يوم عرفة عيد ، ليس للمسلمين فقط ولكن لكل الناس ، عيد للمسلمين لأن عمدة أعمال الحج في يوم عرفة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال : "الحج عرفة " ، وهو اليوم الذي ينزل فيه ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء ، ولقد سُئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " : كفارة سنتين"، وهو عيد للناس عامة لأن فيه صدر أول إعلان عالمي لحقوق الإنسان .
لذلك قال يهودي في حضور عمر رضي الله عنه : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم آية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه ! فقال عمر : أي آية ؟ فقال" : اليوم أكملت لكم دينكم" . فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه ، والمكان الذي أنزلت فيه : يوم جمعة ، ويوم عرفة ، وكلاهما بحمد الله لنا عيد .
في هذا اليوم الجليل وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب عموم المسلمين المجتمعين معه في هذا الموقف المهيب ويخاطب العالم كله معلنا بيانا شاملا وضامنا لحقوق البشرية وحرياتها قبل صدور إعلان الأمم المتحدة بمئات السنين ، وفي هذه السطور نتعرض لبعض نصوص هذا الإعلان لنفخر به من ناحية ، ونأسى ونتألم لما تدنت فيه الحقوق والحريات في ظل الطغاة الظالمين .
تضمن البيان حق المساواة ونبذ العنصرية والطبقية ، وإلغاء الفوارق بسبب الجنس والعرق واللون والثروة ، فقال صلى الله عليه وسلم في بيان وإحكام " : يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى" رواه أحمد .
وفور دخول الإسلام مصر منذ أكثر من أربعة عشر قرنا ساد حق المساواة بين المصريين جميعا ، فيقتص عمر ابن الخطاب لابن القبطي من شخص عمرو بن العاص حاكم مصر ومن ابنه لان الأخير صفع ابن القبطي حال لعبهما معا ويقول عمر قولته المشهورة متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا .
وبعد الانقلاب المشئوم ضاعت المساواة بين إفراد الشعب ، فقد قسم الظالمون الأمة المصرية إلى وطنيين وأجانب ، مؤيدوهم فقط هم المواطنون ومعارضوهم هم أجانب وأعداءهم ، فسلب الإنقلابيون معارضيهم حق الحياة فقتلوا بعضهم وانتهكوا حرياتهم فحبسوا جلهم بلا جريرة وحجروا على فكرهم وآرائهم فمنعت ظهورهم على الإعلاميات المرئية والمقروءة والمسموعة .
ويقرر إعلان يوم عرفة حرية الأمة في اختيار الحاكم ويبين منزلته ، فلا مانع أن يصعد عبدٌ حبشي إلى قمة الحكم في الدولة الإسلامية وإذا وصل فله السمع والطاعة ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " : اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ ، مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" .
وقد كان المصريون القدماء يقدسونه الحاكم ويعتبرون الفرعون إله تقدم له القرابين ، فلما جاءهم الإسلام فأعادهم إلى بشرية الحاكم فهو يخطئ ويصيب ومن ثم يؤيد ويعارض ، يختارونه من بينهم ويتولى حكمهم ببيعتهم له وليس بخيرهم إن أحسن يعينوه وان أساء يقوموه ، ولا يخرجون عليه إلا إذا خرج هو عن دستورهم أو حرمهم حقوقهم ونال من حرياتهم .
وفي ظل ثورة 25 يناير يختار المصريون رئيسا مدنيا ولأول مرة بانتخاب حر مباشر ، ويتولي هذا الرئيس حكم بلاد نخر الفساد في جسدها وعقلها وقلبها ، وقد نهب المفسدون كل خيراتها ومقوماتها ، وفور بداية الرئيس للإصلاح يخرج عليه نفر من العسكر ليخطفوه وينقلبوا على الدستور الذي حدد أسلوبا واحدا لعزل الرئيس ، لا يملكه حزب ولا جماعة ولا حتى أغلبية الشعب إذا اجتمعوا عليه ، وهو الطريق الذي نظمه دستور 2012 في المادة 152 والتي تقابلها المادة 85 من دستور 1971 ، وذلك بعد اتهام البرلمان الرئيس بارتكاب جناية أو خيانة عظمى هي تعطيل الدستور كليا أو جزئيا أو تغير نظام الحكم إلى النظام الملكي ، ولا يعزل إلا بعد صدور حكم بإدانته من محكمة خاصة نص عليها الدستور .
ولقد قرر بيان عرفة حرمة الدماء والأموال وأمر بحفظ حقوق النساء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا" رواه البخاري ويقول أيضا": اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ" رواه مسلم .
ويدخل الإسلام مصر ينشر رحمته على المصريين جميعا ، يرفع عنهم ظلم الرومان فيحقن دماءهم ويصون أموالهم ، ويضمن حرية العقيدة وممارسة الشعائر فلا يعتدي على رهبانهم ولا تكسر صلبانهم ولا تسلب أموالهم ، وتبهرهم عدالة الإسلام وسماحته فيدخلون في دين الله أفواجا .
في حكومة الإنقلابيين لا حرمة لدماء المعارضين وأموالهم مباحة ، فعمد الظالمون على أن يصفوهم جسديا فطيارات الانقلاب تقصفهم ودباباته تهدم بيوتهم وقناصتهم تقتلهم ، وكما يقول الأستاذ وائل قنديل وهو يبكي : عدد الشهداء الذين قتلهم الجيش المصري من المصريين اليوم أضعاف من قتلهم الجيش المصري من اليهود ، فقد قتل الجيش ما يزيد عن خمسة ألاف مسلم مصري خلال شهر واحد منذ بدء الانقلاب , منهم ما يزيد عن ثلاثة ألاف تم قتلهم وحرق جثث معظمهم خلال بضع ساعات في ميدان رابعـة .
ولم تسلم المرأة المصرية الحرة سيدة كانت أم فتاة أم حتى طفلة من بطش الانقلابيين فقتلت حال خروجها مطالبة بالشرعية وحرقت أيضا في رابعة ، وأخذت رهينة حتى يسلم زوجها نفسه أو ابنها أو شقيقها ليحبسه الظالمون بلا جريرة ، ومن المضحكات المبكيات تقبض وتحال للتحقيق تلميذات الابتدائية بتهمة حيازة رمز رابعة العدوية .
ورغم هذا الطغيان المبين ، ستظل قيم بيان يوم عرفة باقية وستصبح واقع بيننا ، ما بقي المصريين أطفالا وشبابا وشيوخا رجالا ونساء في ميادين مصر وشوارعها بصدورهم العارية وأيديهم الفارغة ، يقفون في وجه الانقلابيين المدججين بمدافع دباباته وقذائف رشاشاته ، تخترق القذائف صدور من حولهم ويتقدمون ، وتحترق أجساد بعضهم ولا يتساقطون ، وتخنقهم قنابل الدموع ويهتفون ، وينتزعون من بين أزواجهم وأبنائهم في وقت السحر وهم صوب السجون فيبتسمون .
وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق