التثبت
وأثره على وحدة الصف
دراسة من خلال الكتاب و السنة
محمد أحمد أبوغدير
مقدمة
الحمد لله و اشهد أن لا إله إلا الله و أ ن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم
وبعد
قد تطرب الأذن للعبارات الخلابة والألفاظ المنمقة فيغتر المرء ببريقها وزخرفها فيعتقد أنها الحق فينشرها كخبر أو يعرضها كرأي أو يبني عليها حكما دون أن يقيسها بميزان العقل أو يضبطها بقواعد الشرع ، و يثبت له بعد ذلك زيف العبارات المنقولة إليه وكذب ناقلها فيندم على فعله ولكن هيهات هيهات و قد ألبس الحق بالباطل أو اتهم الأبرياء بغير علم أو أفتى في مسألة بغير فقه .
وقد تدفع العاطفة الإسلامية الجياشة أو الحماس المتأجج بعض العاملين الملتزمين في الصف الإسلامي فتصنعان غشاوة على عيونهم وعقولهم وتسلباهم الإدراك ، وتوديا بهم إلى الخطأ فيحكمون علي المخالفين لهم في الرأي بالفسوق أو الكفر ، فيفسدون من حيث يظنون أنهم يصلحون و يصدون الناس عن الحق ويصرفون الخلق عن الصف .
ولقد ابتليت الأمة الإسلامية بصنفين من الناس الأول : مسطحو الفكر والعلم الذين لا يقدرون المواقف ولا يزنون الأعمال ولا يدركون الواقع يحكمون على الأشياء والأشخاص دون دراية بالأدلة ومراميها والأسانيد وصحتها والمصالح كحاطب ليل يهذي بما لا يدري ، والثاني مرضى التدين : الذين يزعمون كمال الفقه و العمل و يجهلون الغير ويفسقونهم و يكفرونهم ، هؤلاء الناس الذين افتقدوا التأني و التريث والروية فقبلوا الرواية و أصدروا الأحكام قبل التثبت و التبين الوقوف على صحة الخبر والفهم الدقيق لواقع وملابسات هذه الأحكام وتلك التصورات وكم تأثر الصف المسلم و تصدع من جراء أفعال هؤلاء .
و بناءَ على ما تقدم تأتي أهمية بحت ودراسة موضوع التثبت وأثره على وحدة الصف ، فإن الأمور المشكلة غير الواضحة يحتاج الإنسان إلى التثبت فيها والتبين ، هل يقدم عليها أم لا ؟ فإن التثبت في هذه الأمور ، يحصل فيه من الفوائد الكثيرة ، والكف عن شرور عظيمة ، فإنه به يعرف دين العبد وعقله ورزانته ، خلاف المستعجل للأمور في بدايتها ، قبل أن يتبين له حكمها ، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه ، وفي التثبت حماية وأمان للصف المسلم والحفاظ على وحدته حول الثوابت والمصالح العليا التي أكد عليها الوحي ورتب عليها حدودًا وكفارات وقصاصًا وتبعات في الدنيا والآخرة .
وبعد أن استعنت بالله الكريم قسمت موضوع البحث إلى ثلاثة عناصر, الأول عن التثبت من حيث تعريفه و مشروعيته وحكمه ووسائله و أسباب عدم التثبت وعلاجه ، والثاني حول وحدة الصف ووجوب الوحدة ووسائلها وعوامل الوقاية من الاختلاف ، والثالث عن صور التثبت وأثرها على وحدة الصف وهي التثبت من الأخبار و التأني في الأحكام و التكتم على الأسرار ، وموضوع البحث بعناصره السالف الإشارة إليها يحتاج إلى جهد مضن ووقت متسع ومن ثم قد تعذر علي التعمق فيه وكان منهجي في الدراسة إن أحدد لكل موضوع عناصره وأبحث عن كل عنصر في القرآن الكريم وتفسيره والسنة المطهرة وشروحها وقليل من المراجع المعاصرة وعليه تكون الدراسة في حاجة إلى تعمق وتوسع وخاصة في مجال فقه الدعوة ، وأسأل الله تعالى أن يجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم وأن يكتبه في ميزان حسناتي وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب .
المبحث الأول
التثبت
المطلب الأول
تعريف التثبت و مشروعيته و حكمه
أولا: تعريف التثبت:
التثبت : كلمة لم ترد بين دفتي المصحف الشريف الذي يبدأ بسورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس والمنقول الينا بالتواتر ، وإنما أورد القرطبي وغيره في كتب التفاسبر : أن حمزة والكسائي قرءا كلمة ( فتثبتوا ) بدلا من كلمة ( فتبينوا ) الواردتين في سورتي : النسـاء الآية 94 و الحجرات الآية 6 و من ثم فإن التثبت يعني التبين .
و قد عرف البعض التثبت في اللغة بأنه : التأني في الحكم على الشيء و طلب الدليل، و فحص وتأمل هذا الدليل ، و في الاصطلاح الإسلامي والدعوي:هو التأني والتريث، في كل ما يمس المسلمين و الناس جميعًا من أحكام أوتصورات، والفهم الدقيق لواقع و ظروف و ملابسات هذه الأحكام وتلك التصورات، قبل تناقلها وتداولها.
وعرفها البعض بأنها: تفريغ الوسع والجهد لمعرفة حقيقة الحال ليعرف أيثبت هذا الأمر أم لا .
إلا أنني أرى تعريفا ثالثا لكلمة التثبت يشمل التعريفين السابقين هو : استفراغ الوسع والحهد لمعرفة صدق مايتلقى من خبر فيقبله وصحة وقائع وظروف وملابسات الأحكام فيصدرها وخطورة ما يصله من أسرار فيكتمها ، حرصا على وحدة الصف و تأمينا للدعوة
ثانيا : مشروعية التثبت :
التثبت مشروع بموجب القرآن الكريم و السنة المطهرة .
فمن القرآن الكريم : قول الله تعالى:"يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَينُوا َنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ"
الأصل في التثبت العموم سواء كان الناقل ثقة أو فاسقاً للآية السابقة وقد نزلت في حق صحابي من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام وهو عقبة بن الوليد ولا تدل الآية على تفسيق أحد منهم رضوان الله عليهم لكون النبي عليه الصلاة والسلام شهد لهم بالعدالة وهذا من الأمور المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة .
وقال تعالى : ( يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين ، إذا خرجوا جهادا في سبيله ، وابتغاء مرضاته ـ أن يتبينوا ، ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة . فإن الأمور قسمان : واضحة وغير واضحة . فالواضحة البينة ، لا تحتاج إلى تثبت وتبين ، لأن ذلك ، تحصيل حاصل . وأما الأمور المشكلة غير الواضحة ، فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين ، هل يقدم عليها أم لا ؟ فإن التثبت في هذه الأمور ، يحصل فيه من الفوائد الكثيرة ، والكف عن شرور عظيمة ، فإنه به يعرف دين العبد ، وعقله ، ورزانته . بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها ، قبل أن يتبين له حكمها ، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي . كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية ، لما لم يتثبتوا ، وقتلوا من سلم عليهم ، وكان معه غنيمة له أو مال غيره ، ظنا أنه يستكفي بذلك قتلهم ، وكان هذا خطأ في نفس الأمر . تفسير السعدي
وقال تعالي في شان الذين خاضوا في الإفك دون أن يتثبتوا: ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ )
لأن من المعلوم بداهة أن التلقي إنما يكون بالأذن، ثم يعرض على العقل والقلب، وحينئذ يكون الكلام باللسان، أو عدم الكلام فإذا ما عبّر القرآن الكريم بأن التلقّي إنما كان باللسان، فإنما هي لفتة إلى السرعة، وعدم التروي في إصدار الحكم، بل في تداوله والتحرك به، كأن الإفك عندما وقع من ابن سلول صمت الآذان، وسترت العقول، وغلّفت القلوب، فلم يبق إلا أن لاكته الألسن، وتحركت به الشفاه، دون فهم للواقع، ودون معرفة بالظروف والملابسات .
و من السنة المطهرة : ما روي عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : التأني من الله والعجلة من الشيطان ، وعن بن عباس رضى الله تعالى عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا تأنيت وفي رواية المعاذي والشعيبي والهروي إذا تبينت أصبت أو كدت تصيب وإذا استعجلت أخطأت أو كدت تخطىء ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( "بئس مطية الرجل: زعموا )
قال الخطابي شرحا لهذا الحديث : "إنما يقال "زعموا" في حديث لا سند له ولا تثبت فيه، وإنما هو شيء يُحكى على الألسن على سبيل البلاغ ، فذم صلى الله عليه وسلم من الحديث ما كان هذا سبيله وأمر بالتثبت فيه والتوثق لما يحكيه من ذلك فلا يرويه حتى يكون مَعْزِيا إلى ثبت ومرويا عن ثقة" . ولقوله صلى الله عليه وســلم: ( كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سـمع ) .
وعن سمرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله عليه وسلم : ( من حدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ) . ، وعن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوما، لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر: فإن سمع أذانا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم. قال: فخرجنا إلى خيبر، فانتهينا إليهم ليلا، فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب وركبت خلف أبي طلحة، وإن قدمي لتمس قدم النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد والله، محمد والخميس، قال: فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الله أكبر، الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).
و كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم إذا سألهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء لا يعلمونه قالوا: الله ورسوله أعلم وما ذاك إلا لتعظيمهم لله عز وجل وتقديرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعدهم عن التكلف، ومن هذا الباب وجوب التثبت ، و من ثم فالواجب على المسلمين التثبت، وعدم المبادرة بالتصديق أو التكذيب أو الحكم إلا بعد الحصول على المعلومات الكافية، التي يستطيع المسلم أن يعتمد ويطمئن إليها في قول أو رأى او حكم .
ثالثا : الحكم الشرعي للتثبت :
قول الله تبارك وتعالى ( فَتَبَيَّنُوا ) الذي ورد في الآيتين الكريمتين من سورتي الحجرات والنور السالف ذكرهما جاء بصيغة الأمر ، وقد اتفق الأصوليون على أن الأمر يفيد الوجوب ما لم توجد قرينة تصرفه الى المندوب أو الى المباح و قد انتفت هذه القرائن ، بل إن كافة النصوص السلف الإشارة اليها في بيان مشروعية التثبت تقطع بوجوب التثبت.
و قد ذكر الإمام البغوي في تفسيره لقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) يأمر تعالى عباده المؤمنين ، إذا خرجوا جهادا في سبيله ، وابتغاء مرضاته ـ أن يتبينوا ، ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة . فإن الأمور قسمان : واضحة وغير واضحة . فالواضحة البينة ، لا تحتاج إلى تثبت وتبين ، لأن ذلك ، تحصيل حاصل . وأما الأمور المشكلة غير الواضحة ، فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين ، هل يقدم عليها أم لا ؟ فإن التثبت في هذه الأمور ، يحصل فيه من الفوائد الكثيرة ، والكف عن شرور عظيمة ، فإنه به يعرف دين العبد ، وعقله ، ورزانته . بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها ، قبل أن يتبين له حكمها ، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي . كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية ، لما لم يتثبتوا ، وقتلوا من سلم عليهم ، وكان معه غنيمة له أو مال غيره ، ظنا أنه يستكفي بذلك قتلهم ، وكان هذا خطأ في نفس الأمر ، فلهذا عاتبهم بما ورد في تلك الآية .
المطلب الثاني
وسـائـل التـثـبـت
اولا : الرجوع إلى الكتاب و السنة و إلى أهل الإختصاص :
الوسيلة الأولى التي ينبغي أن يسلكها المرء للوصول الي التثبت و التبين هي اللجوء الى الكتاب والسنة فهما معا المرجع الأول لكل مسلم للوصول الى الحق وبعدهما الرحوع الى أولو الأمر وهم أهل العلم والفقه
لذلك قال الله تعالى:( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الامْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الامْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)
والمعنى كما ذكره الإمام القرطبي في تفسيره أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم "أو الخوف "وهو ضد هذا أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته. وكان هذا من ضعفة المسلمين؛ ؛ لأنهم كانوا يفشون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويظنون أنهم لا شيء عليهم ، وقيل: هو في المنافقين فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب في الإرجاف ، وقوله تعالى: "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم" أي لم يحدثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به ويفشيه. أو أولو الأمر وهم أهل العلم والفقه؛ عن الحسن وقتادة وغيرهما. السدي وابن زيد: الولاة. وقيل: أمراء السرايا. "لعلمه الذين يستنبطونه منهم" أي يستخرجونه، أي لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه وما ينبغي أن يكتم. والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته. والنبط: الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر. وسمي النبط نبطا لأنهم يستخرجون ما في الأرض. والاستنباط في اللغة الاستخراج، وهو يدل على الاجتهاد إذا عدم النص والإجماع.
ثانيا : السؤال والمناقشة :
ومن الوسائل الهامة جدا المؤدية الى التثبت و التبين هو السؤال عن الأمر المشكل او الخبر المريب ، وطلب الحوار و النقاش قبل التسرع بأصدار حكم أو اعتقاد أمر قد يضار منه الصف المسلم ، وخير دليل على ذلك موقف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حاطب بن أبي بلتعة، لما كتب إلى أهل مكة يخبرهم بغزو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم، وأطلع الله عز وجل نبيه على الكتاب، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دعاه وسأله وناقشه قبل أن يقضي في أمره ، وحاطبة رضي الله عنه عرض رده و بين دفاعه فقال يَا رَسُولَ اللَّهِ لا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلا ارْتِدَادًا وَلا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإسْلامِ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَقَدْ صَدَقَكُمْ) قَالَ عُمَرُ: ( يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ) قَالَ: ( إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)
و منها كذلك مناقشة سيدنا علي رضي الله عنه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أعطاه الراية يوم خيبر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( امْشِ وَلا تَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ) فَسَارَ عَلِيٌّ شَيْئًا ثُمَّ وَقَفَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ فَصَرَخَ: ( يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ) قَالَ قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ) .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد: ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".
ثالثا : الخبرة السابقة :
ومن الأمور التي ينبغي أن يسلكها المرء للوصول الي التثبت التعرف على الناس والوقوف على أحوالهم و أخلاقهم و هذا لا يتأتى إلا بالتعامل معهم بالدرهم والدينار ومعايشتهم علي ظروفهم وأحوالهم المختلفة كما في الأسفار والأفراح والأتراح ، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يثني رجل على آخر في مجلسـه، فيقول عمر للرجل الذي أثنى: ( هل صحبته في سفر قط؟) قال: لا، فقال له: هل ائتمنته على أمانة قط؟' قال: لا، فقال له: ( هل كان بينك وبينه معاملة في حق؟) قال: لا. فقال له: ( اسكت فلا أرى لك علمًا به؛ أظنك والله رأيته في المسجد يخفض رأسه ويرفعه)
رابعا : المواجهة بين الأطراف :
عن عليّ عليه السلام قال: بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى اليمن قاضياً فقلت: يارسول اللّه، ترسلني وأنا حديث السنِّ ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: "إنَّ اللّه سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإِذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضينّ حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول؛ فإِنه أحرى أن يتبين لك القضاء" قال: فما زلت قاضياً، أو ما شككت في قضاء بعد. سنن أبو داود - 3582ـ باب كيف القضاء
المطلب الثالث
أسباب عدم التثبت
اولا : العاطفة الجياشة أو الحماس المفرط :
العاطفة أو الحماس تصنعان غشاوة على عين صاحبها وعقله فتسلباه الإدراك، وتوديا به الى الخطأ في كثير من الأحيانا، مالم تكن هذه العاطفة و تلك الحماسة موزونتين بميزان الشرع، ومحكومتين بلجام العقل.
فقد روي عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ: قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِلى الْحُرَقَةَ مِنْ جُهَيْنَةَ. فَصَبّحْنَا الْقَوْمَ. فَهَزَمْنَاهُمْ. وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُم. فَلَمّا غَشينَاهُ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ. فَكَفّ عَنْهُ الأَنْصَارِيّ. وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتّى قَتَلْتَهُ. قَالَ فَلَمّا قَدِمْنَا. بَلَغَ ذَلِكَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي "يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَال لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ؟" قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّمَا كَانَ مُتعوّذا. قَالَ، فَقَالَ "أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ؟" قَالَ فَمَا زَالَ يُكْرّرُهَا عَلَيّ حَتّى تَمْنّيْتُ أَنّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
فكان الحامل لأسامة على قتل الرجل مع نطقه بلا إله إلا الله، تلك التي تعصم الدم إلا بحقها، إنما هو الحماس، أو العاطفة الإسلامية الجياشة، التي انطوى عليها قلب أسامة بن زيد رضي الله عنه بحيث حالت بينه وبين الاقتناع بما صدر عن الرجل، من الإسلام، والنطق بالشهادة، واتهمه بأنه يظهر خلاف ما يبطن، ناسيًا أن الله وحده هو المطلع على ما تكنّه القلوب، وتخفيه الصدور
ثانيا : التعلق بمتاع الحياة الدنيا الزائل:
جبلت النفس البسرية على التعلق بمتاع الحياة الدنيا وزينتها ، و قد يشغل ذلك حيزا في القلب فيصير حبا و قد يزداد فيصبح هوى ، قال تعالى ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسـومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب )
فإذا أحب الإنسان هذه الأشياء و تعلق بها يعمي ويصم، ويحول بينه وبين استطلاع الموقف وتبين الحقيقة، ولعل هذا السبب هو المشار إليه في قوله تعالى:( يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا، وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ
ثالثا : الجهل بوسائل وطرق التثبيت:
وقد يجهل بأساليب أو طرق التثبت أو التبين، فيؤدي ذلك إلى السرعة في الحكم، وتداوله هنا وهناك، ذلك أن للتثبت أو للتبين أساليب أو طرقًا كثيرة توصل إليه، و قد ذكرنا طرفا منها في المطلب الثاني .
رابعا : الاغترار بزخرف القول :
الأذن تطرب للعبارات الخلابة والألفاظ المعسولة، ، وإذا بالمرء يغتر ببريق هذه الألفاظ وزخرف تلك العبارات ، وحينئذ يقع منه عدم التثبت ، و قد حذر و نهى رسول الله عن ذلك ، فروي عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا ).
المطلب الرابع
علاج عدم التثبت:
أولا : تقوية ملكة التقوى:
عن عطية السعدي، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع مالا بأس به، حذرا لما به البأس)).
ثانيا : معايشة الكتاب والسنة من خلال النصوص المتصلة بقضية التثبت:
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ) (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فِاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ) وفي قصة سليمان مع الهدهد: (سَنَنظُرْ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذِبِينَ ) (27)
ثالثا : دوام النظر في سير وأخبار السلف
ان المطلع على سير وأخبار السلف ليجدعا عامرة بالنماذج الحية التي تجسد هذا التثبت، وتجعله ماثلاً أمامنا كالعيان، ومن هذه السير، وتلك الأخبار، قصّة عمر بن الخطاب مع سعيد بن عامر الجمحي، واليه على حمص، إذ قدّر الله لعمر أن يزور هذه البلدة، ويسأل أهلها: ( كيف وجدتم عاملكم؟) فيشكونه له قائلين:نشكو أربعًا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: ( أعظم بهذا، وماذا؟) قالوا: لا يجيب أحدًا بليل، قال: ( وعظيمة، وماذا؟) قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا، قال: ( عظيمة، وماذا؟) قالوا: يغنط الغنطة بين الأيام -أي: يغمى عليه، ويغيب عن حسّه- فلم يفصل عمر في الأمر، إلا بعد أن جمع بينهم وبينه، ودعا ربه قائلاً: (اللهم لا تفيّل رأيي فيه) وكان عمر حسن الظن به، وبدأت المحاكمة، فقال عمر لهم أمامه: (ما تشكون منه؟) قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار. قال: (ما تقول؟) قال: (والله إن كنت لأكره ذكره: ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني، ثم أجلس حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ، ثم أخرج إليهم) فقال : (ما تشكون منه؟) قالوا: لا يجيب أحدًا بليل، قال: (ما تقول؟) قال: (إن كنت لأكره ذكره: إني جعلت النهار لهم، والليل لله عز وجل) قال: (وما تشكون منه؟) قالوا: إن له يومًا في الشهر لا يخرج إلينا فيه،قال: (ما تقول؟) قال: ( ليس لي خادم يغسل ثيابي، ولا لي ثياب أبدلها، فأجلس حتى تجف، ثم أدلكها، ثم أخرج إليهم من آخر النهار قال: ما تشــن منه؟) قالوا: يغنط الغنطة بين الأيام، قال: (ما تقول؟) قال: ( شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش من لحمه، ثم حملوه على جذعة، فقالوا: أتحب أن محمدًا مكانك؟ فقال: والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمدًا ( شيك بشوكة، ثم نادى يا محمد، فما ذكرت ذلك اليوم، وتركي نصرته في تلك الحال، وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم، إلا ظننت أن الله عز وجل لا يغفر لي بذلك الذنب أبدًا، فتصيبني تلك الغنطة). فقال عمر ـ بعد أن أظهر براءته أمامهم: ( الحمد لله الذي لم يُفيّل فراستي، وبعث إليه بألف دينار، وقال: استعن بها على أمرك) ففرقها.
ومنها كذالك قصة اسامة ابن زيد مع الجهني في سورة النساء وعلى نحو ما جاء في حادثة الإفك في سورة النور، وعلى نحو ما جاء في قصة داود مع الخصمين في سورة ص، وعلى نحو ما جاء في : قصة سليمان مع الهدهد في سورة النمل، فإن هذا اللون من التربية يثبت في النفس، ولا ينسى، نظرًا لارتباطه بالحديث أو بالقصة. فإن هذه إن تأكدت في النفس العبر و العظات من هذه المواقف و السير ، فسوف تحمل صاحبها حملاً على التأني والتروي، والانصاف، ونقل الحقيقة كما هي دون زيادة أو نقص، بل ستكون سببًا في نور القلب، ونفاذ البصيرة، كما قال سبحانه:(يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا )
رابعا: تذكر المساءلة و الحساب :
تذكر الوقوف بين يدي الله للمساءلة والجزاء : وذلك من خلال تدبره قول الله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْؤُولُون ) و قوله تعالى : (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93) و قوله تعالى (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا )
المبحث الثاني
وحدة الصف
المطلب الأول
وجوب الوحدة وحرمة الفرقة
دل القرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين على وجوب وحدة الصف المسلم و حرمة التفرق .
أولا : القرآن الكريم :
قول الله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } ، فهذه الآية يبين الله تبارك وتعالى فيها أن العمل على الوحدة بين المسلمين فريضة شرعية عظيمة ، وأن تحقق تلك الوحدة نعمة إلهية كبيرة ، وأن الفرقة معصية كبرى ونقمة جلى .
ويقول القرطبي رحمه الله عند تفسير هذه الآية : " فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة ، فإن الفرقة هلكة ، والجماعة نجاة ، وقال عند تفسير قوله تعالى { ولا تفرقوا } " … ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة ، وكونوا عباد الله إخوانا ، فيكون ذلك منعا لهم من التقاطع والتدابر " .
ثانيا : السنة المطهرة :
قوله صلى الله عليه و سلم ( عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد ، ومن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ) .
والجماعة التي يأمر بها النبي ويأمر بالتزامها ، لها عدة معانٍ تدور حول الحق وأهله المجتمعين عليه.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا.... ) .
ثالثا: أقوال علماء الأمة:
ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قائلاً : " إن من القواعد العظيمة التي هي جماع الدين تأليفَ القلوب واجتماعَ الكلمة وصلاحَ ذات البين ، فإن الله يقول { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } ويقول { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا … } وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف ، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة ، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة ".
وفضلاً عن كون التفرق والاختلاف معصية لله تبارك وتعالى ، فإنه سبب للخذلان والهزيمة والفشل ، فقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أن سبب هزيمة المسلمين يوم أحد هو ما كان من المعصية والتنازع بين بعض المسلمين قال تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضلٍ على المؤمنين } .
وليس هذا خاصاً بالمسلمين في أحد ، بل إن النزاع والخلاف مدعاة للفشل وذهاب الريح في كل زمان ومكان كما أخبر تعالى : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين }
المطلب الثاني
وسائل وحدة الصف
اولا : الإرتباط برباط العقيدة :
فالعقيدة أمر ضروريا لا غنى عنه للفرد والجماعة، ضروري للفرد ليسعد وليطمئن، وتطهر نفسه ويتحرر من الخوف إلا من الله، ومن الرجاء إلا في الله، ومن التوكل إلا على الله، ومن التضرع واللجوء إلا إلى الله تعالى، وضروري للمجتمع ليستقر ويتآخى، ويتعاون ويتماسك، ويتناصر وينهض ، والعقيدة الإسلامية تربط بين قلوب معتنقيها برباط المحبة والإخاء والتراحم، ذلك الرباط الذي لا يساويه رباط الجنس أو اللغة أو الوطن أو القوم( ).
لذلك فإن الإسلام يبني الأمة المسلمة على هذا المنهج، ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي، ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة لا آصرة النسب ولا الجنس ولا اللغة ولا الأرض ولا اللون ولا المصالح ولا المصير المشترك، فهذه أواصر يشترك فيها الحيوان مع الإنسان، وهي أشبه شيء وأقرب إلى أوامر القطيع! وإلى اهتمامات القطيع!
لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة: العربي والفارسي، والشامي والمصري، والمغربي والصيني، والتركي والهندي، والروماني والإغريقي، والأندونيسي والإفريقي... إلى آخر الأقوام والأجناس، لقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة وبأمر الحب، وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة"( ).
لقد كانت العقيدة الإسلامية إيذانا بمولد مجتمع جديد يخالف المجتمعات الجاهلية السابقة التي جعلت أساس مجتمعاتها الجنس أو القبيلة أو الإقليم أو اللغة.
ثانياً: الشعور المتنامي بشراسة إستهداف العدو لكل ما هو إسلامي :
من الوسائل الدافعة بقوة للعمل على وحدة الصف الشعور المتنامي والقوي بين المسلمين بشدة وشراسة هجمة العدو واستهدافه لكل ما هو عمل إسلامي وكل من هو عامل للإسلام دون تمييزٍ أو تفصيل ، فأمم الكفر وطواغيت الحكام والحركات الهدامة قد تكالبت علينا من كل حدبٍ وصوب ، وهي تعمل على تحطيم عقائد المسلمين وإفساد أخلاقهم وهتك أعراضهم واحتلال بلادهم وتدنيس مقدساتهم واحتلالها ، ونهب ثرواتهم واستلابها ، بعد أن سقطت الخلافة الإسلامية وغاب الحكم بشرع الله تبارك وتعالى ، فحورب المسلمون في عقر دارهم ، فالشعور بهذه الحقائق مع العلم بمستوى الجهد المطلوب لسد الثغرات وهو جهد لا يمكن أن يقوم به فرد أو جماعة واحدة ، كل هذه الأمور تصب في النهاية في اتجاه العمل على توحيد الجهود وتنسيق العمل بين العاملين للإسلام خصوصاً والمسلمين عموماً.
إن الوضع الذي يعيشه المسلمون اليوم يقتضي استنفار كل من له انتساب إلى هذا الدين ، وتوظيف طاقاته وجهوده في المعركة التي يخوضها الإسلام ضد القوى المعادية للإسلام التي كشّرَ عن أنيابها، وكشفت عن أهدافها الحقيقية في محاربة الإسلام والمسلمين ، ولم يعد مقتصراً في حربه تلك على أطراف العالم الإسلامي البعيدة ، بل أصبح يخوض المعركة بنفسه ، وفي قلب العالم الإسلامي وعلى أرض أقدس مقدساته في الجزيرة العربية وفلسطين وغيرها ، ففي مثل هذه الحال يتجاوز الخطاب بالوحدة والتنسيق الجماعات والأفراد الذين يتحدون في الأصول السابقة ، إلى غيرهم من عوام المسلمين الصالحين والعصاة ونحوهم ممن لا يمكن القيام بدفع العدو الأكبر والضرر الأخطر إلا بالتعاون معهم .
ثالثاً: المحبة و التآخي في الله تعالى:
الأخوة في الله تعالى عقد واجب الوفاء به. ولقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن عقد الأخوة هذا فقال: "إن الحقوق التي ينشئها إذا كانت من جنس ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، والتي تجب للمؤمن على المؤمن، فإنما هي حقوق واجبة بمقتضى الإيمان، والتزامها بمنزلة الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله"( ).
ولهذه الأخوة حقوق منها:
(1) إخلاص المحبة لله تعالى : هذه العقيدة تهتف بالبشرية بنداء الحب في الله، إنها حين تخالط القلوب تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب، التي تلين قاسيها، وترقق حواشيها، وتندي جفافها، وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق، فإذا نظرة العين، ولمسة اليد، ونطق الجارحة، وخفق القلب ترانيم من التعارف والتعاطف، والولاء والتناصر، والسماحة والهوادة لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب، ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بين قلوبهم)( ) يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من عباد الله أناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكان من الله تعالى، قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس))( )،
(2) موالاة المسلم لأخيه المسلم: فقد أملت علينا عقيدتنا أن نوالي بعضنا بعضاً على قاعدة الحب في الله والتآلف، وعلى أنبل مظاهر الأخوة والتعارف؛ حتى نكون رجلاً واحداً، وقلباً واحداً، ويداً واحدة. قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)( ).
لقد صنع نبينا صلى الله عليه وسلم أمة بهذا القرآن لم نجد مثيلاتها في الأمم التي سبقتها، وصنع جيلاً لم يتكرر في التاريخ البشري، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، كل ذلك على قاعدة الولاء العقدي، والتآخي النبيل، والمناظر الجليلة التي لم تعهد البشرية لها شبيهاً عبر تاريخها الطويل.
(3) التآخي الموصل إلى وحدة الصف: أن يستشعر المسلم هذا الرباط الوثيق مع من سبقه من المؤمنين، والدعاء لإخوانه والاعتراف بفضل من سبقه في العلم والعبادة والجهاد في سبيل الله تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا في الإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا)( ).
(4) أن يعيش مع إخوانه المسلمين أفراحهم وأتراحهم : بمعنى أن يشاركهم بشخصه و جهده و نصحه مناسباتهم السعيدة و المحزنة أو على الأقل تشاركهم وجدانيا فيفرح لفرحهم ويحزن لأحزانهم، ويسر لأفراحهم، فهو معهم وبهم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))( ). بالرغم من أن العمل الإسلامي اجتمعت نحوه مجموعة من المضاعفات فتت في عضده، ونخرت في عظامه، أقلها أنه أصبح في أودية متقطعة، لكن كل هذا لا يحول دون شعور أهله وإحساسهم بآلام بعضهم وأحزانهم، وأن يسعوا في حاجات بعضهم البعض ما وسعهم إلى ذلك سبيل.
رابعاً: الإيثار
ونقصد بالإيثار : أن يقدم العاملين للإسلام ــ الواحد منهم ــ أخاه على نفسه في كل ما يحب، فيسهرلينام إخوانه ويجتهد ليرتاح أخوه ويجوع ليشبع ويظمأ ليرتوي، و يضع روحه على أكفه ليفدي أخاه المسلم .
لقد مدح الله تعالى الأنصار في أخوتهم الصادقة للمهاجرين في قوله تعالى: (والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قلوبهم يحبون من هجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)( ).
بالآتي:
(أ) تقديم حقوق الجماعة على حقوق الأفراد، ومن ثم إيثار حق الأمة على حق الفرد بما يحقق مصلحة كبرى في دفع مفسدة عظمى.
(ب) تقديم أولوية الولاء لله وللرسول وللجماعة على الولاء للون أو الجنس أو القبيلة أو الفرد.
(ج) تصويب العزائم والهمم نحو القضايا الكبيرة عالمياً وإقليميا بدلاً من الانغلاق في حدود المحلي والوطني.
(د) توطيد العلاقات بين الجماعات الإسلامية جلباً للتعاطف والتناصر مع تقوية خطوات النفوس وذوات أفراد العمل الإسلامي.
خامسا: التكافل الاجتماعي بين العاملين في الصحوة الإسلامية :
والتكافل له جانبان: جانب مادي وآخر، والذي نقصد به هنا: التكافل المعنوي بين الجماعات العاملة لخدمة الإسلام ، ويتمثل في التعاون الدعوي والإصلاح الفكري بين العاملين للإسلام لإحقاق الحق وإقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يتمثل بالإرشاد والتوجيه والنصح بين العاملين في الحقل الإسلامي، وقد جعل الإسلام هذا النوع من التكافل فريضة على كل مسلم، فقال الله تعالى: (ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)( )، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ((الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))( ).
يقوم هذا التكافل عملياً على الآتي:
(1) الاستفادة من ذوي الخبرات العالية والكفاءات العلمية عند بعض منسوبي العمل الإسلامي من قبل قليلي الدراية في الصف الإسلامي.
(2) تقديم النصح والإرشاد عند ظهور بوادر الخلاف بين العاملين لخدمة الإسلام.
(3) عقد الاجتماعات الدورية والمؤتمرات الفصلية لمراجعة العمل الإسلامي وتطوير أداء العاملين للإسلام وتحديد مواثيق اللقاء والاتفاق وأدب الاختلاف بين الجماعات الإسلامية
المطلب الثالث
عوامل الوقاية من التفرق و علاجه
اولا : العوامل الفكرية :
1 :تعدد الجماعات تكامل لا تعارض : لا شل أن الجماعات العاملة الإسلام متعددة و منطلقاتها في العمل قد تختلف ، إلا أن هذه التعددية لها جوانب نافعة ، لأن فروض الكفاية ومصالح الأمة اليوم لا يمكن أن يقوم بها فرد أو جماعة من الجماعات مهما أوتيت من القدرات والطاقات بعد أن عبثت بهذه الفروض والمصالح عوامل عديدة منها عجز علماء الأمة ، وجهل أبنائها ، وتآمر حكامها ، وتكالبُ أعدائها في الداخل والخارج .
وفي سبيل القيام بهذه الفروض ، والنهوض بهذه المصالح لا بد من توزيع المهام والأدوار ، وقيام كلٍ بدوره وفق مجاله وتخصصه ضمن الإطار العام لأهل السنة والجماعة ، فكما أن كل جماعة لها عناصرُ توزعها على العمل حسب اختصاصها وكفاءتها ، فإن هذه الجماعات المتعددة هي بالنسبة إلى الجماعة الكبرى -جماعة أهل السنة والجماعة- بمثابة تلك العناصر في جماعاتها الصغيرة .
إن الثغرات المطلوب سدها والفروض المتعين القيام بها عديدة وكبيرة تتطلب جهد الجميع وطاقات الكل ، فلنحسن توظيف ما لدينا من طاقات وجهود وتوزيعها على تلك الثغرات والفروض ، فلدينا جماعات ذاتُ باعٍ وتاريخ حسن في نشر العقيدة الصحيحة ومحاربة البدع بين المسـلمين ، فلتقف هذه الجماعات على هذا الثغر الذي لا تخفى أهميته وأولويته ، ولدينا جماعات ذات تجربة وكفاءة في المجال الدعوي وانتشال العصاة من أوكار المعاصي إلى رحاب الطاعة والهداية فلتواصل عملها وبذل جهودها في هذا المجال ، ولدينا جماعات أخرى برعت في الرد على الأفكار الهدامة وفضح مخططات وأساليب الأعداء وتقديم الإسلام في صورته الشاملة الكاملة التي تضمن سعادة الدنيا والآخرة ، فلتلتزم هذه الجماعات بما التزمت به في هذا المجال ، ولدينا جماعاتٌ أخرى لها القدرة على العمل السياسي والتخطيط وبث الوعي الحركي بين المسلمين، وهذا مجالٌ مهم إذا ما ضُبِط بالضوابط الشرعية ، وتُجُنِبَت المفاسد المترتبة عليه ، فلْتُواصل هذه الجماعات وقوفها على هذه الثغرة .
2 : إلتزام الجماعات بضوابط وحدة الصف : يضيق الخلاف و تنتفي الفرقة إذا التزمت هذه الجماعات أو تقيدت - في ممارساتها لبرامج العمل الإسلامي المتنوعة - بوحدة الأصول المعتقد عند أهل السنة والجماعة في أبواب المعتقد المختلفة ، ووحدة منهج التلقي عنهم ، والوحدة في الهدف ، وكذلك الوحدة في ضبط الوسـائل بالضوابط الشرعية .
3 : ضبط الخلاف بمنهج السلف: أن الحَكَمَ عند التنازع والخلاف هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفق فهم السلف الصالح وإجماع الأمة ، وكل ما سوى ذلك فمنه مقبولٌ ومردود قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا } ومع ذلك فإنه ستبقى خلافاتٌ مستقرة لا تُحسَمُ ، إما لأنها لم يرد بشأنها دليلٌ خاص يرفع النزاع ، أو ورد دليل واختلفت فيه الأفهام ، أو لأنها تعارضت فيها الأدلة أو غاب بعضها عن بعضِ الأطراف واطلع عليه بعضٌ آخر ، أو غير ذلك من أسباب الخلاف ، وكثيرٌ من قضايا العمل الإسلامي المعاصر هي من هذا الباب الذي لا يضر الخلاف فيه ، بل ينبغي فيه التغافر والتسامح مع النصح المستمر والاستعداد لقبول الرأي الراجح ، وتجاوز الأخطاء والسلبيات ، و يجب التفريق بين الثوابت والقطعيات التي هي محل إجماع ، والمسائل الاجتهادية التي هي محل نزاع ، فالأولى لا يُقْبَلُ فيه الخلاف ولا يسوغ ، والثانية تُقبَلُ فيها الاجتهادات وتعدد وجهات النظر ، ولا يمكن إلزام المخالف فيها برأي لم يتبين له رجحانه ، كماأنه لا بد من إحياء روح النقد البنّاء والاستعداد لقبول هذا النقد في جوٍ من رحابة الصدر ، وأدب الخلاف ، وروح العدل والإنصاف .
ثانيا : العوامل الإيمانية و السلوكية :
1: ضبط النفس: ومن االعومل التي تؤدي الى الوقاية من التفرق و تعين على وحدة الصف المسلم ضبط النفس عند حدوث الخلاف بين الجماعات العاملة لخدمة الإسلام، فهو يمنع العاملين للإسلام من القطيعة والجفوة، كما أن ضبط النفس دليل اكتمال العقل الإسلامي، وصفة أهل التقوى. قال تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنةٍ عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصُّرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)).
ومن فوائد ضبط النفس الآتي:
• : التسامي فوق الصراعات الداخلية بين أفراد العمل الإسلامي، والابتعاد عن مواطن الخلاف، وردم الفجوات التي ينفذ من خلالها أعداء الأمة الإسلامية.
• : التنزه عن اللغو والثرثرة الجالبين لغضب الله، ومحق بركة العمل الإسلامي.
3: تجاوز حظوظ النفس القاعدة بالعاملين لخدمة الإسلام عن مواجهة التحديات العقدية والفكرية المفروضة من قبل النظام العالمي الجديد.
• : توجيه الطاقات الفكرية والدعوية إلى البناء والتكتل ضد الهجمة الصليبية اليهودية التي تخطط لتحرير شهادة وفاة جماعة المسلمين في كل مكان.
2: إصلاح ذات البين: لا تقل أهمية المسارعة في إصلاح ذات البين بين العاملين في الحقل الإسلامي عن أهمية المسارعة إلى الصلاة وغيرها من العبادات. ولأهمية إصلاح ذات البين وفعاليتها في تقوية الروابط الأخوية، جوّز بل أوجب الإسلام استخدام القوة في المحافظة على الكيان العام للجماعة المسلمة، وإبقاءً لعلاقات المودة والإخاء. يقول الله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)( ).
إن ديننا جعل الكلمة الطيبة صدقة، فهي توحِّد شتات الأمة، وتجمع صفهم، وترأب الصدع، وفوق ذلك فهي من الخير الذي يتقرب به إلى الله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً)( ).
إن الإسلام أعلن براءته من المفرقين؛ لأن الفرقة قاضية على الدين والدنيا معاً، قال تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)( )، وقال تعالى: (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزبٍ بما لديهم فرحون)( ).
3 : سلامة الصدر وخفض الجناح: إذا كان التواضع وخفض الجناح ولين الجانب قيماً مطلوبة من أفراد المجتمع الإسلامي لمكانتها في توطيد العلاقات، ورد الخصومات وردم هوة النزاعات، فهي أوجب بين أصحاب العمل الإسلامي وأفراد الجماعات العاملة للإسلام، فإن ما يناقض ويضادّ هذه القيم مثل الكبر والخيلاء، والعجب بالرأي، والاستبداد بالفكر، تغرس الفرقة والعداوة فضلاً عن أنها تحول دون إصلاح الصف الإسلامي، والله تعالى يقول: (واخفض جناحك للمؤمنين)( )
إن ضيق الأفق في فهم الدين وفهم الواقع وفهم السنن الكونية والاجتماعية، مع استعجال الأشياء قبل أوانها، كل هذا يولد جفوة منه تجاه إخوانه الآخرين، ورفضاً لأفكارهم وآرائهم، الأمر الذي يحدث خصومة بين العاملين في الحقل الإسلامي، وفراغاً يستغله الآخرون فيعملون في عقول أبناء الأمة ما لا تفعله آلاف المدافع في بلاد المسلمين، وعليه فليترك العاملون في الحقل الإسلامي صراعاتهم الفكرية جانباً، وليخفضوا الجناح لإخوانهم جميعاً، وليتصفوا بسلامة الصدور ولين الجانب، وليُعملوا فقه الاختلاف وأدبه على قاعدة التعاون في المتفق عليه، والتسامح في المختلف فيه( ).
المبحث الثالث
المطلب الأول
التثبت من الأخبار
أولا : ضرورة التثبت من الأخبار :
لا شك أن تلقي الأخبار يترتب عليه أمورا عظاما وقرارات مهمة ومن ثم كان الواجب على الأمة المسلمة قيادة وجماعات وأفراد أن تتبين وتتثبت قبل أن تتصرف بناء على هذه الأخبار ، وهذا ليس على سبيل الندب وإنما هو واجب شرعي لقوله تعالى :" وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" ،
وهناك ملامح في التعامل مع الأخبار نسوقها باختصار:
1) التأني والتروي : يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (التأني من الله و العجلة من الشيطان).
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
2) التثبت في الأخبار : قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين َ) وفي قراءة (فتثبتوا) .
ثانيا : الإشاعة و أثرها على وحدة الصف :
الإشاعات هي وسيلة البلبلة الفكرية و النفسية في الحرب و السلم ، والمفتاح الى تغيير اللعب بالعقول ثم السيطرة و التحوير الفكري ، و غسل الدماغ . وهي سلاح يستعمل للسيطرة على الاتجاهات الشعبية و زعزعة الوحدة الفكرية و الإنتماء و التماسك الإجتماعي .
و الهدف من الإشاعة إحداث حرب نفسية شرسة ضد العالم الإسلامي عامة والحركة الأسلامية خاصة ، وذلك من منطلق كوننا حَمَلة الرسالة الخاتمة التي أراد الله لها أن تظهر على الدين كله ، و لكوننا أصحاب أعظم ثروات يُنتظر لأصحابها ان هم تحركوا في الاتجاه السليم أن يسودوا العالم و لذلك شنت هذه الحرب لتهديم النفوس و شل الارادات و تمييع العزائم ، ليبقى الشعور بالتبعية و الهزيمة الروحية و الفكرية ، و ليبقى الشباب و المفكرون و السياسيون لاهثين وراء المعسكرات ، و هم لو صحت منهم النوايا كانوا السادة و القادة ، و جاءتهم الامم تقبس منهم و تلتمس الهدى و النور
و الدعاة الى الله في العالم الإسلامي هم رأس الحربة ، و الطليعة التغييرية ، و لذلك جردت لهم وحدهم حملة مركزة من هذه الحروب ، و اُطلقت من حولهم الإشاعات تبغي تشويه صورتهم ، فلا يعودون يمثلون دور الريادة الفكرية ، و لقد نجح الأعداء في الجولة الاُولى لهذه الحرب ، إلا أن حدة الهجمة بدأت تنكسر ، و ينعكس المد لصالح الدعاة .
ثالثا:أمثلة لخطر الإشاعة في العهد النبوي
ولقد سطَّر التاريخ خطر الإِشاعة إذا دبت في الأمة ومنها ما يأتي:
1- لما هاجر الصحابة من مكة إلى الحبشة وكانوا في أمان ، أُشيع أن كفار قريش في مكة أسلموا فخرج بعض الصحابة من الحبشة وتكبدوا عناء الطريق حتى وصلوا إلى مكة ووجدوا الخبر غير صحيح ولاقوا من صناديد قريش التعذيب . وكل ذلك بسبب الإِشاعة .
2- في غزوة أحد لما قتل مصعب بن عمير أُشيع أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل : قُتل رسول الله فانكفأ جيش الإِسلام بسبب الإِشاعة ، فبعضهم هرب إلى المدينة وبعضهم ترك القتال .
3- إشاعة حادثة الإِفك التي اتهمت فيها عائشة البريئة الطاهرة بالفاحشة وما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه من البلاء، وكل ذلك بسبب الإِشاعة.
المطلب الثاني
التأني في الأحكام
أولا: الاستعجال في إصدار الأحكام طريق الخطأ :
فالاستعجال في إصدار الأحكام تصرف يوقع صاحبه في الزلل والخطأ، ولذا جاء الشرع بالأمر بالتثبت والتبين كما قال تعالى: ( يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَينُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) . ، وقال: ( يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَينُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا")
عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال التأني من الله والعجلة من الشيطان عن بن عباس رضى الله تعالى عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا تأنيت وفي رواية المعاذي والشعيبي والهروي إذا تبينت أصبت أو كدت تصيب وإذا استعجلت أخطأت أو كدت تخطىء ، عن بن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأشج أشج عبد القيس إن فيك لخلتين يحبهما الله الحلم والأناة ، عن أبي سعيد الخدري رضى الله تعالى عنه أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث قال فيه ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس إن فيك خصلتين يحبهما الله عز وجل ورسوله الحلم والأناة
ثانيا:أخطار التكفير بغير حجة:
وأعظم من ذلك وأخطر، الإقدام على التكفير أو التفسيق بغير حجة يعتمد عليها، من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا من الجرأة على الله وعلى دينه، ومن القول عليه بغير علم، وهو خلاف طريقة أهل العلم والإيمان من السلف الصالح رضي الله عنهم وجعلنا من أتباعهم بإحسان.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (من دعا رجلا بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه )
أي: رجع عليه ما قال وهذا وعيد شديد يوجب الحذر من التكفير والتفسيق، إلا عن علم وبصيرة، كما أن ذلك وما ورد في معناه يوجب الحذر من ورطات اللسان، والحرص على حفظه إلا من الخير .
المطلب الثالث
التكتم على الأسرار
أولا: منهج الإسلام في التربية على المحافظة على الأسرار :
كل ذلك من منهج الإسلام في تربية المسلمين على الأمن والمحافظة على الأسرار، ومن المبادئ المعروفة أن الأمة التي تكتم أسرارها هي الأمة التي يمكن أن تنتصر، والأمة التي لا تكتم أسرارها هي الأمة التي لا يمكن أن تنتصر، وما يقال عن الأمة يقال عن الأفراد ؛ لأن الأمة تتكون من أفراد .
واللسان الذي هو نعمة من نعم الله على عباده، يستطيعون بها التعبير عن آرائهم وتبادل المنافع مع الناس، هو وسيلة للخير والسعادة في الدنيا والآخرة إذا أحسن استعماله، كما أنه سبب قوي للشر والشقاء في الدارين إذا أسيء اسـتعماله، فهو سلاح ذو حدين يمكن به النفع ويمكن به الضر .
والقرآن الكريم ينبئ بأن كل لفظ من الإنسان مسجل عليه، فيقول الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} فالكلمة أمانة عظمى لها مكانتها في الإسلام، وتقدير أمرها والتدبر فيها قبل التلفظ بها مرتبط بالإيمان كما يفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) .
وإفشاء الأسرار التي تعود على الأفراد والأمم بالأضرار من الكلام الذي لا يرضاه الله تعالى، وكذلك كل كلام فيه سعي بالفساد مندرج تحت الكلمة الخبيثة. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله - ما يظن أن يبلغ ما بلغته- فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن ليتكلم بالكلمة من سخط الله - ما يظن أن يبلغ ما بلغته- فيكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه ) ، وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال: (قل ربي الله ثم اسـتقم) قال: قلت يا رسـول الله، وأخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: (هذا ).
ثانيا كتمان الأسرار من الحذر والفطنة:
وينبه الإسلام إلى اليقظة والحذر كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } وكما في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( المؤمن كيِّس فَطِن ) ، فاليقظة والحذر والوعي والفطنة كلها تدفع إلى كتمان الأسرار التي جعلها الله أمانة من الآمانات التي يجب على المسلمين أن يحافظوا عليها كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ألا لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ) وقال أيضا: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وقال: (إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهو أمانة). وقال: (إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة، ولا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره) وقال: (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع )
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان، فسلم علينا، فبعثني في حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جاءت قالت: ما حبسك؟ (أي ما أخرك؟) فقلتك بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ، وقال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله: " إني أرى هذا الرجل - يعني عمر بن الخطاب - يقدمك على الأشياخ - يعني كبار الصحابة- فاحفظ عني خمسا: لا تفشين له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا يجربن عليك كذبا، ولا تعصين له أمرا، ولا يطلعن منك على خيانة " .
وهكذا كان الصحابة - رضوان الله عليهم- وهكذا كان أجدادنا الأوائل يعلّمون أولادهم المحافظة على السر، وهي من ألزم الأمور لسلامة الأمة وأمنها .
ثالثا :: عناية المدرسة الإسلامية بالمحافظة على الأسرار :
والواقع أن المدرسة الإسلامية عنيت بالأمن والمحافظة على الأسرار، أشد العناية ووضعت لهما المبادئ والأصول والأساليب، وأثبت تاريخ صدر الإسلام أن من أسباب انتصار المسلمين على أعدائهم الكثيرين أن أسرار النبي صلى الله عليه وسلم، وأسرار المسلمين كانت مصونة وبعيدة عن متناول الأعداء، في الوقت الذي كان النبي - صلوات الله وسلامه عليه - يطّلع على نيات أعدائه العدوانية عن طريق عيونه وأرصاده - رجال مخابراته - قبل وقت مبكر، فيعمل من جانبه على إحباط ما يبيتونه للإسلام من غدر وخيانة ودسائس .
كذلك لم يستطع المشركون وأعداء الإسلام أن يباغتوا قوات النبي صلى الله عليه وسلم في الزمان والمكان وأسلوب القتال، بينما استطاع - صلوات الله وسلامه عليه - أن يباغت أعداءه في معظم غزواته وسراياه ، ولذلك لم يرد في تاريخ صدر الإسلام حوادث خيانة أو تخابر مع العدو إلا في حادثة حاطب بن أبي بلتعة في فتح مكة وهي حادثة واحدة واعتذر منها صاحبها .
رابعا دروس علمية من هدي النبي صلى الله عليه وسلم:
والدروس العلمية التي يستطيع المسلمون أن يتعلموها من النبي صلى الله عليه وسلم في مجال السرية والأمن أكثر من أن تحصى ، فلقد كان من أسباب نجاح الدعوة الإسلامية أن رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - بدأ سراً ولما شاهد علي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هو وخديجة رضي الله عنها، قال: يا محمد ما هذا؟ قال: دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله. فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وأن تكفر باللات والعزى.. فقال علي: هذا أمر لم أسمع به من قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب - أي أباه - لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كره أن يفشي سر الدين قبل أن يستعلن أمره فقال له: يا علي إذا لم تسلم فاكتم. فامتثل علي للأمر، حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الصباح التالي وأعلن إسلامه وكتم ذلك عن أبيه ولم يظهره ، ولقد كانت هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة من أعظم الدروس في السرية والأمن والكتمان حتى بلغ المدينة بسلام .
وقد أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله المشهور: " ليس كل ما يُعلم يقال، ولا كل ما يقال حضر أهله، ولا كل ما حضر أهله حان وقته " ، وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: " ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى "
ومن الأمثلة العلمية في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد تأديب بني لحيان، الذين غدروا بدعاة المسلمين - وكان هؤلاء الدعاة ستة من كبار الصحابة- أظهر أنه يريد الشام. وتحرك فعلا بقواته شمالا، فلما اطمأن إلى انتشار أخبار تحركه إلى الشمال باتجاه الشام، عاد راجعا باتجاه مكة مسرعاً في حركته حتى بلغ منازل بني لحيان .
وفي غزوة الخندق جاء نعيم بن مسعود الغطفاني - وكانت غطفان من القبائل التي انضمت إلى قريش للقضاء على المسلمين - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه أسلم ولا يعلم قومه، وطلب منه أن يأمره بما يشاء، فقال الرسول : ( إنما أنت رجل واحد، فخذّل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة ) ، فقام نعيم بمهمته خير قيام، ونجح في التفريق بين القوى الثلاث التي تجمعت لقتال المسلمين - قريش، والقبائل العربية ومنها قبيلته غطفان، ويهود بني قريظة - ، وكان مما ساعد على نجاح مهمته مراعاة الأمن والسرية ، لقد كتم النبي صلى الله عليه وسلم إسلام نعيم، وكتم نعيم إسلامه، فلم يعرف قومه ولا بنو قريظة ولا قريش عن إسلامه شيئا، فلولم يطبق الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ السرية والأمن، ولم لم يطبقه نعيم، فهل كان بإمكان نعيم أن يقوم بهذا الدور الحاسم في تفرقة صفوف الأحزاب ونزع الثقة من نفوسهم؟ .
وقد ابتكر الرسول صلى الله عليه وسلم " الرسالة المكتومة " مراعاة للسِّرِّية والأمن، وحرمان أعداء المسلمين من الحصول على المعلومات التي تفيدهم عن تحركات المسلمين وأهدافهم،فقد بعث - صلوات الله وسلامه عليه - سَرِيَّة من المهاجرين، قوامها اثنا عشر رجلا بقيادة عبد الله بن جحش الأسدي في مهمة استطلاعية في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة، وسلمه رسالة (مكتومة) تحتوي على تفاصيل المهمة من حيث الهدف منها ومكانها وغير ذلك من التعليمات، وأمره ألا يفتحها إلا بعد أن يسير يومين .
وتعتبر غزوة فتح مكة من أروع الأمثلة التاريخية في مجال السرية والأمن والكتمان: إن أقرب المقربين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صاحبه أبو بكر الصديق، أول من أمن به كما أن عائشة بنت الصديق أبي بكر كانت أحب نسائه إليه فقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قالوا: إنما نعنى من الرجال، قال: أبوها ، ومع ذلك كانت عائشة لا تفشي لأبيها شيئا من سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر الصديق وابنته عائشة لا يعلمان من أسرار غزوة الفتح إلا قليلا .
ولقد احتوت غزوة الفتح على الكثير من إجراءات الأمن التي كان لها أكبر الأثر في تحقيق المفاجأة الكاملة وفتح مكة بلا قتال .
الخاتمة
عرفنا التثبت بأنه: استفراخ الوسع و الجهد لمعرفة صدق ما يتلقى من خبر فيقبله وصحة وقائع وظروف وملابسات الأحكام فيصدرها وخطورة ما يصله من أسرار فيكتمها، حرصا على وحدة الصف و تأمينا للدعوة ومن ثم جعلنا التكتم على الأسرار وحفظها من التثبت ، رأينا أن للتثبت وسائل وعددنا منها، الرجوع إلى الكتاب و السنة و إلى أهل الاختصاص، والسؤال و المناقشة، و الخبرة السابقة والمواجهة بين الطرفين ، وأن من أسباب عدم التثبت العاطفة الجياشة و الحماس الجارف و الاغترار بزخرف القول والتعلق بالمتاع الزائل و الجهل بوسائل وطرق التثبت ، وان علاج التثبت يكمن في تقوية ملكة التقوى ومعايشة الكتاب والسنة من خلال الآيات والأحاديث المتعلقة بالتثبت و دوام النظر في سيرة وأخبار السلف المتخلقين بهذا الخلق
وأن وحدة الصف واجبة والفرقة حرام وقد دل القرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين على ذلك وأن من وسائل وحدة الصف: الارتباط برباط العقيدة:و الشعور المتنامي بشراسة استهداف العدو لكل ما هو إسلامي المحبة و التآخي في الله تعالى و الإيثار و التكافل الاجتماعي بين العاملين في الصحوة الإسلامية ، وأن من عوامل الوقاية من التفرق و علاجه اعتبار أن تعدد الجماعات تكامل لا تعارض و التزام الجماعات بضوابط وحدة الصف ضبط الخلاف بمنهج السلف و ضبط النفس و إصلاح ذات البين وسلامة الصدر وخفض الجناح
و أن من صور من التثبت التي تؤثر على وحدة الصف التثبت من الأخبار و التأني في الأحكام التكتم على الأسرار .
المراجع
1. القرآن الكريم
2. موسوعة الحديث النبوي الشريف الصحاح و السنن والمسانيد إنتاج موقع روح الإسلام Islam sprit.com
3. برنامج القرآن الكريم مع التفسير إنتاج موقع روح الإسلام Islam sprit.com
4. سالم السعدي : http://www.alwatan.com/graphics/2004/01Jan/13 .1/dailyhtml/deen.html#top
5. الشيخ محمد بن صالح المنجد من علماء السعودية http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?cid=1112477408679&pagenam
6. المنهاج (النووي) شرح صحيح مسلم
7. سيد قطب، في ظلال القرآن
8. الشيخ جاسم مهلهل الياسين، رسائل شباب الدعوة
9. د. علي محمد علوان الأستاذ بكلية الدراسات الإسلامية والقرآنية جامعة الرباط الوطني وسائل تؤدي إلى الاتفاق ووحدة الصف
10. د. يوسف القرضاوي في فقه الأولويات: القاهرة، ط 1965م
11. محمد أحمد النابلسي سيكولوجيـة الشائعــة– مركز الدراسات النفسية و النفسية الجسدية 2004
12. مجلة منار الإسلام العدد 10 السنة 9 بقلم الأستاذ: محمد جمال الدين محفوظ
وأثره على وحدة الصف
دراسة من خلال الكتاب و السنة
محمد أحمد أبوغدير
مقدمة
الحمد لله و اشهد أن لا إله إلا الله و أ ن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم
وبعد
قد تطرب الأذن للعبارات الخلابة والألفاظ المنمقة فيغتر المرء ببريقها وزخرفها فيعتقد أنها الحق فينشرها كخبر أو يعرضها كرأي أو يبني عليها حكما دون أن يقيسها بميزان العقل أو يضبطها بقواعد الشرع ، و يثبت له بعد ذلك زيف العبارات المنقولة إليه وكذب ناقلها فيندم على فعله ولكن هيهات هيهات و قد ألبس الحق بالباطل أو اتهم الأبرياء بغير علم أو أفتى في مسألة بغير فقه .
وقد تدفع العاطفة الإسلامية الجياشة أو الحماس المتأجج بعض العاملين الملتزمين في الصف الإسلامي فتصنعان غشاوة على عيونهم وعقولهم وتسلباهم الإدراك ، وتوديا بهم إلى الخطأ فيحكمون علي المخالفين لهم في الرأي بالفسوق أو الكفر ، فيفسدون من حيث يظنون أنهم يصلحون و يصدون الناس عن الحق ويصرفون الخلق عن الصف .
ولقد ابتليت الأمة الإسلامية بصنفين من الناس الأول : مسطحو الفكر والعلم الذين لا يقدرون المواقف ولا يزنون الأعمال ولا يدركون الواقع يحكمون على الأشياء والأشخاص دون دراية بالأدلة ومراميها والأسانيد وصحتها والمصالح كحاطب ليل يهذي بما لا يدري ، والثاني مرضى التدين : الذين يزعمون كمال الفقه و العمل و يجهلون الغير ويفسقونهم و يكفرونهم ، هؤلاء الناس الذين افتقدوا التأني و التريث والروية فقبلوا الرواية و أصدروا الأحكام قبل التثبت و التبين الوقوف على صحة الخبر والفهم الدقيق لواقع وملابسات هذه الأحكام وتلك التصورات وكم تأثر الصف المسلم و تصدع من جراء أفعال هؤلاء .
و بناءَ على ما تقدم تأتي أهمية بحت ودراسة موضوع التثبت وأثره على وحدة الصف ، فإن الأمور المشكلة غير الواضحة يحتاج الإنسان إلى التثبت فيها والتبين ، هل يقدم عليها أم لا ؟ فإن التثبت في هذه الأمور ، يحصل فيه من الفوائد الكثيرة ، والكف عن شرور عظيمة ، فإنه به يعرف دين العبد وعقله ورزانته ، خلاف المستعجل للأمور في بدايتها ، قبل أن يتبين له حكمها ، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه ، وفي التثبت حماية وأمان للصف المسلم والحفاظ على وحدته حول الثوابت والمصالح العليا التي أكد عليها الوحي ورتب عليها حدودًا وكفارات وقصاصًا وتبعات في الدنيا والآخرة .
وبعد أن استعنت بالله الكريم قسمت موضوع البحث إلى ثلاثة عناصر, الأول عن التثبت من حيث تعريفه و مشروعيته وحكمه ووسائله و أسباب عدم التثبت وعلاجه ، والثاني حول وحدة الصف ووجوب الوحدة ووسائلها وعوامل الوقاية من الاختلاف ، والثالث عن صور التثبت وأثرها على وحدة الصف وهي التثبت من الأخبار و التأني في الأحكام و التكتم على الأسرار ، وموضوع البحث بعناصره السالف الإشارة إليها يحتاج إلى جهد مضن ووقت متسع ومن ثم قد تعذر علي التعمق فيه وكان منهجي في الدراسة إن أحدد لكل موضوع عناصره وأبحث عن كل عنصر في القرآن الكريم وتفسيره والسنة المطهرة وشروحها وقليل من المراجع المعاصرة وعليه تكون الدراسة في حاجة إلى تعمق وتوسع وخاصة في مجال فقه الدعوة ، وأسأل الله تعالى أن يجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم وأن يكتبه في ميزان حسناتي وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب .
المبحث الأول
التثبت
المطلب الأول
تعريف التثبت و مشروعيته و حكمه
أولا: تعريف التثبت:
التثبت : كلمة لم ترد بين دفتي المصحف الشريف الذي يبدأ بسورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس والمنقول الينا بالتواتر ، وإنما أورد القرطبي وغيره في كتب التفاسبر : أن حمزة والكسائي قرءا كلمة ( فتثبتوا ) بدلا من كلمة ( فتبينوا ) الواردتين في سورتي : النسـاء الآية 94 و الحجرات الآية 6 و من ثم فإن التثبت يعني التبين .
و قد عرف البعض التثبت في اللغة بأنه : التأني في الحكم على الشيء و طلب الدليل، و فحص وتأمل هذا الدليل ، و في الاصطلاح الإسلامي والدعوي:هو التأني والتريث، في كل ما يمس المسلمين و الناس جميعًا من أحكام أوتصورات، والفهم الدقيق لواقع و ظروف و ملابسات هذه الأحكام وتلك التصورات، قبل تناقلها وتداولها.
وعرفها البعض بأنها: تفريغ الوسع والجهد لمعرفة حقيقة الحال ليعرف أيثبت هذا الأمر أم لا .
إلا أنني أرى تعريفا ثالثا لكلمة التثبت يشمل التعريفين السابقين هو : استفراغ الوسع والحهد لمعرفة صدق مايتلقى من خبر فيقبله وصحة وقائع وظروف وملابسات الأحكام فيصدرها وخطورة ما يصله من أسرار فيكتمها ، حرصا على وحدة الصف و تأمينا للدعوة
ثانيا : مشروعية التثبت :
التثبت مشروع بموجب القرآن الكريم و السنة المطهرة .
فمن القرآن الكريم : قول الله تعالى:"يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَينُوا َنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ"
الأصل في التثبت العموم سواء كان الناقل ثقة أو فاسقاً للآية السابقة وقد نزلت في حق صحابي من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام وهو عقبة بن الوليد ولا تدل الآية على تفسيق أحد منهم رضوان الله عليهم لكون النبي عليه الصلاة والسلام شهد لهم بالعدالة وهذا من الأمور المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة .
وقال تعالى : ( يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين ، إذا خرجوا جهادا في سبيله ، وابتغاء مرضاته ـ أن يتبينوا ، ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة . فإن الأمور قسمان : واضحة وغير واضحة . فالواضحة البينة ، لا تحتاج إلى تثبت وتبين ، لأن ذلك ، تحصيل حاصل . وأما الأمور المشكلة غير الواضحة ، فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين ، هل يقدم عليها أم لا ؟ فإن التثبت في هذه الأمور ، يحصل فيه من الفوائد الكثيرة ، والكف عن شرور عظيمة ، فإنه به يعرف دين العبد ، وعقله ، ورزانته . بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها ، قبل أن يتبين له حكمها ، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي . كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية ، لما لم يتثبتوا ، وقتلوا من سلم عليهم ، وكان معه غنيمة له أو مال غيره ، ظنا أنه يستكفي بذلك قتلهم ، وكان هذا خطأ في نفس الأمر . تفسير السعدي
وقال تعالي في شان الذين خاضوا في الإفك دون أن يتثبتوا: ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ )
لأن من المعلوم بداهة أن التلقي إنما يكون بالأذن، ثم يعرض على العقل والقلب، وحينئذ يكون الكلام باللسان، أو عدم الكلام فإذا ما عبّر القرآن الكريم بأن التلقّي إنما كان باللسان، فإنما هي لفتة إلى السرعة، وعدم التروي في إصدار الحكم، بل في تداوله والتحرك به، كأن الإفك عندما وقع من ابن سلول صمت الآذان، وسترت العقول، وغلّفت القلوب، فلم يبق إلا أن لاكته الألسن، وتحركت به الشفاه، دون فهم للواقع، ودون معرفة بالظروف والملابسات .
و من السنة المطهرة : ما روي عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : التأني من الله والعجلة من الشيطان ، وعن بن عباس رضى الله تعالى عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا تأنيت وفي رواية المعاذي والشعيبي والهروي إذا تبينت أصبت أو كدت تصيب وإذا استعجلت أخطأت أو كدت تخطىء ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( "بئس مطية الرجل: زعموا )
قال الخطابي شرحا لهذا الحديث : "إنما يقال "زعموا" في حديث لا سند له ولا تثبت فيه، وإنما هو شيء يُحكى على الألسن على سبيل البلاغ ، فذم صلى الله عليه وسلم من الحديث ما كان هذا سبيله وأمر بالتثبت فيه والتوثق لما يحكيه من ذلك فلا يرويه حتى يكون مَعْزِيا إلى ثبت ومرويا عن ثقة" . ولقوله صلى الله عليه وســلم: ( كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سـمع ) .
وعن سمرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله عليه وسلم : ( من حدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ) . ، وعن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوما، لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر: فإن سمع أذانا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم. قال: فخرجنا إلى خيبر، فانتهينا إليهم ليلا، فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب وركبت خلف أبي طلحة، وإن قدمي لتمس قدم النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد والله، محمد والخميس، قال: فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الله أكبر، الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).
و كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم إذا سألهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء لا يعلمونه قالوا: الله ورسوله أعلم وما ذاك إلا لتعظيمهم لله عز وجل وتقديرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعدهم عن التكلف، ومن هذا الباب وجوب التثبت ، و من ثم فالواجب على المسلمين التثبت، وعدم المبادرة بالتصديق أو التكذيب أو الحكم إلا بعد الحصول على المعلومات الكافية، التي يستطيع المسلم أن يعتمد ويطمئن إليها في قول أو رأى او حكم .
ثالثا : الحكم الشرعي للتثبت :
قول الله تبارك وتعالى ( فَتَبَيَّنُوا ) الذي ورد في الآيتين الكريمتين من سورتي الحجرات والنور السالف ذكرهما جاء بصيغة الأمر ، وقد اتفق الأصوليون على أن الأمر يفيد الوجوب ما لم توجد قرينة تصرفه الى المندوب أو الى المباح و قد انتفت هذه القرائن ، بل إن كافة النصوص السلف الإشارة اليها في بيان مشروعية التثبت تقطع بوجوب التثبت.
و قد ذكر الإمام البغوي في تفسيره لقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) يأمر تعالى عباده المؤمنين ، إذا خرجوا جهادا في سبيله ، وابتغاء مرضاته ـ أن يتبينوا ، ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة . فإن الأمور قسمان : واضحة وغير واضحة . فالواضحة البينة ، لا تحتاج إلى تثبت وتبين ، لأن ذلك ، تحصيل حاصل . وأما الأمور المشكلة غير الواضحة ، فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين ، هل يقدم عليها أم لا ؟ فإن التثبت في هذه الأمور ، يحصل فيه من الفوائد الكثيرة ، والكف عن شرور عظيمة ، فإنه به يعرف دين العبد ، وعقله ، ورزانته . بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها ، قبل أن يتبين له حكمها ، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي . كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية ، لما لم يتثبتوا ، وقتلوا من سلم عليهم ، وكان معه غنيمة له أو مال غيره ، ظنا أنه يستكفي بذلك قتلهم ، وكان هذا خطأ في نفس الأمر ، فلهذا عاتبهم بما ورد في تلك الآية .
المطلب الثاني
وسـائـل التـثـبـت
اولا : الرجوع إلى الكتاب و السنة و إلى أهل الإختصاص :
الوسيلة الأولى التي ينبغي أن يسلكها المرء للوصول الي التثبت و التبين هي اللجوء الى الكتاب والسنة فهما معا المرجع الأول لكل مسلم للوصول الى الحق وبعدهما الرحوع الى أولو الأمر وهم أهل العلم والفقه
لذلك قال الله تعالى:( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الامْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الامْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)
والمعنى كما ذكره الإمام القرطبي في تفسيره أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم "أو الخوف "وهو ضد هذا أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته. وكان هذا من ضعفة المسلمين؛ ؛ لأنهم كانوا يفشون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويظنون أنهم لا شيء عليهم ، وقيل: هو في المنافقين فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب في الإرجاف ، وقوله تعالى: "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم" أي لم يحدثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به ويفشيه. أو أولو الأمر وهم أهل العلم والفقه؛ عن الحسن وقتادة وغيرهما. السدي وابن زيد: الولاة. وقيل: أمراء السرايا. "لعلمه الذين يستنبطونه منهم" أي يستخرجونه، أي لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه وما ينبغي أن يكتم. والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته. والنبط: الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر. وسمي النبط نبطا لأنهم يستخرجون ما في الأرض. والاستنباط في اللغة الاستخراج، وهو يدل على الاجتهاد إذا عدم النص والإجماع.
ثانيا : السؤال والمناقشة :
ومن الوسائل الهامة جدا المؤدية الى التثبت و التبين هو السؤال عن الأمر المشكل او الخبر المريب ، وطلب الحوار و النقاش قبل التسرع بأصدار حكم أو اعتقاد أمر قد يضار منه الصف المسلم ، وخير دليل على ذلك موقف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حاطب بن أبي بلتعة، لما كتب إلى أهل مكة يخبرهم بغزو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم، وأطلع الله عز وجل نبيه على الكتاب، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دعاه وسأله وناقشه قبل أن يقضي في أمره ، وحاطبة رضي الله عنه عرض رده و بين دفاعه فقال يَا رَسُولَ اللَّهِ لا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلا ارْتِدَادًا وَلا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإسْلامِ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَقَدْ صَدَقَكُمْ) قَالَ عُمَرُ: ( يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ) قَالَ: ( إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)
و منها كذلك مناقشة سيدنا علي رضي الله عنه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أعطاه الراية يوم خيبر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( امْشِ وَلا تَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ) فَسَارَ عَلِيٌّ شَيْئًا ثُمَّ وَقَفَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ فَصَرَخَ: ( يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ) قَالَ قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ) .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد: ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".
ثالثا : الخبرة السابقة :
ومن الأمور التي ينبغي أن يسلكها المرء للوصول الي التثبت التعرف على الناس والوقوف على أحوالهم و أخلاقهم و هذا لا يتأتى إلا بالتعامل معهم بالدرهم والدينار ومعايشتهم علي ظروفهم وأحوالهم المختلفة كما في الأسفار والأفراح والأتراح ، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يثني رجل على آخر في مجلسـه، فيقول عمر للرجل الذي أثنى: ( هل صحبته في سفر قط؟) قال: لا، فقال له: هل ائتمنته على أمانة قط؟' قال: لا، فقال له: ( هل كان بينك وبينه معاملة في حق؟) قال: لا. فقال له: ( اسكت فلا أرى لك علمًا به؛ أظنك والله رأيته في المسجد يخفض رأسه ويرفعه)
رابعا : المواجهة بين الأطراف :
عن عليّ عليه السلام قال: بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى اليمن قاضياً فقلت: يارسول اللّه، ترسلني وأنا حديث السنِّ ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: "إنَّ اللّه سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإِذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضينّ حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول؛ فإِنه أحرى أن يتبين لك القضاء" قال: فما زلت قاضياً، أو ما شككت في قضاء بعد. سنن أبو داود - 3582ـ باب كيف القضاء
المطلب الثالث
أسباب عدم التثبت
اولا : العاطفة الجياشة أو الحماس المفرط :
العاطفة أو الحماس تصنعان غشاوة على عين صاحبها وعقله فتسلباه الإدراك، وتوديا به الى الخطأ في كثير من الأحيانا، مالم تكن هذه العاطفة و تلك الحماسة موزونتين بميزان الشرع، ومحكومتين بلجام العقل.
فقد روي عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ: قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِلى الْحُرَقَةَ مِنْ جُهَيْنَةَ. فَصَبّحْنَا الْقَوْمَ. فَهَزَمْنَاهُمْ. وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُم. فَلَمّا غَشينَاهُ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ. فَكَفّ عَنْهُ الأَنْصَارِيّ. وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتّى قَتَلْتَهُ. قَالَ فَلَمّا قَدِمْنَا. بَلَغَ ذَلِكَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي "يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَال لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ؟" قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّمَا كَانَ مُتعوّذا. قَالَ، فَقَالَ "أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ؟" قَالَ فَمَا زَالَ يُكْرّرُهَا عَلَيّ حَتّى تَمْنّيْتُ أَنّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
فكان الحامل لأسامة على قتل الرجل مع نطقه بلا إله إلا الله، تلك التي تعصم الدم إلا بحقها، إنما هو الحماس، أو العاطفة الإسلامية الجياشة، التي انطوى عليها قلب أسامة بن زيد رضي الله عنه بحيث حالت بينه وبين الاقتناع بما صدر عن الرجل، من الإسلام، والنطق بالشهادة، واتهمه بأنه يظهر خلاف ما يبطن، ناسيًا أن الله وحده هو المطلع على ما تكنّه القلوب، وتخفيه الصدور
ثانيا : التعلق بمتاع الحياة الدنيا الزائل:
جبلت النفس البسرية على التعلق بمتاع الحياة الدنيا وزينتها ، و قد يشغل ذلك حيزا في القلب فيصير حبا و قد يزداد فيصبح هوى ، قال تعالى ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسـومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب )
فإذا أحب الإنسان هذه الأشياء و تعلق بها يعمي ويصم، ويحول بينه وبين استطلاع الموقف وتبين الحقيقة، ولعل هذا السبب هو المشار إليه في قوله تعالى:( يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا، وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ
ثالثا : الجهل بوسائل وطرق التثبيت:
وقد يجهل بأساليب أو طرق التثبت أو التبين، فيؤدي ذلك إلى السرعة في الحكم، وتداوله هنا وهناك، ذلك أن للتثبت أو للتبين أساليب أو طرقًا كثيرة توصل إليه، و قد ذكرنا طرفا منها في المطلب الثاني .
رابعا : الاغترار بزخرف القول :
الأذن تطرب للعبارات الخلابة والألفاظ المعسولة، ، وإذا بالمرء يغتر ببريق هذه الألفاظ وزخرف تلك العبارات ، وحينئذ يقع منه عدم التثبت ، و قد حذر و نهى رسول الله عن ذلك ، فروي عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا ).
المطلب الرابع
علاج عدم التثبت:
أولا : تقوية ملكة التقوى:
عن عطية السعدي، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع مالا بأس به، حذرا لما به البأس)).
ثانيا : معايشة الكتاب والسنة من خلال النصوص المتصلة بقضية التثبت:
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ) (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فِاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ) وفي قصة سليمان مع الهدهد: (سَنَنظُرْ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذِبِينَ ) (27)
ثالثا : دوام النظر في سير وأخبار السلف
ان المطلع على سير وأخبار السلف ليجدعا عامرة بالنماذج الحية التي تجسد هذا التثبت، وتجعله ماثلاً أمامنا كالعيان، ومن هذه السير، وتلك الأخبار، قصّة عمر بن الخطاب مع سعيد بن عامر الجمحي، واليه على حمص، إذ قدّر الله لعمر أن يزور هذه البلدة، ويسأل أهلها: ( كيف وجدتم عاملكم؟) فيشكونه له قائلين:نشكو أربعًا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: ( أعظم بهذا، وماذا؟) قالوا: لا يجيب أحدًا بليل، قال: ( وعظيمة، وماذا؟) قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا، قال: ( عظيمة، وماذا؟) قالوا: يغنط الغنطة بين الأيام -أي: يغمى عليه، ويغيب عن حسّه- فلم يفصل عمر في الأمر، إلا بعد أن جمع بينهم وبينه، ودعا ربه قائلاً: (اللهم لا تفيّل رأيي فيه) وكان عمر حسن الظن به، وبدأت المحاكمة، فقال عمر لهم أمامه: (ما تشكون منه؟) قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار. قال: (ما تقول؟) قال: (والله إن كنت لأكره ذكره: ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني، ثم أجلس حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ، ثم أخرج إليهم) فقال : (ما تشكون منه؟) قالوا: لا يجيب أحدًا بليل، قال: (ما تقول؟) قال: (إن كنت لأكره ذكره: إني جعلت النهار لهم، والليل لله عز وجل) قال: (وما تشكون منه؟) قالوا: إن له يومًا في الشهر لا يخرج إلينا فيه،قال: (ما تقول؟) قال: ( ليس لي خادم يغسل ثيابي، ولا لي ثياب أبدلها، فأجلس حتى تجف، ثم أدلكها، ثم أخرج إليهم من آخر النهار قال: ما تشــن منه؟) قالوا: يغنط الغنطة بين الأيام، قال: (ما تقول؟) قال: ( شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش من لحمه، ثم حملوه على جذعة، فقالوا: أتحب أن محمدًا مكانك؟ فقال: والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمدًا ( شيك بشوكة، ثم نادى يا محمد، فما ذكرت ذلك اليوم، وتركي نصرته في تلك الحال، وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم، إلا ظننت أن الله عز وجل لا يغفر لي بذلك الذنب أبدًا، فتصيبني تلك الغنطة). فقال عمر ـ بعد أن أظهر براءته أمامهم: ( الحمد لله الذي لم يُفيّل فراستي، وبعث إليه بألف دينار، وقال: استعن بها على أمرك) ففرقها.
ومنها كذالك قصة اسامة ابن زيد مع الجهني في سورة النساء وعلى نحو ما جاء في حادثة الإفك في سورة النور، وعلى نحو ما جاء في قصة داود مع الخصمين في سورة ص، وعلى نحو ما جاء في : قصة سليمان مع الهدهد في سورة النمل، فإن هذا اللون من التربية يثبت في النفس، ولا ينسى، نظرًا لارتباطه بالحديث أو بالقصة. فإن هذه إن تأكدت في النفس العبر و العظات من هذه المواقف و السير ، فسوف تحمل صاحبها حملاً على التأني والتروي، والانصاف، ونقل الحقيقة كما هي دون زيادة أو نقص، بل ستكون سببًا في نور القلب، ونفاذ البصيرة، كما قال سبحانه:(يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا )
رابعا: تذكر المساءلة و الحساب :
تذكر الوقوف بين يدي الله للمساءلة والجزاء : وذلك من خلال تدبره قول الله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْؤُولُون ) و قوله تعالى : (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93) و قوله تعالى (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا )
المبحث الثاني
وحدة الصف
المطلب الأول
وجوب الوحدة وحرمة الفرقة
دل القرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين على وجوب وحدة الصف المسلم و حرمة التفرق .
أولا : القرآن الكريم :
قول الله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } ، فهذه الآية يبين الله تبارك وتعالى فيها أن العمل على الوحدة بين المسلمين فريضة شرعية عظيمة ، وأن تحقق تلك الوحدة نعمة إلهية كبيرة ، وأن الفرقة معصية كبرى ونقمة جلى .
ويقول القرطبي رحمه الله عند تفسير هذه الآية : " فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة ، فإن الفرقة هلكة ، والجماعة نجاة ، وقال عند تفسير قوله تعالى { ولا تفرقوا } " … ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة ، وكونوا عباد الله إخوانا ، فيكون ذلك منعا لهم من التقاطع والتدابر " .
ثانيا : السنة المطهرة :
قوله صلى الله عليه و سلم ( عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد ، ومن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ) .
والجماعة التي يأمر بها النبي ويأمر بالتزامها ، لها عدة معانٍ تدور حول الحق وأهله المجتمعين عليه.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا.... ) .
ثالثا: أقوال علماء الأمة:
ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قائلاً : " إن من القواعد العظيمة التي هي جماع الدين تأليفَ القلوب واجتماعَ الكلمة وصلاحَ ذات البين ، فإن الله يقول { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } ويقول { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا … } وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف ، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة ، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة ".
وفضلاً عن كون التفرق والاختلاف معصية لله تبارك وتعالى ، فإنه سبب للخذلان والهزيمة والفشل ، فقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أن سبب هزيمة المسلمين يوم أحد هو ما كان من المعصية والتنازع بين بعض المسلمين قال تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضلٍ على المؤمنين } .
وليس هذا خاصاً بالمسلمين في أحد ، بل إن النزاع والخلاف مدعاة للفشل وذهاب الريح في كل زمان ومكان كما أخبر تعالى : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين }
المطلب الثاني
وسائل وحدة الصف
اولا : الإرتباط برباط العقيدة :
فالعقيدة أمر ضروريا لا غنى عنه للفرد والجماعة، ضروري للفرد ليسعد وليطمئن، وتطهر نفسه ويتحرر من الخوف إلا من الله، ومن الرجاء إلا في الله، ومن التوكل إلا على الله، ومن التضرع واللجوء إلا إلى الله تعالى، وضروري للمجتمع ليستقر ويتآخى، ويتعاون ويتماسك، ويتناصر وينهض ، والعقيدة الإسلامية تربط بين قلوب معتنقيها برباط المحبة والإخاء والتراحم، ذلك الرباط الذي لا يساويه رباط الجنس أو اللغة أو الوطن أو القوم( ).
لذلك فإن الإسلام يبني الأمة المسلمة على هذا المنهج، ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي، ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة لا آصرة النسب ولا الجنس ولا اللغة ولا الأرض ولا اللون ولا المصالح ولا المصير المشترك، فهذه أواصر يشترك فيها الحيوان مع الإنسان، وهي أشبه شيء وأقرب إلى أوامر القطيع! وإلى اهتمامات القطيع!
لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة: العربي والفارسي، والشامي والمصري، والمغربي والصيني، والتركي والهندي، والروماني والإغريقي، والأندونيسي والإفريقي... إلى آخر الأقوام والأجناس، لقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة وبأمر الحب، وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة"( ).
لقد كانت العقيدة الإسلامية إيذانا بمولد مجتمع جديد يخالف المجتمعات الجاهلية السابقة التي جعلت أساس مجتمعاتها الجنس أو القبيلة أو الإقليم أو اللغة.
ثانياً: الشعور المتنامي بشراسة إستهداف العدو لكل ما هو إسلامي :
من الوسائل الدافعة بقوة للعمل على وحدة الصف الشعور المتنامي والقوي بين المسلمين بشدة وشراسة هجمة العدو واستهدافه لكل ما هو عمل إسلامي وكل من هو عامل للإسلام دون تمييزٍ أو تفصيل ، فأمم الكفر وطواغيت الحكام والحركات الهدامة قد تكالبت علينا من كل حدبٍ وصوب ، وهي تعمل على تحطيم عقائد المسلمين وإفساد أخلاقهم وهتك أعراضهم واحتلال بلادهم وتدنيس مقدساتهم واحتلالها ، ونهب ثرواتهم واستلابها ، بعد أن سقطت الخلافة الإسلامية وغاب الحكم بشرع الله تبارك وتعالى ، فحورب المسلمون في عقر دارهم ، فالشعور بهذه الحقائق مع العلم بمستوى الجهد المطلوب لسد الثغرات وهو جهد لا يمكن أن يقوم به فرد أو جماعة واحدة ، كل هذه الأمور تصب في النهاية في اتجاه العمل على توحيد الجهود وتنسيق العمل بين العاملين للإسلام خصوصاً والمسلمين عموماً.
إن الوضع الذي يعيشه المسلمون اليوم يقتضي استنفار كل من له انتساب إلى هذا الدين ، وتوظيف طاقاته وجهوده في المعركة التي يخوضها الإسلام ضد القوى المعادية للإسلام التي كشّرَ عن أنيابها، وكشفت عن أهدافها الحقيقية في محاربة الإسلام والمسلمين ، ولم يعد مقتصراً في حربه تلك على أطراف العالم الإسلامي البعيدة ، بل أصبح يخوض المعركة بنفسه ، وفي قلب العالم الإسلامي وعلى أرض أقدس مقدساته في الجزيرة العربية وفلسطين وغيرها ، ففي مثل هذه الحال يتجاوز الخطاب بالوحدة والتنسيق الجماعات والأفراد الذين يتحدون في الأصول السابقة ، إلى غيرهم من عوام المسلمين الصالحين والعصاة ونحوهم ممن لا يمكن القيام بدفع العدو الأكبر والضرر الأخطر إلا بالتعاون معهم .
ثالثاً: المحبة و التآخي في الله تعالى:
الأخوة في الله تعالى عقد واجب الوفاء به. ولقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن عقد الأخوة هذا فقال: "إن الحقوق التي ينشئها إذا كانت من جنس ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، والتي تجب للمؤمن على المؤمن، فإنما هي حقوق واجبة بمقتضى الإيمان، والتزامها بمنزلة الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله"( ).
ولهذه الأخوة حقوق منها:
(1) إخلاص المحبة لله تعالى : هذه العقيدة تهتف بالبشرية بنداء الحب في الله، إنها حين تخالط القلوب تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب، التي تلين قاسيها، وترقق حواشيها، وتندي جفافها، وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق، فإذا نظرة العين، ولمسة اليد، ونطق الجارحة، وخفق القلب ترانيم من التعارف والتعاطف، والولاء والتناصر، والسماحة والهوادة لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب، ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بين قلوبهم)( ) يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من عباد الله أناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكان من الله تعالى، قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس))( )،
(2) موالاة المسلم لأخيه المسلم: فقد أملت علينا عقيدتنا أن نوالي بعضنا بعضاً على قاعدة الحب في الله والتآلف، وعلى أنبل مظاهر الأخوة والتعارف؛ حتى نكون رجلاً واحداً، وقلباً واحداً، ويداً واحدة. قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)( ).
لقد صنع نبينا صلى الله عليه وسلم أمة بهذا القرآن لم نجد مثيلاتها في الأمم التي سبقتها، وصنع جيلاً لم يتكرر في التاريخ البشري، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، كل ذلك على قاعدة الولاء العقدي، والتآخي النبيل، والمناظر الجليلة التي لم تعهد البشرية لها شبيهاً عبر تاريخها الطويل.
(3) التآخي الموصل إلى وحدة الصف: أن يستشعر المسلم هذا الرباط الوثيق مع من سبقه من المؤمنين، والدعاء لإخوانه والاعتراف بفضل من سبقه في العلم والعبادة والجهاد في سبيل الله تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا في الإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا)( ).
(4) أن يعيش مع إخوانه المسلمين أفراحهم وأتراحهم : بمعنى أن يشاركهم بشخصه و جهده و نصحه مناسباتهم السعيدة و المحزنة أو على الأقل تشاركهم وجدانيا فيفرح لفرحهم ويحزن لأحزانهم، ويسر لأفراحهم، فهو معهم وبهم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))( ). بالرغم من أن العمل الإسلامي اجتمعت نحوه مجموعة من المضاعفات فتت في عضده، ونخرت في عظامه، أقلها أنه أصبح في أودية متقطعة، لكن كل هذا لا يحول دون شعور أهله وإحساسهم بآلام بعضهم وأحزانهم، وأن يسعوا في حاجات بعضهم البعض ما وسعهم إلى ذلك سبيل.
رابعاً: الإيثار
ونقصد بالإيثار : أن يقدم العاملين للإسلام ــ الواحد منهم ــ أخاه على نفسه في كل ما يحب، فيسهرلينام إخوانه ويجتهد ليرتاح أخوه ويجوع ليشبع ويظمأ ليرتوي، و يضع روحه على أكفه ليفدي أخاه المسلم .
لقد مدح الله تعالى الأنصار في أخوتهم الصادقة للمهاجرين في قوله تعالى: (والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قلوبهم يحبون من هجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)( ).
بالآتي:
(أ) تقديم حقوق الجماعة على حقوق الأفراد، ومن ثم إيثار حق الأمة على حق الفرد بما يحقق مصلحة كبرى في دفع مفسدة عظمى.
(ب) تقديم أولوية الولاء لله وللرسول وللجماعة على الولاء للون أو الجنس أو القبيلة أو الفرد.
(ج) تصويب العزائم والهمم نحو القضايا الكبيرة عالمياً وإقليميا بدلاً من الانغلاق في حدود المحلي والوطني.
(د) توطيد العلاقات بين الجماعات الإسلامية جلباً للتعاطف والتناصر مع تقوية خطوات النفوس وذوات أفراد العمل الإسلامي.
خامسا: التكافل الاجتماعي بين العاملين في الصحوة الإسلامية :
والتكافل له جانبان: جانب مادي وآخر، والذي نقصد به هنا: التكافل المعنوي بين الجماعات العاملة لخدمة الإسلام ، ويتمثل في التعاون الدعوي والإصلاح الفكري بين العاملين للإسلام لإحقاق الحق وإقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يتمثل بالإرشاد والتوجيه والنصح بين العاملين في الحقل الإسلامي، وقد جعل الإسلام هذا النوع من التكافل فريضة على كل مسلم، فقال الله تعالى: (ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)( )، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ((الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))( ).
يقوم هذا التكافل عملياً على الآتي:
(1) الاستفادة من ذوي الخبرات العالية والكفاءات العلمية عند بعض منسوبي العمل الإسلامي من قبل قليلي الدراية في الصف الإسلامي.
(2) تقديم النصح والإرشاد عند ظهور بوادر الخلاف بين العاملين لخدمة الإسلام.
(3) عقد الاجتماعات الدورية والمؤتمرات الفصلية لمراجعة العمل الإسلامي وتطوير أداء العاملين للإسلام وتحديد مواثيق اللقاء والاتفاق وأدب الاختلاف بين الجماعات الإسلامية
المطلب الثالث
عوامل الوقاية من التفرق و علاجه
اولا : العوامل الفكرية :
1 :تعدد الجماعات تكامل لا تعارض : لا شل أن الجماعات العاملة الإسلام متعددة و منطلقاتها في العمل قد تختلف ، إلا أن هذه التعددية لها جوانب نافعة ، لأن فروض الكفاية ومصالح الأمة اليوم لا يمكن أن يقوم بها فرد أو جماعة من الجماعات مهما أوتيت من القدرات والطاقات بعد أن عبثت بهذه الفروض والمصالح عوامل عديدة منها عجز علماء الأمة ، وجهل أبنائها ، وتآمر حكامها ، وتكالبُ أعدائها في الداخل والخارج .
وفي سبيل القيام بهذه الفروض ، والنهوض بهذه المصالح لا بد من توزيع المهام والأدوار ، وقيام كلٍ بدوره وفق مجاله وتخصصه ضمن الإطار العام لأهل السنة والجماعة ، فكما أن كل جماعة لها عناصرُ توزعها على العمل حسب اختصاصها وكفاءتها ، فإن هذه الجماعات المتعددة هي بالنسبة إلى الجماعة الكبرى -جماعة أهل السنة والجماعة- بمثابة تلك العناصر في جماعاتها الصغيرة .
إن الثغرات المطلوب سدها والفروض المتعين القيام بها عديدة وكبيرة تتطلب جهد الجميع وطاقات الكل ، فلنحسن توظيف ما لدينا من طاقات وجهود وتوزيعها على تلك الثغرات والفروض ، فلدينا جماعات ذاتُ باعٍ وتاريخ حسن في نشر العقيدة الصحيحة ومحاربة البدع بين المسـلمين ، فلتقف هذه الجماعات على هذا الثغر الذي لا تخفى أهميته وأولويته ، ولدينا جماعات ذات تجربة وكفاءة في المجال الدعوي وانتشال العصاة من أوكار المعاصي إلى رحاب الطاعة والهداية فلتواصل عملها وبذل جهودها في هذا المجال ، ولدينا جماعات أخرى برعت في الرد على الأفكار الهدامة وفضح مخططات وأساليب الأعداء وتقديم الإسلام في صورته الشاملة الكاملة التي تضمن سعادة الدنيا والآخرة ، فلتلتزم هذه الجماعات بما التزمت به في هذا المجال ، ولدينا جماعاتٌ أخرى لها القدرة على العمل السياسي والتخطيط وبث الوعي الحركي بين المسلمين، وهذا مجالٌ مهم إذا ما ضُبِط بالضوابط الشرعية ، وتُجُنِبَت المفاسد المترتبة عليه ، فلْتُواصل هذه الجماعات وقوفها على هذه الثغرة .
2 : إلتزام الجماعات بضوابط وحدة الصف : يضيق الخلاف و تنتفي الفرقة إذا التزمت هذه الجماعات أو تقيدت - في ممارساتها لبرامج العمل الإسلامي المتنوعة - بوحدة الأصول المعتقد عند أهل السنة والجماعة في أبواب المعتقد المختلفة ، ووحدة منهج التلقي عنهم ، والوحدة في الهدف ، وكذلك الوحدة في ضبط الوسـائل بالضوابط الشرعية .
3 : ضبط الخلاف بمنهج السلف: أن الحَكَمَ عند التنازع والخلاف هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفق فهم السلف الصالح وإجماع الأمة ، وكل ما سوى ذلك فمنه مقبولٌ ومردود قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا } ومع ذلك فإنه ستبقى خلافاتٌ مستقرة لا تُحسَمُ ، إما لأنها لم يرد بشأنها دليلٌ خاص يرفع النزاع ، أو ورد دليل واختلفت فيه الأفهام ، أو لأنها تعارضت فيها الأدلة أو غاب بعضها عن بعضِ الأطراف واطلع عليه بعضٌ آخر ، أو غير ذلك من أسباب الخلاف ، وكثيرٌ من قضايا العمل الإسلامي المعاصر هي من هذا الباب الذي لا يضر الخلاف فيه ، بل ينبغي فيه التغافر والتسامح مع النصح المستمر والاستعداد لقبول الرأي الراجح ، وتجاوز الأخطاء والسلبيات ، و يجب التفريق بين الثوابت والقطعيات التي هي محل إجماع ، والمسائل الاجتهادية التي هي محل نزاع ، فالأولى لا يُقْبَلُ فيه الخلاف ولا يسوغ ، والثانية تُقبَلُ فيها الاجتهادات وتعدد وجهات النظر ، ولا يمكن إلزام المخالف فيها برأي لم يتبين له رجحانه ، كماأنه لا بد من إحياء روح النقد البنّاء والاستعداد لقبول هذا النقد في جوٍ من رحابة الصدر ، وأدب الخلاف ، وروح العدل والإنصاف .
ثانيا : العوامل الإيمانية و السلوكية :
1: ضبط النفس: ومن االعومل التي تؤدي الى الوقاية من التفرق و تعين على وحدة الصف المسلم ضبط النفس عند حدوث الخلاف بين الجماعات العاملة لخدمة الإسلام، فهو يمنع العاملين للإسلام من القطيعة والجفوة، كما أن ضبط النفس دليل اكتمال العقل الإسلامي، وصفة أهل التقوى. قال تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنةٍ عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصُّرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)).
ومن فوائد ضبط النفس الآتي:
• : التسامي فوق الصراعات الداخلية بين أفراد العمل الإسلامي، والابتعاد عن مواطن الخلاف، وردم الفجوات التي ينفذ من خلالها أعداء الأمة الإسلامية.
• : التنزه عن اللغو والثرثرة الجالبين لغضب الله، ومحق بركة العمل الإسلامي.
3: تجاوز حظوظ النفس القاعدة بالعاملين لخدمة الإسلام عن مواجهة التحديات العقدية والفكرية المفروضة من قبل النظام العالمي الجديد.
• : توجيه الطاقات الفكرية والدعوية إلى البناء والتكتل ضد الهجمة الصليبية اليهودية التي تخطط لتحرير شهادة وفاة جماعة المسلمين في كل مكان.
2: إصلاح ذات البين: لا تقل أهمية المسارعة في إصلاح ذات البين بين العاملين في الحقل الإسلامي عن أهمية المسارعة إلى الصلاة وغيرها من العبادات. ولأهمية إصلاح ذات البين وفعاليتها في تقوية الروابط الأخوية، جوّز بل أوجب الإسلام استخدام القوة في المحافظة على الكيان العام للجماعة المسلمة، وإبقاءً لعلاقات المودة والإخاء. يقول الله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)( ).
إن ديننا جعل الكلمة الطيبة صدقة، فهي توحِّد شتات الأمة، وتجمع صفهم، وترأب الصدع، وفوق ذلك فهي من الخير الذي يتقرب به إلى الله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً)( ).
إن الإسلام أعلن براءته من المفرقين؛ لأن الفرقة قاضية على الدين والدنيا معاً، قال تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)( )، وقال تعالى: (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزبٍ بما لديهم فرحون)( ).
3 : سلامة الصدر وخفض الجناح: إذا كان التواضع وخفض الجناح ولين الجانب قيماً مطلوبة من أفراد المجتمع الإسلامي لمكانتها في توطيد العلاقات، ورد الخصومات وردم هوة النزاعات، فهي أوجب بين أصحاب العمل الإسلامي وأفراد الجماعات العاملة للإسلام، فإن ما يناقض ويضادّ هذه القيم مثل الكبر والخيلاء، والعجب بالرأي، والاستبداد بالفكر، تغرس الفرقة والعداوة فضلاً عن أنها تحول دون إصلاح الصف الإسلامي، والله تعالى يقول: (واخفض جناحك للمؤمنين)( )
إن ضيق الأفق في فهم الدين وفهم الواقع وفهم السنن الكونية والاجتماعية، مع استعجال الأشياء قبل أوانها، كل هذا يولد جفوة منه تجاه إخوانه الآخرين، ورفضاً لأفكارهم وآرائهم، الأمر الذي يحدث خصومة بين العاملين في الحقل الإسلامي، وفراغاً يستغله الآخرون فيعملون في عقول أبناء الأمة ما لا تفعله آلاف المدافع في بلاد المسلمين، وعليه فليترك العاملون في الحقل الإسلامي صراعاتهم الفكرية جانباً، وليخفضوا الجناح لإخوانهم جميعاً، وليتصفوا بسلامة الصدور ولين الجانب، وليُعملوا فقه الاختلاف وأدبه على قاعدة التعاون في المتفق عليه، والتسامح في المختلف فيه( ).
المبحث الثالث
المطلب الأول
التثبت من الأخبار
أولا : ضرورة التثبت من الأخبار :
لا شك أن تلقي الأخبار يترتب عليه أمورا عظاما وقرارات مهمة ومن ثم كان الواجب على الأمة المسلمة قيادة وجماعات وأفراد أن تتبين وتتثبت قبل أن تتصرف بناء على هذه الأخبار ، وهذا ليس على سبيل الندب وإنما هو واجب شرعي لقوله تعالى :" وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" ،
وهناك ملامح في التعامل مع الأخبار نسوقها باختصار:
1) التأني والتروي : يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (التأني من الله و العجلة من الشيطان).
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
2) التثبت في الأخبار : قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين َ) وفي قراءة (فتثبتوا) .
ثانيا : الإشاعة و أثرها على وحدة الصف :
الإشاعات هي وسيلة البلبلة الفكرية و النفسية في الحرب و السلم ، والمفتاح الى تغيير اللعب بالعقول ثم السيطرة و التحوير الفكري ، و غسل الدماغ . وهي سلاح يستعمل للسيطرة على الاتجاهات الشعبية و زعزعة الوحدة الفكرية و الإنتماء و التماسك الإجتماعي .
و الهدف من الإشاعة إحداث حرب نفسية شرسة ضد العالم الإسلامي عامة والحركة الأسلامية خاصة ، وذلك من منطلق كوننا حَمَلة الرسالة الخاتمة التي أراد الله لها أن تظهر على الدين كله ، و لكوننا أصحاب أعظم ثروات يُنتظر لأصحابها ان هم تحركوا في الاتجاه السليم أن يسودوا العالم و لذلك شنت هذه الحرب لتهديم النفوس و شل الارادات و تمييع العزائم ، ليبقى الشعور بالتبعية و الهزيمة الروحية و الفكرية ، و ليبقى الشباب و المفكرون و السياسيون لاهثين وراء المعسكرات ، و هم لو صحت منهم النوايا كانوا السادة و القادة ، و جاءتهم الامم تقبس منهم و تلتمس الهدى و النور
و الدعاة الى الله في العالم الإسلامي هم رأس الحربة ، و الطليعة التغييرية ، و لذلك جردت لهم وحدهم حملة مركزة من هذه الحروب ، و اُطلقت من حولهم الإشاعات تبغي تشويه صورتهم ، فلا يعودون يمثلون دور الريادة الفكرية ، و لقد نجح الأعداء في الجولة الاُولى لهذه الحرب ، إلا أن حدة الهجمة بدأت تنكسر ، و ينعكس المد لصالح الدعاة .
ثالثا:أمثلة لخطر الإشاعة في العهد النبوي
ولقد سطَّر التاريخ خطر الإِشاعة إذا دبت في الأمة ومنها ما يأتي:
1- لما هاجر الصحابة من مكة إلى الحبشة وكانوا في أمان ، أُشيع أن كفار قريش في مكة أسلموا فخرج بعض الصحابة من الحبشة وتكبدوا عناء الطريق حتى وصلوا إلى مكة ووجدوا الخبر غير صحيح ولاقوا من صناديد قريش التعذيب . وكل ذلك بسبب الإِشاعة .
2- في غزوة أحد لما قتل مصعب بن عمير أُشيع أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل : قُتل رسول الله فانكفأ جيش الإِسلام بسبب الإِشاعة ، فبعضهم هرب إلى المدينة وبعضهم ترك القتال .
3- إشاعة حادثة الإِفك التي اتهمت فيها عائشة البريئة الطاهرة بالفاحشة وما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه من البلاء، وكل ذلك بسبب الإِشاعة.
المطلب الثاني
التأني في الأحكام
أولا: الاستعجال في إصدار الأحكام طريق الخطأ :
فالاستعجال في إصدار الأحكام تصرف يوقع صاحبه في الزلل والخطأ، ولذا جاء الشرع بالأمر بالتثبت والتبين كما قال تعالى: ( يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَينُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) . ، وقال: ( يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَينُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا")
عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال التأني من الله والعجلة من الشيطان عن بن عباس رضى الله تعالى عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا تأنيت وفي رواية المعاذي والشعيبي والهروي إذا تبينت أصبت أو كدت تصيب وإذا استعجلت أخطأت أو كدت تخطىء ، عن بن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأشج أشج عبد القيس إن فيك لخلتين يحبهما الله الحلم والأناة ، عن أبي سعيد الخدري رضى الله تعالى عنه أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث قال فيه ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس إن فيك خصلتين يحبهما الله عز وجل ورسوله الحلم والأناة
ثانيا:أخطار التكفير بغير حجة:
وأعظم من ذلك وأخطر، الإقدام على التكفير أو التفسيق بغير حجة يعتمد عليها، من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا من الجرأة على الله وعلى دينه، ومن القول عليه بغير علم، وهو خلاف طريقة أهل العلم والإيمان من السلف الصالح رضي الله عنهم وجعلنا من أتباعهم بإحسان.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (من دعا رجلا بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه )
أي: رجع عليه ما قال وهذا وعيد شديد يوجب الحذر من التكفير والتفسيق، إلا عن علم وبصيرة، كما أن ذلك وما ورد في معناه يوجب الحذر من ورطات اللسان، والحرص على حفظه إلا من الخير .
المطلب الثالث
التكتم على الأسرار
أولا: منهج الإسلام في التربية على المحافظة على الأسرار :
كل ذلك من منهج الإسلام في تربية المسلمين على الأمن والمحافظة على الأسرار، ومن المبادئ المعروفة أن الأمة التي تكتم أسرارها هي الأمة التي يمكن أن تنتصر، والأمة التي لا تكتم أسرارها هي الأمة التي لا يمكن أن تنتصر، وما يقال عن الأمة يقال عن الأفراد ؛ لأن الأمة تتكون من أفراد .
واللسان الذي هو نعمة من نعم الله على عباده، يستطيعون بها التعبير عن آرائهم وتبادل المنافع مع الناس، هو وسيلة للخير والسعادة في الدنيا والآخرة إذا أحسن استعماله، كما أنه سبب قوي للشر والشقاء في الدارين إذا أسيء اسـتعماله، فهو سلاح ذو حدين يمكن به النفع ويمكن به الضر .
والقرآن الكريم ينبئ بأن كل لفظ من الإنسان مسجل عليه، فيقول الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} فالكلمة أمانة عظمى لها مكانتها في الإسلام، وتقدير أمرها والتدبر فيها قبل التلفظ بها مرتبط بالإيمان كما يفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) .
وإفشاء الأسرار التي تعود على الأفراد والأمم بالأضرار من الكلام الذي لا يرضاه الله تعالى، وكذلك كل كلام فيه سعي بالفساد مندرج تحت الكلمة الخبيثة. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله - ما يظن أن يبلغ ما بلغته- فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن ليتكلم بالكلمة من سخط الله - ما يظن أن يبلغ ما بلغته- فيكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه ) ، وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال: (قل ربي الله ثم اسـتقم) قال: قلت يا رسـول الله، وأخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: (هذا ).
ثانيا كتمان الأسرار من الحذر والفطنة:
وينبه الإسلام إلى اليقظة والحذر كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } وكما في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( المؤمن كيِّس فَطِن ) ، فاليقظة والحذر والوعي والفطنة كلها تدفع إلى كتمان الأسرار التي جعلها الله أمانة من الآمانات التي يجب على المسلمين أن يحافظوا عليها كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ألا لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ) وقال أيضا: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وقال: (إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهو أمانة). وقال: (إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة، ولا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره) وقال: (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع )
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان، فسلم علينا، فبعثني في حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جاءت قالت: ما حبسك؟ (أي ما أخرك؟) فقلتك بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ، وقال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله: " إني أرى هذا الرجل - يعني عمر بن الخطاب - يقدمك على الأشياخ - يعني كبار الصحابة- فاحفظ عني خمسا: لا تفشين له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا يجربن عليك كذبا، ولا تعصين له أمرا، ولا يطلعن منك على خيانة " .
وهكذا كان الصحابة - رضوان الله عليهم- وهكذا كان أجدادنا الأوائل يعلّمون أولادهم المحافظة على السر، وهي من ألزم الأمور لسلامة الأمة وأمنها .
ثالثا :: عناية المدرسة الإسلامية بالمحافظة على الأسرار :
والواقع أن المدرسة الإسلامية عنيت بالأمن والمحافظة على الأسرار، أشد العناية ووضعت لهما المبادئ والأصول والأساليب، وأثبت تاريخ صدر الإسلام أن من أسباب انتصار المسلمين على أعدائهم الكثيرين أن أسرار النبي صلى الله عليه وسلم، وأسرار المسلمين كانت مصونة وبعيدة عن متناول الأعداء، في الوقت الذي كان النبي - صلوات الله وسلامه عليه - يطّلع على نيات أعدائه العدوانية عن طريق عيونه وأرصاده - رجال مخابراته - قبل وقت مبكر، فيعمل من جانبه على إحباط ما يبيتونه للإسلام من غدر وخيانة ودسائس .
كذلك لم يستطع المشركون وأعداء الإسلام أن يباغتوا قوات النبي صلى الله عليه وسلم في الزمان والمكان وأسلوب القتال، بينما استطاع - صلوات الله وسلامه عليه - أن يباغت أعداءه في معظم غزواته وسراياه ، ولذلك لم يرد في تاريخ صدر الإسلام حوادث خيانة أو تخابر مع العدو إلا في حادثة حاطب بن أبي بلتعة في فتح مكة وهي حادثة واحدة واعتذر منها صاحبها .
رابعا دروس علمية من هدي النبي صلى الله عليه وسلم:
والدروس العلمية التي يستطيع المسلمون أن يتعلموها من النبي صلى الله عليه وسلم في مجال السرية والأمن أكثر من أن تحصى ، فلقد كان من أسباب نجاح الدعوة الإسلامية أن رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - بدأ سراً ولما شاهد علي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هو وخديجة رضي الله عنها، قال: يا محمد ما هذا؟ قال: دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله. فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وأن تكفر باللات والعزى.. فقال علي: هذا أمر لم أسمع به من قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب - أي أباه - لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كره أن يفشي سر الدين قبل أن يستعلن أمره فقال له: يا علي إذا لم تسلم فاكتم. فامتثل علي للأمر، حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الصباح التالي وأعلن إسلامه وكتم ذلك عن أبيه ولم يظهره ، ولقد كانت هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة من أعظم الدروس في السرية والأمن والكتمان حتى بلغ المدينة بسلام .
وقد أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله المشهور: " ليس كل ما يُعلم يقال، ولا كل ما يقال حضر أهله، ولا كل ما حضر أهله حان وقته " ، وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: " ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى "
ومن الأمثلة العلمية في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد تأديب بني لحيان، الذين غدروا بدعاة المسلمين - وكان هؤلاء الدعاة ستة من كبار الصحابة- أظهر أنه يريد الشام. وتحرك فعلا بقواته شمالا، فلما اطمأن إلى انتشار أخبار تحركه إلى الشمال باتجاه الشام، عاد راجعا باتجاه مكة مسرعاً في حركته حتى بلغ منازل بني لحيان .
وفي غزوة الخندق جاء نعيم بن مسعود الغطفاني - وكانت غطفان من القبائل التي انضمت إلى قريش للقضاء على المسلمين - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه أسلم ولا يعلم قومه، وطلب منه أن يأمره بما يشاء، فقال الرسول : ( إنما أنت رجل واحد، فخذّل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة ) ، فقام نعيم بمهمته خير قيام، ونجح في التفريق بين القوى الثلاث التي تجمعت لقتال المسلمين - قريش، والقبائل العربية ومنها قبيلته غطفان، ويهود بني قريظة - ، وكان مما ساعد على نجاح مهمته مراعاة الأمن والسرية ، لقد كتم النبي صلى الله عليه وسلم إسلام نعيم، وكتم نعيم إسلامه، فلم يعرف قومه ولا بنو قريظة ولا قريش عن إسلامه شيئا، فلولم يطبق الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ السرية والأمن، ولم لم يطبقه نعيم، فهل كان بإمكان نعيم أن يقوم بهذا الدور الحاسم في تفرقة صفوف الأحزاب ونزع الثقة من نفوسهم؟ .
وقد ابتكر الرسول صلى الله عليه وسلم " الرسالة المكتومة " مراعاة للسِّرِّية والأمن، وحرمان أعداء المسلمين من الحصول على المعلومات التي تفيدهم عن تحركات المسلمين وأهدافهم،فقد بعث - صلوات الله وسلامه عليه - سَرِيَّة من المهاجرين، قوامها اثنا عشر رجلا بقيادة عبد الله بن جحش الأسدي في مهمة استطلاعية في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة، وسلمه رسالة (مكتومة) تحتوي على تفاصيل المهمة من حيث الهدف منها ومكانها وغير ذلك من التعليمات، وأمره ألا يفتحها إلا بعد أن يسير يومين .
وتعتبر غزوة فتح مكة من أروع الأمثلة التاريخية في مجال السرية والأمن والكتمان: إن أقرب المقربين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صاحبه أبو بكر الصديق، أول من أمن به كما أن عائشة بنت الصديق أبي بكر كانت أحب نسائه إليه فقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قالوا: إنما نعنى من الرجال، قال: أبوها ، ومع ذلك كانت عائشة لا تفشي لأبيها شيئا من سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر الصديق وابنته عائشة لا يعلمان من أسرار غزوة الفتح إلا قليلا .
ولقد احتوت غزوة الفتح على الكثير من إجراءات الأمن التي كان لها أكبر الأثر في تحقيق المفاجأة الكاملة وفتح مكة بلا قتال .
الخاتمة
عرفنا التثبت بأنه: استفراخ الوسع و الجهد لمعرفة صدق ما يتلقى من خبر فيقبله وصحة وقائع وظروف وملابسات الأحكام فيصدرها وخطورة ما يصله من أسرار فيكتمها، حرصا على وحدة الصف و تأمينا للدعوة ومن ثم جعلنا التكتم على الأسرار وحفظها من التثبت ، رأينا أن للتثبت وسائل وعددنا منها، الرجوع إلى الكتاب و السنة و إلى أهل الاختصاص، والسؤال و المناقشة، و الخبرة السابقة والمواجهة بين الطرفين ، وأن من أسباب عدم التثبت العاطفة الجياشة و الحماس الجارف و الاغترار بزخرف القول والتعلق بالمتاع الزائل و الجهل بوسائل وطرق التثبت ، وان علاج التثبت يكمن في تقوية ملكة التقوى ومعايشة الكتاب والسنة من خلال الآيات والأحاديث المتعلقة بالتثبت و دوام النظر في سيرة وأخبار السلف المتخلقين بهذا الخلق
وأن وحدة الصف واجبة والفرقة حرام وقد دل القرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين على ذلك وأن من وسائل وحدة الصف: الارتباط برباط العقيدة:و الشعور المتنامي بشراسة استهداف العدو لكل ما هو إسلامي المحبة و التآخي في الله تعالى و الإيثار و التكافل الاجتماعي بين العاملين في الصحوة الإسلامية ، وأن من عوامل الوقاية من التفرق و علاجه اعتبار أن تعدد الجماعات تكامل لا تعارض و التزام الجماعات بضوابط وحدة الصف ضبط الخلاف بمنهج السلف و ضبط النفس و إصلاح ذات البين وسلامة الصدر وخفض الجناح
و أن من صور من التثبت التي تؤثر على وحدة الصف التثبت من الأخبار و التأني في الأحكام التكتم على الأسرار .
المراجع
1. القرآن الكريم
2. موسوعة الحديث النبوي الشريف الصحاح و السنن والمسانيد إنتاج موقع روح الإسلام Islam sprit.com
3. برنامج القرآن الكريم مع التفسير إنتاج موقع روح الإسلام Islam sprit.com
4. سالم السعدي : http://www.alwatan.com/graphics/2004/01Jan/13 .1/dailyhtml/deen.html#top
5. الشيخ محمد بن صالح المنجد من علماء السعودية http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?cid=1112477408679&pagenam
6. المنهاج (النووي) شرح صحيح مسلم
7. سيد قطب، في ظلال القرآن
8. الشيخ جاسم مهلهل الياسين، رسائل شباب الدعوة
9. د. علي محمد علوان الأستاذ بكلية الدراسات الإسلامية والقرآنية جامعة الرباط الوطني وسائل تؤدي إلى الاتفاق ووحدة الصف
10. د. يوسف القرضاوي في فقه الأولويات: القاهرة، ط 1965م
11. محمد أحمد النابلسي سيكولوجيـة الشائعــة– مركز الدراسات النفسية و النفسية الجسدية 2004
12. مجلة منار الإسلام العدد 10 السنة 9 بقلم الأستاذ: محمد جمال الدين محفوظ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق