. أن يقتصر منه على قدر حاجته : فإنّ الكلام إن لم ينحصر بالحاجة ويقدّر بالكفاية ، لم يكن لحدّه غاية ولا لقدره نهاية ، وما لم يكن من الكلام محصورا كان إمّا حصرا إن قصر، أو هذرا إن كثر .
4. اختيار اللّفظ الّذي يتكلّم به :لأنّ اللّسان عنوان الإنسان، يترجم عن مجهوله ، ويبرهن عن محصوله ، فيلزمه أن يهذب ألفاظه ، وحريّ به تقويم لسانه .
ب - آداب الكلام :
1. يقول الماوردي في أدب الدنيا والدين : أنّ للكلام آدابا إن أغفلها المتكلّم أذهب رونق كلامه وطمس بهجة بيانه، ولها النّاس عن محاسن فضله، بمساوئ أدبه ، فعدلوا عن مناقبه ، بذكر مثالبه .
2. أن لا يتجاوز في مدح ولا يسرف في ذمّ : وإن كانت النّزاهة عن الذّمّ كرما، والتّجاوز في المدح قلقا يصدر عن مهانة؛ والسّرف في الذّمّ انتقام يصدر عن شرّ، وكلاهما شين، وإن سلم من الكذب .
3. أن لا تبعثه الرّغبة والرّهبة في وعد أو وعيد يعجز عنهما ولا يقدر على الوفاء بهما فإنّ من أطلق بهما لسانه، وأرسل فيهما عنانه ، ولم يستثقل من القول ما يستثقله من العمل صار وعده نكثا ووعيده عجزا .
4. أنّه إن قال قولا حقّقه بفعله، وإذا تكلّم بكلام صدّقه بعمله، فإنّ إرسال القول اختيار، والعمل به اضطرار، ولأن يفعل ما لم يقل أجمل من أن يقول ما لم يفعل .
5. أن يراعي مخارج كلامه بحسب مقاصده وأغراضه ، فإن كان ترغيبا قرنه باللّين واللّطف ، وإن كان ترهيبا خلطه بالخشونة والعنف .
6. ألّا يرفع بكلامه صوتا مستكرها، ولا ينزعج له انزعاجا مستهجنا، وليكفّ عن حركة تكون طيشا، وعن حركة تكون عيّا، فإنّ نقص الطّيش أكثر من فضل البلاغة .
7. أن يتجافى هجر القول ومستقبح الكلام ، وليعدل إلى الكناية عمّا يستقبح صريحة ، ويستهجن فصيحة ، ليبلغ الغرض ، فهكذا يصون عنه سمعه فلا يصغي إلى فحش .
خامسا : الحالات التي يجوز فيها إطلاق اللسان :
أ - كثرة ذكر الله تعالى:
روى الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “ أربع من أعطيهن فقد أوتي خيري الدنيا والآخرة: لسانًا ذاكراً، وقلباً شاكر، وبدناً على البلاء صابراً، وزوجة صالحة لا تبغيه حوبا في نفسها وماله”.
وحول الفقرة الأولى من هذا الحديث يقول الدكتور القرضاوي : أن أولى هذه النعم اللسان الذاكر بأن يؤتي الله المؤمن لساناً يذكره في كل الأحيان، وفي كل الأحوال، لا يفتر عن ذكر الله، فحينما ينشغل الناس بدنياهم، وحينما تستغرق الناس مصالحهم، هو يذكر الله عز وجل، فإن الله سبحانه لم يرض من عباده أن يذكروه مجرد ذكر، أو ذكراً قليلاً، وإنما قال : “يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا وسبحوه بكرة وأصيلاً .) 41 الأحزاب
المؤمنون دائمو الذكر لله عز وجل ( يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا ) ، آل عمران 191 .
روى الترمذي عن عبد الله بن بُسر كما سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا رسول الله ، إن شرائع الإسلام كثرت علي ، فباب نتمسك به جامع . فقال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله .(
ومع هذا ينبغي أن يكون القلب مع اللسان ، وإذا لم يحضر القلب فبالتعود . إن شاء الله تصل إلى حضور القلب .
ب - كلمة الحق :
إن للكلمة أثرا عظيما في النفس البشرية،فهي في قوتها تفوق السلاح المادي، فالسلاح مهما بلغت قوته يظل قاصرا على إخضاع الأجساد والجوارح في أفعالها وحركاتها، عاجزا عن إخضاع العقول والنفوس في تفكيرها وأحاسيسها .
ولقد أعلا الإسلام من شأن كلمة الحق، وجعلها من أعظم الجهاد وأفضله، فقد روى أحمد عن أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه،أن النبي عليه السلام قال: ( ألا لا يمنعن رجلا مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر )
وقال بعض العلماء : الساكت عن الحق شيطان أخرس ، والناطق بالباطل شيطان ناطق ، فالذي يقول الباطل ويدعو إلى الباطل هذا من الشياطين الناطقين، والذي يسكت عن الحق مع القدرة ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يغير ما يجب تغييره ويسكت وهو يستطيع أن يتكلم هذا يقال له شيطان أخرس من شياطين الإنس يعني؛ لأن الواجب على المؤمن إنكار الباطل والدعوة إلى المعروف وإذا استطاع هذا وجب عليه ، ، فالذي يسكت عن إنكار المنكر وهو قادر ليس له مانع هذا هو الشيطان الأخرس .
ج - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال الله جل وعلا : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (آل عمران:104) وقال سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ(التوبة: من الآية71)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم – : (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه) وقال عليه الصلاة والسلام : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) خرجه الإمام مسلم في صحيحه، فهذا يبين لنا وجوب إنكار المنكر على حسب الطاقة باليد ثم اللسان ثم القلب.
عن أم حبيبة مرفوعًا: ((كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر، أو ذكر الله عز وجل)) ورواه ابن ماجه .