تعريف الإيجابية :
هي اقتناع عقلي ودافع نفسي وجهد بدني ، به لا يكتفي المرء بتنفيذ الواجب بل يبادر في طلبه ، ولا يرضى بمجرد أدائه بل يتقنه ، ويضيف إلى العمل المتقن روحاً وفعالية ، دون جفاء أو تبرم أو استثقال .
وبهذا المعنى للإيجابية كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإيجابي الأول ، ولقد ورثها لأصحابه الكرام رضوان الله عليهم ، فهو معلمهم وزعيمهم وقدوتهم ،
وفيما يلي ثلاثة أمثلة يتبين من خلالها كيف كان صلى الله عليه وسلم يزرع الإيجابية في عقول أصحابه ومشاعرهم لتنطق بها حواسهم .
.
.
أولا : الرسول يريدها إيجابية مطلقة :
روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا ) .
وتتجلى روعة هذا الحديث الذي رغب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم على غرس فسيلة النخيل وهي التي لا تؤتي ثمارها في الحياة الدنيا إلا بعد سنوات ، ومع اليقين باستحالة أن ينتفع بها أحد والقيامة قائمة ، ومن ثم يتضمن هذا الحديث الدلالات الآتية :
أ - دل هذا الحديث على الإيجابية المطلقة التي لا يتقيد فيها العمل بمدة محددة ولا بزمن محدود ، ولا بثمرة مرتقبة ، فقط الترغيب فى اغتنام آخر فرصة من الحياة الدنيا .
ب - المسلم الإيجابي قلبه معلق بالمثوبة متطلع للأجر ، يثق بأن أجره ممتد إلى ما بعد انقضاء عمره ، وذلك كله لا يكون بالأمنيات ولا يتحقق بالشفاعات ، وإنما ميدانه العمل ، قال الله تعالى : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) سورة التوبة: 105 .
ج - المسلم الإيجابي هو من أدرك رسالته وعرف أنه لم يخلق عبثاً ولم يترك هملاً ، بل هو حامل رسالة ومبلغ أمانة ، ومن ثم فلا مكان عنده لنوم ولا كسل ،
وإيجابيته هذه أداء للواجب فضلا عن كونها معذرة إلى الله عز وجل من التقصير ، قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَتْ أمة منهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ معذبهم عذابا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) الأعراف : 164
.
.
ثانيا : الرسول يزرع الإيجابية في حياة أصحابه :
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا ؟ ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : أَنَا .
قَالَ صلى الله عليه وسلم : ( فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً ؟) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : أَنَا .
قَالَ صلى الله عليه وسلم : ( فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا ؟ ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : أَنَا.
قَالَ صلى الله عليه وسلم : ( فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا ؟ ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : أَنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّة )َ .
يحكي هذا الحديث عن برنامج تربوي خاص ، يطرحه الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام ، في وقت مخصوص ، ليحقق اهدافا مخصوصة ، وبيان ذلك في الآتي :
أ - في بداية يوم جديد وبعد صلاة الفجر التي لا يحضرها منافق ، يدعوا الرسول أصحابه ليقتربوا منه وليتفوا حوله ، ليكونوا في ذمة الله وحفظه ، ويوجه عدة أسئلة إليهم يحاسبهم أو يتابعهم في تنفيذ أعمال هي صيام النافلة ، وإتباع الجنازة ، وإطعام الفقير ، وعيادة المريض .
ب - ويريد بذلك صلى الله عليه وسلم أن يشحذ همم أصحابه ويذكي طموحهم ، وبالتالي يدفعهم إلى البذل والعمل ، وانتهاز الفرص واستثمار الواقع ، فإذا كان اهتمامه بنوافل الأعمال ورغائبها هكذا ، فكيف يكون الحال بشأن أركان الدين وفرائضه فلا شك ستكون المحاسبة أشد والمتابعة أقوى ، وبذلك يستهدف وصولهم إلى الإيجابية بمعناها السابق .
ج - قد يشعر المرء من أول وهلة باستحالة تنفيذ الأسئلة التي يطرحها الرسول على أصحابه ، أو على الأقل بصعوبتها ، وخاصة انه لم يكن قد مضي من الوقت بعد صلاة الفجر إلا لحظات ، فمتى وكيف تتبع الجنائز ويطعم المسكين ويعاد المريض ويتحدد الصائم من المفطر ، إلا أن أبو بكر الصديق يقف ويعلن حال إجابته على كل سؤال انه نفذ المطلوب ، ومن ثم يستطيع غيره أن يفعلها ، ويضحى البرنامج الذي وضعه رسول الله مثاليا في رفع همة أصحابه وتحقيق مهارة الإيجابية لديهم .
د - وكانت لهذه النوافل التي اختارها المصطفي ليتابع أداء أصحابه لها قيمة تربوية خاصة ، فهي زاد المصلحين للوصول إلى قمة الإيجابية التي هي الطريق إلى هداية الأفراد وإصلاح المجتمعات وتحكيم الشريعة ،
فالصوم السبيل إلى التقوى ووسيلة لضبط شهوات الشباب فالصوم جنة من الخطأ ووجاء لمن لم يستطع الزواج ، وإتباع الجنازة يذكر بالموت ويزهد في الدنيا ويرفع الهمة إلى العمل الصالح استعدادا للقاء الله ، وإطعام الفقير وعيادة المريض هما مثالين للتكافل الواجب بين المسلمين الذين يسعى بذمتهم أدناهم وهم كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
ه - وهنا تبرز عبقرية الصديق أبو بكر لكونه جمع أعمال الخير الكثيرة في يوم واحد ، ويستحق بشري الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال عن هذه الأعمال ( ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ) فهنيئا لأبي بكر ، وهنيئا لكل من اتبع سنة النبي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده صلى الله عليه وسلم .
.
.
ثالثا : صورة ﻹيجابية الصحابة ذكورا وإناث :
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَوِّبٌ بِهِ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ القِدِّ، يَكْسِرُ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ الجَعْبَةُ مِنَ النَّبْلِ، فَيَقُولُ: « انْشُرْهَا لأبِي طَلْحَةَ ».
فَأَشْرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى القَوْمِ ، فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَة َ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، لاَ تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ القَوْمِ ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ ،
وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ، وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ ، أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تُنْقِزَانِ القِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا ، تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ القَوْمِ ، ثُمَّ تَرْجِعَان ِفَتَمْلَآَنِهَا ، ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ القَوْمِ ، وَلَقَدْ وَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدَيْ أَبِي طَلْحَةَ إِمَّا مَرَّتَيْنِ وَإِمَّا ثَلاَثًا ) .
هذا مشهد لجانب من يَوْمُ أُحُد حينما حاصر المشركون رسول الله صلى الله عليه ، يقطع بالمستوى الرفيع من الإيجابية التي وصل إليها أصحابه رجالا ونساء أثمرت أن يضحوا بأنفسهم في سبيل الله ، وبيان ذلك في الآتي :
أ - أهم ما يميز المسلم الإيجابي أنه ذو همة عالية ، يرمق أعلى الجنة ويرجوها ، يحب رسوله صلى الله عليه وسلم ويتخذه قدوة ويفديه بروحه وولده وأمه وأبيه ، عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) رواه البخاري ومسلم .
ب - وقد ظهر ذلك الحب بصورة عملية حينما حاصر المشركون الرسول ومن معه في أحد ، إذ كان أصحابه رضوان الله عليهم ويفدونه بأرواحهم ويتلذذون بأصناف العذاب لينجو هو صلى الله عليه وسلم ويستشهدوا هم .
ج - فقام أبو طلحة يسور نفسه بين يديه صلى الله عليه وسلم ويرفع صدره ليقيه من سهام العدو ، ويقول : " نحري دون نحرك يا رسول الله " ، وعرضت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -- صخرة من الجبل فنهض أبو طلحة إليها ليعلوها فلم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض عليه، فقال صلى الله عليه وسلم : ( أوجب طلحة ) أي وجبت الجنة.
د - في هذه المعركة ظهرت بطولات النساء وصدق إيمانهن ، إذ أثبت أنهن خرجن لكي يسقين العطشى ويداوين الجرحى ومنهن من قامت برد ضربات المشركين الموجهة للرسول صلى الله عليه وسلم ،
وممن شاركن في غزوة أحد أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر ، وأم عمارة ، وحمنة بنت جحش الأسدية ، وأم سليط، وأم سليم رضي الله عنهن .
وثبت كذلك أن امرأة من بني دينار أصيب زوجها وأخوها وأبوها ، فلما نعوهم لها قالت: " ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ، قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل ـ أي صغيرة ـ " .
.
.
رابعا : الإيجابية فريضة لتحقيق منهج الإسلام :
أ - إن الإسلام منهج حياة واقعية ، لا تكفي فيه المشاعر والنيات ما لم تتحول إلى حركة واقعية ، إنما يتحقق في حياة البشر بجهدهم البشري , وفي حدود طاقتهم البشرية .
ب - ويبدأ العمل بالمنهج بأن تحمله مجموعة من البشر ، تؤمن به إيمانا كاملا ، وتستقيم عليه وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها ، وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك ، وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهدا ولا طاقة ، وهذه هي الإيجابية المنشودة .
هي اقتناع عقلي ودافع نفسي وجهد بدني ، به لا يكتفي المرء بتنفيذ الواجب بل يبادر في طلبه ، ولا يرضى بمجرد أدائه بل يتقنه ، ويضيف إلى العمل المتقن روحاً وفعالية ، دون جفاء أو تبرم أو استثقال .
وبهذا المعنى للإيجابية كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإيجابي الأول ، ولقد ورثها لأصحابه الكرام رضوان الله عليهم ، فهو معلمهم وزعيمهم وقدوتهم ،
وفيما يلي ثلاثة أمثلة يتبين من خلالها كيف كان صلى الله عليه وسلم يزرع الإيجابية في عقول أصحابه ومشاعرهم لتنطق بها حواسهم .
.
.
أولا : الرسول يريدها إيجابية مطلقة :
روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا ) .
وتتجلى روعة هذا الحديث الذي رغب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم على غرس فسيلة النخيل وهي التي لا تؤتي ثمارها في الحياة الدنيا إلا بعد سنوات ، ومع اليقين باستحالة أن ينتفع بها أحد والقيامة قائمة ، ومن ثم يتضمن هذا الحديث الدلالات الآتية :
أ - دل هذا الحديث على الإيجابية المطلقة التي لا يتقيد فيها العمل بمدة محددة ولا بزمن محدود ، ولا بثمرة مرتقبة ، فقط الترغيب فى اغتنام آخر فرصة من الحياة الدنيا .
ب - المسلم الإيجابي قلبه معلق بالمثوبة متطلع للأجر ، يثق بأن أجره ممتد إلى ما بعد انقضاء عمره ، وذلك كله لا يكون بالأمنيات ولا يتحقق بالشفاعات ، وإنما ميدانه العمل ، قال الله تعالى : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) سورة التوبة: 105 .
ج - المسلم الإيجابي هو من أدرك رسالته وعرف أنه لم يخلق عبثاً ولم يترك هملاً ، بل هو حامل رسالة ومبلغ أمانة ، ومن ثم فلا مكان عنده لنوم ولا كسل ،
وإيجابيته هذه أداء للواجب فضلا عن كونها معذرة إلى الله عز وجل من التقصير ، قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَتْ أمة منهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ معذبهم عذابا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) الأعراف : 164
.
.
ثانيا : الرسول يزرع الإيجابية في حياة أصحابه :
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا ؟ ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : أَنَا .
قَالَ صلى الله عليه وسلم : ( فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً ؟) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : أَنَا .
قَالَ صلى الله عليه وسلم : ( فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا ؟ ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : أَنَا.
قَالَ صلى الله عليه وسلم : ( فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا ؟ ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : أَنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّة )َ .
يحكي هذا الحديث عن برنامج تربوي خاص ، يطرحه الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام ، في وقت مخصوص ، ليحقق اهدافا مخصوصة ، وبيان ذلك في الآتي :
أ - في بداية يوم جديد وبعد صلاة الفجر التي لا يحضرها منافق ، يدعوا الرسول أصحابه ليقتربوا منه وليتفوا حوله ، ليكونوا في ذمة الله وحفظه ، ويوجه عدة أسئلة إليهم يحاسبهم أو يتابعهم في تنفيذ أعمال هي صيام النافلة ، وإتباع الجنازة ، وإطعام الفقير ، وعيادة المريض .
ب - ويريد بذلك صلى الله عليه وسلم أن يشحذ همم أصحابه ويذكي طموحهم ، وبالتالي يدفعهم إلى البذل والعمل ، وانتهاز الفرص واستثمار الواقع ، فإذا كان اهتمامه بنوافل الأعمال ورغائبها هكذا ، فكيف يكون الحال بشأن أركان الدين وفرائضه فلا شك ستكون المحاسبة أشد والمتابعة أقوى ، وبذلك يستهدف وصولهم إلى الإيجابية بمعناها السابق .
ج - قد يشعر المرء من أول وهلة باستحالة تنفيذ الأسئلة التي يطرحها الرسول على أصحابه ، أو على الأقل بصعوبتها ، وخاصة انه لم يكن قد مضي من الوقت بعد صلاة الفجر إلا لحظات ، فمتى وكيف تتبع الجنائز ويطعم المسكين ويعاد المريض ويتحدد الصائم من المفطر ، إلا أن أبو بكر الصديق يقف ويعلن حال إجابته على كل سؤال انه نفذ المطلوب ، ومن ثم يستطيع غيره أن يفعلها ، ويضحى البرنامج الذي وضعه رسول الله مثاليا في رفع همة أصحابه وتحقيق مهارة الإيجابية لديهم .
د - وكانت لهذه النوافل التي اختارها المصطفي ليتابع أداء أصحابه لها قيمة تربوية خاصة ، فهي زاد المصلحين للوصول إلى قمة الإيجابية التي هي الطريق إلى هداية الأفراد وإصلاح المجتمعات وتحكيم الشريعة ،
فالصوم السبيل إلى التقوى ووسيلة لضبط شهوات الشباب فالصوم جنة من الخطأ ووجاء لمن لم يستطع الزواج ، وإتباع الجنازة يذكر بالموت ويزهد في الدنيا ويرفع الهمة إلى العمل الصالح استعدادا للقاء الله ، وإطعام الفقير وعيادة المريض هما مثالين للتكافل الواجب بين المسلمين الذين يسعى بذمتهم أدناهم وهم كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
ه - وهنا تبرز عبقرية الصديق أبو بكر لكونه جمع أعمال الخير الكثيرة في يوم واحد ، ويستحق بشري الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال عن هذه الأعمال ( ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ) فهنيئا لأبي بكر ، وهنيئا لكل من اتبع سنة النبي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده صلى الله عليه وسلم .
.
.
ثالثا : صورة ﻹيجابية الصحابة ذكورا وإناث :
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَوِّبٌ بِهِ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ القِدِّ، يَكْسِرُ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ الجَعْبَةُ مِنَ النَّبْلِ، فَيَقُولُ: « انْشُرْهَا لأبِي طَلْحَةَ ».
فَأَشْرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى القَوْمِ ، فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَة َ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، لاَ تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ القَوْمِ ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ ،
وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ، وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ ، أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تُنْقِزَانِ القِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا ، تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ القَوْمِ ، ثُمَّ تَرْجِعَان ِفَتَمْلَآَنِهَا ، ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ القَوْمِ ، وَلَقَدْ وَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدَيْ أَبِي طَلْحَةَ إِمَّا مَرَّتَيْنِ وَإِمَّا ثَلاَثًا ) .
هذا مشهد لجانب من يَوْمُ أُحُد حينما حاصر المشركون رسول الله صلى الله عليه ، يقطع بالمستوى الرفيع من الإيجابية التي وصل إليها أصحابه رجالا ونساء أثمرت أن يضحوا بأنفسهم في سبيل الله ، وبيان ذلك في الآتي :
أ - أهم ما يميز المسلم الإيجابي أنه ذو همة عالية ، يرمق أعلى الجنة ويرجوها ، يحب رسوله صلى الله عليه وسلم ويتخذه قدوة ويفديه بروحه وولده وأمه وأبيه ، عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) رواه البخاري ومسلم .
ب - وقد ظهر ذلك الحب بصورة عملية حينما حاصر المشركون الرسول ومن معه في أحد ، إذ كان أصحابه رضوان الله عليهم ويفدونه بأرواحهم ويتلذذون بأصناف العذاب لينجو هو صلى الله عليه وسلم ويستشهدوا هم .
ج - فقام أبو طلحة يسور نفسه بين يديه صلى الله عليه وسلم ويرفع صدره ليقيه من سهام العدو ، ويقول : " نحري دون نحرك يا رسول الله " ، وعرضت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -- صخرة من الجبل فنهض أبو طلحة إليها ليعلوها فلم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض عليه، فقال صلى الله عليه وسلم : ( أوجب طلحة ) أي وجبت الجنة.
د - في هذه المعركة ظهرت بطولات النساء وصدق إيمانهن ، إذ أثبت أنهن خرجن لكي يسقين العطشى ويداوين الجرحى ومنهن من قامت برد ضربات المشركين الموجهة للرسول صلى الله عليه وسلم ،
وممن شاركن في غزوة أحد أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر ، وأم عمارة ، وحمنة بنت جحش الأسدية ، وأم سليط، وأم سليم رضي الله عنهن .
وثبت كذلك أن امرأة من بني دينار أصيب زوجها وأخوها وأبوها ، فلما نعوهم لها قالت: " ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ، قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل ـ أي صغيرة ـ " .
.
.
رابعا : الإيجابية فريضة لتحقيق منهج الإسلام :
أ - إن الإسلام منهج حياة واقعية ، لا تكفي فيه المشاعر والنيات ما لم تتحول إلى حركة واقعية ، إنما يتحقق في حياة البشر بجهدهم البشري , وفي حدود طاقتهم البشرية .
ب - ويبدأ العمل بالمنهج بأن تحمله مجموعة من البشر ، تؤمن به إيمانا كاملا ، وتستقيم عليه وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها ، وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك ، وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهدا ولا طاقة ، وهذه هي الإيجابية المنشودة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق