حينما يحسن المؤمن الاستفادة من شهر رمضان فيتلو كتاب الله الكريم متدبرا آيَاتِهِ وعاملا بأحكام فإنه يستشعر نورا يحيا به قلبه ويُشفى به صدره ، وحال صلاته وقيامه وتهجده خاشعا لله تعالى، وكذلك حال قيامه وركوعه وسجوده يأنس بالقرب من ربه ، فتزول غفلة قلبه وتهون في عينه زخارف الدنيا ومتعها ويتعلق قلبه باليوم الآخر .
وحال صيام المؤمن نهار رمضان يشعر عند جوعه بانكسار نفسه وانقشاع شهواته وكأن نفسه تحررت من رغبات الحياة، فيثمر صبره على الجوع رقةً في قلبه وفيضًا في مشاعره، فيعطي – في سبيل الله – الفقير والمحتاج بسخاء لا يخشى معه الفقر، واثقًا بأن ما كان لله أفضل مما بقي في يده .
فلا شك أن طاعته وإخلاصه لله في رمضان التي نتج عنها تحرر النفس من زخارف الدنيا ومتعها في عين المؤمن وتعلق قلبه باليوم الآخر ، وإنفاقه للمال إنفاق الواثق بأن ما كان لله أفضل مما بقي في يده ، تعني بصدق أن المؤمن تحلى بشمائل ( الزاهد في الدنيا ).
وحتى نتربى على الزهد لنتخلق به سائر أيامنا وفي كل أحوالنا، هيا بنا نتعرف على مفهوم الزهد لغة وإصطلاحا وعند السلف، ثم بيان حقيقته، وبيان الطريق إليه في الدنيا، ونقف على فضله وثمراته، لكي نلتمس أسباب التحلي بهذه الصفة العظيمة، تم نختم بذكر صور من زهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وبيان ذلك في الآتي :
أولا : مفهوم الزهد :
أ – الزهد في اللغة:
من فعل زهِد ومعناه أعرض، أو تخلّص من التّعلق بشيءٍ معين،
ومعنى الزّهد كذلك: الشّيء القليل، فيقال مبلغ زهيد أي قليل.
ب – والزهد اصطلاحاً:
هو العزوف عن الدّنيا ومتاعها وملذّاتها باعتبارها أمراً زائلاً، والرّضا بالقليل منها والقناعة بدون تكلف.
ج – تعريف السلف الصالح للزهد:
1 – سئل الزهري عن الزاهد فقال: من لم يغلب الحرام صبره، ولم يشغل الحلال شكره..
2 – وقال الإمام أحمد: الزهد في الدنيا: قصر الأمل واليأس مما في أيدي الناس.
3 – وقال إبراهيم بن أدهم: الزهد ثلاثة أصناف: فزهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فالزهد الفرض: الزهد في الحرام، والزهد الفضل: الزهد في الحلال، والزهد السلامة: الزهد في الشبهات.
ثانياً : حقيقة الزهد
أ - حقيقة الزهد أنه :
انصراف القلب والنفس عن طلب الدنيا، والعزوف عن متاعها وملذاتها، والرّضا بالقليل منها، وأن يكون ما في يد الله أوثق مما في يد العبد، وأن يكون حاله في المصيبة وحاله إذا لم يصب بها سواء، وأن يكون مادحه وذامه في الحق سواء.
ب - وليس من الزهد :
وليس من الزهد في الدنيا تحريم الحلال ولا إضاعة المال ولا الإعراض عن السلطة والحكم.
فلقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما ولهما من المال والملك والنساء ما لهما.
وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أزهد البشر على الإطلاق، وله تسع نسوة.
وكان علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد، مع ما كان لهم من الأموال.
ثالثاً : الطريق إلى تحقيق الزهد في الدنيا :
قال ابن القيم - رحمه الله -: "ولا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
النظر الأول: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها، وألم المزاحمة عليها، والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع، مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وحزن وغم بعد فواتها، فهذا أحد النظرين.
النظر الثاني: النظر في الآخرة، وإقبالها، ومجيئها، ولا بد من دوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا، فهي كما قال سبحانه: ﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ الأعلى: 17.
رابعاً : فضل الزهد وثمراته :
للزهد فضل عظيم وثمراته جليلة ورد ذكرها في آيات وأحاديث كثيرة، فهيا نتدبر هذه النصوص ليبين لنا هذا الفضل وتلك الثمرات لنسعى جاهدين للتخلق بهذه الفضيلة :
أ – الزاهد في الدنيا يحبه الله:
روى ابن ماجه عن سهل بن سعد الساعدي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس، فقال قال: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس) .
ب – الزهد مصدر الراحة والاطمئنان لأهله:
قال سبحانه:(مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) الحديد: 23 .
ج - الزهد نهج العلماء :
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ القصص: 78-80]
ففي هذه الآية نسب الزهد إلى العلماء ووصف أهله بالعلم وهو غاية الثناء.
د - الزهد من صفات أهل الآخرة :
قال سبحانه: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: 20], وقال تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[طه: 131].ةج
هـ - الزهد طريق إلى حب الله وحب الناس :
عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس» . حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره .
و – الدنيا حقيرة ومتاعها زائل:
قال سبحانه وتعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب) آل عمران: 14 .
ومن حقارة الدنيا ما رواه مسلم عن مُسْتَوْرِدً، أَخَو بَنِي فِهْرٍ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ – وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ – فِى الْيَمِّ فلينظر بم يرجع).
و - كفاف الدنيا ينفع والزائد منها مهلك:
فينبغي على الإنسان التقليل من الدنيا، قال عز وجل: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) يونس: 34 .
خامساً : صورمن زهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم :
أ - النبي صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا :
وهذه بعض الأحاديث التي تصف زهد النبي صلى الله عليه وسلم :
1. زهده في طعامه صلى الله عليه وسلم :
عن عَائِشَة رضي الله عَنْهَا قالت : (مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ بُرٍّ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ) رواه البخاري ومسلم.
وعنها رضي الله عنها قالت : (تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ) رواه البخاري ومسلم .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه : (مَا أَكَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم خُبْزًا مُرَقَّقًا ، وَلاَ شَاةً مَسْمُوطَةً حَتَّى لَقِىَ اللَّهَ) – مسموطة : أي : مشوية - رواه البخاري
2 . زهده في أثاثه ورياشه صلى الله عليه وسلم :
وعن عَبْد اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : (نَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً ؟ فَقَالَ : مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا) رواه الترمذي.
ودخلت امرأة أنصارية بيته صلى الله عليه وسلم ، فرأت فراشه مثنية، فانطلقت، فبعثت بفراش فيه صوف إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ((رُدِّيه يا عائشة، فوالله لو شئتُ لأجرى الله عليّ جبال الذهب والفضة)). قالت عائشة: فرددته. رواه البيهقي وأحمد
3 . تركته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته :
قال عمرو بن الحارث رضي الله عنه : (مَا تَرَكَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ سِلاَحَهُ وَبَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ ، وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً) رواه البخاري .
ب - زهد الصحابة رضوان الله عليهم :
1. زهد عبدالرحمن ابن عوف :
أخرج البخاري في صحيحه عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف أن عبدالرحمن ابن عوف رضي الله عنه أُتي بطعام وكان صائماً، فقال: قُتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو خير مني، فلم يوجد له ما يُكَفَّن فيه إلا بُردة، إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه، ثم بُسِط لنا من الدنيا ما بُسِط - أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا - قد خشينا أن تكون حسناتنا عُجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
2. زهد مصعب بن عمير رضي الله عنه :
أخرج البخاري ومسلم عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير رضي الله عنه، قتل يوم أحد وترك بردة، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه شيئاً من الإذخر. ومنا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدِبُها.
3. زهد خباب بن الأرت :
وهذا زهد خباب بن الأرت يدخل عليه بعض أصحابه وهو في مرض الموت فيقول لهم : إن في هذا المكان ثمانين ألف درهم ، والله ما شدَدْتُ عليها رباطًا قط ، ولا منعت منها سائلًا قط ، ثم بكى ، فقالوا : ما يبكيك؟! فقال أبكي لأن أصحابي مضوا ولم ينالوا من أجورهم في هذه الدنيا شيئًا ، وإني بقيت فنلت من هذا المال ما أخاف أن يكون ثوابًا لتلك الأعمال ) أخرجه أبو يعلى والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في الحلية .
4. زهد سلمان الفارسي :
وهذا سعد ابن أبي وقاص يذهب إلى سلمان الفارسي يعوده فرآه يبكي ، فقال له سعد : ما يبكيك يا أخي ؟ أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أليس ..؟ قال سلمان : ما أبكي واحدة من اثنتين ، ما أبكي ضَنًّا على الدنيا ، ولا كراهية في الآخرة ، ولكن رسول الله صلى الله عليه عهد إلينا عهدًا ما أراني إلا قد تعدَّيت ، قال : وما عَهِد إليك ؟ قال : عَهِد إلينا أنه يكفي أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب ، ولا أراني إلا قد تعدَّيت فجُمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر درهما ) أخرجه ابن حبان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق