ما أحوجنا اليوم إلى رجل تقر العيون لرؤياه وتصغى الآذان لكلماته وتسعى الأبدان تلبية لأمره ، إذا نظر رحم وأذا قال صدق وإذا عمل أحسن وإذا وعد أوفى ، هو الزوج الودودالرحيم والأب الحنون الكريم ، وهو القائد اللين الشجاع وهو المربي الفاهم القدوة والحاكم البصير العادل .
ما أحوجنا إليه اليوم هاديا إلى الطريق المستقيم المؤدي إلى السعادة في الدنيا والجنة في الآخرة ، في الوقت الذي أنحرفت فيه الطرق وأعوجت بعد تعددها وتنوعها .

هذا الرجل الموصوف ليس سرابا مفقودا ولا أملا مطلوبا إنه واقع بيننا ، لكن تغفل عنه العيون الناعسة والقلوب اللاهية والعقول الغافلة ، وتراه العيون البصرة والقلوب الذاكرة والعقول الواعية .
إنه المصطفى صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله رسول الله الزعيم والقدوة ، الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور ، والذي قال : ( تركت فيكم ما إن تمسكهم به لن تضلوا بعدي أبدا ) .


الرسول القدوة الأول :

شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام لها جوانب متعددة تعدداً يجعله منفرداً عن الرسل بميزات وإن شاركوه في بعضها فلم يشاركوه في الكل .
فشخصية الرسول تمثلت فيها كل جوانب الحياة ، وما كل رسول كان له مثل هذا ، فقد كان عليه الصلاة والسلام كان أباً وما كل رسول كان أباً، وما تزوجً كل رسول ، وقد أقام الرسول ط دولة وكان رئيسها وما أقام كل رسول دولة ، وكان صلى الله عليه وسلم القائد الأعلى لجيش الإسلام والمحارب الفذ وما قاد كل رسول وحارب.
بعث اللؤغمحمد صلى الله عليه وسلم بعثه للإنسانية عامة فكانت الشريعة الإسلامي شاملة طل مناحي الحياة فضلا عن الناحية العقدية والعبادية شملت النواحي الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية، ولم يبعث الله تعالى رسولا إلى الإنسانية عامة غير محمد ليكون المستشار والقاضي والمربي والمعلم والمهذب والعابد والزاهد والصابر والرحيم... إلى آخر صفاته – عليه الصلاة والسلام – التي استوعبت كل جوانب الحياة ، وكان هو المثل الأعلى للبشر والقدوة العليا لهم ، ومن ثم كان محمد صلى الله عليه وسلم هو القدوة الأول لكل البشر وفي كافة مناحي الحياة .
ولن نستطيع أن نحيط بجوانب شخصية رسول اللهصلى الله عليه وسلم من حياته كلها ، ومن ثم نختار في كل مقال جانب من هذه الجوانب الأربع من شخصيته وهي: صاحب الخلق العظيم ، ورجل الأسرة الزوج الودود والأب الكريم ، والمعلم المربي ، ورجل الدولة سياسيّاً وعسكريّا اللين الشجاع ً.


صاحب الخلق العظيم :

قال الله تعالى مخاطبا رسوله الكريم :{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم آية 4
الرسول صلى الله عليه وسلم هو صاحب الخلق العظيم وهو كذلك الأخلاقي الأول ، فلو أنك حصرت كل خلق عظيم في العالم وكل تصرف راق ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صاحب الخلق الأعظم والأرقى ، مع انعدام التصرفات غير الأخلاقية في حياته عليه الصلاة والسلام .


أولاً: نماذج من صبره صلى الله عليه وسلم:

1- صبره صلى الله عليه وسلم في موطن القتال :
روى مسلم:” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش”.
“ واستطاع المشركون أن يخلصوا قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم فرماه أحدهم بحجر كسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفجر منه الدم، وشاع أن محمداً قتل، فتفرق المسلمون ودخل بعضهم المدينة وانطلقت طائفة فوق الجبل، واختلط على الصحابة أحوالهم فما يدرون ما يفعلون”.
“ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينثل السهام من كنانته ويعطيها سعد بن أبي وقاص يقول: ارم فداك أبي وأمي، وكان أبو طلحة الأنصاري رامياً ماهراً في إصابة الهدف قاتل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا رفع رسول الله شخصه ينظر أين يقع سهمه”.

2 - صبره صلى عليه وسلم على موت أولاده وأحبابه :
الرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صاحب القلب الرحيم نجده في صبره يفيض العبرة بلا شكوى ولا ضجر :
أخرج ابن سعد عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: رأيت إبراهيم وهو يكيد بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله:
” تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون”.
وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال:
“ لما قتل حمزة يوم أحد أقبلت صفية تطلبه، لا تدري ما صنع، فلقيت عليّاً والزبير فقال علي للزبير: اذكر لأمك، وقال الزبير لعلي: لا، اذكر أنت لعمتك، قالت: ما فعل حمزة ؟ فأرياها أنهما لا يدريان فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أخاف على عقلها فوضع يده على صدرها ودعا فاسترجعت وبكت، ثم جاء فقام عليه وقد مثّل به، فقال: لولا جزع النساء لتركته حتى يحصل من حواصل الطير وبطون السباع، ثم أمر بالقتلى فجعل يصلي عليهم، فيضع تسعة وحمزة فيكبر عليهم تكبيرات ثم يرفعون ويترك حمزة، ثم يؤتوا بتسعة فيكبر عليهم سبع تكبيرات ثم يرفعون ويترك حمزة، ثم يؤتوا بتسعة فيكبر عليهم سبع تكبيرات حتى فرغ منهم”.

3 - صبره صلى الله عليه وسلم على الجوع والفقر. نجد دائماً القمة التي لا يرقى إليها الراقون.
أخرج أحمد والطبراني وهذه رواية الطبراني:
“ أن فاطمة ناولت النبي صلى الله عليه وسلم كسرة من خبز الشعير، فقال: ما هذه ؟ قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتينك بهذه الكسرة، فقال لها: هذا أول طعام أكله أبوك منذ ثلاثة أيام”.
وأخرج ابن سعد والبيهقي عن ابن البحير:
“ أصاب النبي صلى الله عليه وسلم جوع يوماً فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه، ثم قال: ألا ربّ نفسٍ طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة، ألا ربّ مكرم لنفسه وهو لها مهين , ألا ربّ مهين لنفسه وهو لها مكرم” وحسّنه السيوطي.
فأنت ترى من هذه الأمثلة أنه ما من موطن من مواطن امتحان الصبر نجد عنده الصبر الذي لا يخالطه هلع، إنها أخلاق النبوة في أعلى كمالات البشر.


ثانياً: نماذج من رحمته صلى الله عليه وسلم:

1- هناك مواطن يفقد فيها الرحماء رحمتهم ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفارقه رحمته، يُؤذى ويُضرب ويُضطهد فيقول:
” اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون” ويوم فتح مكة وقد فعلت به ما فعلت، كان موقفه غير المتوقع كما قص عمر قال:” لما كان يوم الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة أرسل إلى صفوان بن أمية وإلى أبي سفيان بن حرب وإلى الحارث بن هشام قال عمر: فقلت : لقد أمكن الله منهم لأعرفنهم بما صنعوا حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين }.

2. وكانت رحمته تسع الناس جميعاً ويحس بها المستضعفون قبل الأقوياء، يقول عبد الله بن عمرو:” دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فجلس إلى الفقراء وبشرهم بالجنة وبدا على وجوههم البشر فحزنت لأنني لم أكن منهم”[10].

3 . وأخرج الشيخان عن أنس –رضي الله عنه- أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:” إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجوّز في صلاتي مما أعلم من وجد أمه من بكائه”.

4 . وبلغت رحمته الحيوان فكان أرحم الخلق به ، قال عبد الرحمن بن عبد الله:” كنا مع رسول الله في سفر فرأينا حمرة ( طائر مثل العصفور ) معها فرخان لها فأخذناهما فجاءت الحمرة تعرش ( ترفرف ) فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم قال: من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها”


ثالثاً: نماذج من حلمه صلى الله عليه وسلم:

1- روى أحمد عن عائشة قالت:” ما ضرب رسول الله بيده خادماً له قط، ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئاً إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خير بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثماً فإذا كان إثماً كان أبعد الناس من الإثم. ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتي إليه حتى تنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله”.

2 . وأخرج الشيخان عن أنس بن مالك:” أن امرأة أتت رسول الله بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله فسألها عن ذلك قالت: أردت لأقتلك، فقال: ما كان الله ليسلطك علي، أو قال: على ذلك. قالوا: ألا تقتلها ؟ قال: لا...”

3 . وأخرج الطبراني عن أبي أمامة – رضي الله عنه – قال: “ كانت امرأة ترافث الرجال ( أي تكلمهم كلاماً بذيئاً ) وكانت بذيئة فمرت بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل ثريداً على طربال فقالت: انظروا إليه يجلس كما يجلس العبد ويأكل كما يأكل العبد.
فقال النبي: وأي عبد أعبد مني ؟
قالت: ويأكل ولا يطعمني.
قال: فكلي.
قالت: ناولني بيدك، فناولنها.
فقالت: أطعمني مما في فيك، فأعطاها فأكلت فغلبها الحياء فلم ترافث أحداً حتى ماتت”.


رابعاً: نماذج من كرمه صلى الله عليه وسلم:

1 . أخرج الشيخان عن ابن عبسا – رضي الله عنه – قال : “ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقى جبريل عليه السلام. وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن قال: فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة”.

2 . وأخرج الشيخان عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال:” ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا..”.

3 . وأخرج أحمد عن أنس:” أن رسول الله لم يسأل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل فأمر له بشاء كثير بين جبلين ما شاء الصدقة، قال: فرجع إلى قومه فقال: يا قوم ! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء ما يخشى الفاقة”.
وزاد في رواية:” فإن كان الرجل ليجيء إلى رسول الله ما يريد إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه وأعز عليه من الدنيا وما فيها”.

4 . وأخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال:” جاءت امرأة إلى رسول الله ببردة فقالت: يا رسول الله جئتك أكسوك هذه، فأخذها رسول الله وكان محتاجاً إليها فلبسها، فرآها عليه رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه اكسنيها فقال: نعم. فلما قام رسول الله لامه أصحابه وقالوا: ما أحسنت حين رأيت رسول الله أخذها محتاجاً إليها ثم سألته إياها وقد عرفت أنه لا يسأل شيئاً فيمنعه. قال: والله ما حملني على ذلك إلا رجوت بركتها حين لبسها رسول الله لعلي أكفن فيها”.

5 . وأخرج أحمد عن أنس:” أن رسول الله لم يسأل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل فأمر له بشاء كثير بين جبلين ما شاء الصدقة، قال: فرجع إلى قومه فقال: يا قوم ! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء ما يخشى الفاقة”.


خامساً: نماذج من تواضعه وتياسره صلى الله عليه وسلم:

• ومن تواضعه - صلى الله عليه وسلم أنه قد مات ابنه إبراهيم، فكسفت الشمس فقال الناس:” كسفت الشمس لموت إبراهيم. فيقوم في المسجد : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا حياته .

• ومن تواضعه - صلى الله عليه وسلم أنه كان يكره الإطراء والألقاب: انطلق إليه وفد بني عامر، فلما كانوا عنده قالوا: أنت سيدنا، فقال: السيد الله، فقالوا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طوْلاً، فقال: قولوا قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان .

• ومن تواضعه - صلى الله عليه وسلم ما روي عن سهلِ بن سعدٍ رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : «أَنَا وكافلُ الْيتِيمِ في الجنَّةِ هَكَذَا » وأَشَار بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى ، وفَرَّجَ بَيْنَهُمَا » . رواه البخاري.

• ومن تواضعه - صلى الله عليه وسلم -: أنه لم يكن له بوَّابٌ يحجبه عن الناس ، وكان يرقي المرضى ويدعو لهم، ويمسح رأس الصبي ويدعو له[، وكان يشفع لأصحابه، ويقول: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء" رواه البخاري ، وقال لأنس - رضي الله عنه -: "يا بُنَيَّ" على سبيل الملاطفة والتواضع رواه مسلم.

• ومن تواضعه - صلى الله عليه وسلم ما قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: (خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لي أفٍّ قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته؟ ولا لشيء تركته لم تركته؟ وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خُلُقًا...) رواه البخاري .

من الأمثلة السالفة ثبت لنا من أمهات الأخلاق التي حاملها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه هو المثل الأعلى في كل خلق ، والنموذج الأرقى ممارسته ، هو الميزان الذي توزن بتصرفاته أخلاق البشر ويتحدد بهذه التصرفات حدود كل خلق فلا يطغى خلق على خلق .