المسلم عزيز كريم لا يرضى لنفسه الذل والمهانة، ولا يقبل بالخضوع والخنوع لغير الله، واثقا من نصر الله له مهما كانت قوة العدو وجبروته ، فعليه أن يتسلح بالصبر والثبات عند لقاء العدو .
والثبات عنصر مهم في نجاح الدعوات ، فكما تحتاج الدعوة إلى الفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة، فهي تحتاج إلى الثبات.. وبدونه لا تبقى دعوة.. ولا ينعقد للأمة نصر ، ومن أجل هذا جعل الإمام الشهيد الثبات ركنا من أركان البيعة، مسترشدا بهدي القرآن، وسيرة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم .
فدعوة الله لا تحيا ولا تنتشر ودين الله لا يقوم في أرضه إلا بصنف من الرجال مخلصين عاملين يجاهدون ويضحو ويثبتون بلا كلل ولا ملل ولا انقطاع ولا فتور أمام المحن والابتلاءات، والإغراءات والتهديدات ، ، قال الله تعالى : ( يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) إبراهيم- 27.
وفي هذه السطور نبين كيف حث القرآن والسنة على الثبات عند لقاء العدو ، والمواطن التي يمتحن فيها الثبات ، ووسائل الثبات ، وثمراته ، وعوامل النصر الحقيقي ، و صور من ثبات الصحابة حال الإستضعاف، وتفاصيل ذلك في الآتي :
أولا : الثبات عند لقاء العدو في الكتاب والسنة :
أ - وقد ورد في كتاب الله تعالى الكثير من النصوص تحث على الثبات عند لقاء العدو منها :
قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الأنفال : 45.
وقال ألله تعالى : (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )البقرة - الآية 250 .
وقال ألله تعالى : ( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ )الأنفال - الآية 12
ب - ولقد زرع الرسول صلى الله عليه وسلم الثبات في قلوب أصحابه عند لقاء العدو بقوله :
"لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط من الحديد، ما دون عظامه من لحمٍ أو عصبٍ، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتمِّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه"
هكذا رواه البخاري عن الخباب بن الأرت حال طلبه من الرسول الدعاء وهو يعاني من الاضطهاد والتعذيب والحرمان .
وهكذا كانت سمات المؤمن الذي تربي على كتاب الله وسنة رسوله أن لا يخاف أو يخشى إلا الله واثقا من تمكين الله له في الأرض، مهما كانت التضحيات .
ثانيا : المواطن التي يمتحن فيها الثبات :
أ - الثبات فى الميدان عند الزحف:
فحين تتقابل الصفوف والرايات فى ساحة من الساحات يكون الثبات هو واجب الساعة؛ امتثالاً لأمر الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا” (الأنفال: 45)،
وقال الله تعالى:”أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُوا مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ *ولَقَدْ كنتم تمنون المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وأنتم تنظرون”(آل عمران:142 – 143).
ب - الثبات في الفتن الاضطهاد والطغيان والظلم .
ويُمثِّلها أروع تمثيل قول الله عز وجل:”قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الوَقُودِ * إذْ هُمْ عليها قعود * وهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * ومَا نقموا منهم إلا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ * الَّذِى لَهُ ملك السموات والأَرْضِ واللَّهُ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيدٌ”(البروج: 4 -9).
ج - الثبات أمام بطش الظالمين:
يُعْتَبر البطش والتنكيل من أساليب المبطلين الشائعة والمتكررة عبر التاريخ، حين يغيظهم استمساك أهل الحق وصلابتهم، فيثورون عليهم محاولين القضاء عليهم -إن استطاعوا- أو إزاحتهم عن طريقهم على الأقل بكل الوسائل الدنيئة، وقد ذاق الصحابة الكرام العذاب ألوانًا من أعدائهم، فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا ، فهذا بلال رضي الله عنه يُجرَّد من ثيابه ويُلْقَى على نار البطحاء، وتُوضع الصخرة العظيمة الملتهبة على صدره، فلا يزال يعلن عقيدته:(أَحَدٌ.. أَحَد)، مستخفًّا بهؤلاء الظالمين، متحديًا لهم، مُصِرًّا على مبدئه معتزا به مهما لاقى فى سبيله.
د - الثبات عند علوِّ الأعداء:
فقد يُصَاب الإنسان بحالة من اليأس والقنوط عند ارتفاع شأن الأعداء وعلو راياتهم، ولكن المسلم الواثق بنصر الله تعالى والواعي لدينه العامل له بإخلاص وتجرد يعى تمامًا أن الحرب جولات، وأن النَّصْر للمؤمنين حين يستوفون موجباته، وأن عُلُوّ الباطل وأعوانه ما هو إلا لوقت محدود، وأن العاقبة لمن اتقى.
ثالثا : وسائل الثبات عند لقاء العدو :
أ - الإقبال على القرآن :
القرآن العظيم وهو حبل الله المتين ، والنور المبين ، من تمسك به عصمه الله ، ومن اتبعه أنجاه الله ، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم ، ومن ثم فالقرآن الكريم هو وسيلة الثبات الأولى ، ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) ( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا * فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) .
ب - التزام شرع الله والعمل الصالح :
قال الله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} إبراهيم /27 . قال قتادة : ” أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح ، وفي الآخرة في القبر ” . وقال سبحانه :{ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً }النساء /66 . أي على الحق .
ثالثاً : تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل :
والدليل على ذلك قوله تعالى :{ وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} .
ج - الدعاء :
: من صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم : { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } ، { ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا } ..
د - ذكر الله
: وهو من أعظم أسباب التثبيت . تأمل في هذا الاقتران بين الأمرين في قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً } الأنفال/45 .
و - ممارسة الدعوة إلى الله عز وجل :
النفس إن لم تتحرك تأسن ، وإن لم تنطلق تتعفن، ومن أعظم مجالات انطلاق النفس : الدعوة إلى الله ، فهي وظيفة الرسل ، ومخلصة النفس من العذاب ؛ فيها تتفجر الطاقات ، وتنجز المهمات قال تعالى ( فلذلك فادع ، واستقم كما أمرت ) . فإن النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية ، والإيمان يزيد وينقص .
ز - الالتفاف حول العناصر المثبتة :
تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبرنا به عليه الصلاة والسلام : ( إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر )حسن رواه ابن ماجة ، البحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين ، والالتفاف حولهم معين كبير على الثبات .
ح - الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام :
نحتاج إلى الثبات كثيرا عند تأخر النصر ، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها ، قال تعالى : { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة }آل عمران .
ط - معرفة حقيقة الباطل وعدم الاغترار به :
فيقول الله عز وجل:{لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد} آل عمران /196 تسرية وفي قوله عز وجل : { فأما الزبد فيذهب جفاء } الرعد /17 عبرة لأولي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له .
ي - استجماع الأخلاق المعينة على الثبات :
وعلى رأسها الصبر ، ففي حديث الصحيحين : ( وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر ) رواه البخاري وأشد الصبر عند الصدمة الأولى .
رابعا : ثمرات الثبات عند لقاء العدو :
للثبات عند لقاء العدو ثمار عديدة، منها :
أ - تعبيد الناس لرب العالمين :
وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله وفي الآخرة رضوان الله وجنته والنجاة من سخطه والنار ، وقد نبه الله سبحانه إلى خيرية الجهاد في الدنيا والآخرة في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216).
ب - تظهر حقيقة المحبة لله عز وجل وصدق العبودية له :
فحال لقاء العدو يظهر الصادق فيها من الكاذب؛ وفي سبيل الله تعالى تقدم الروح رخيصة لله تعالى ، وذلك من أقوى البيان على صحة دعوى المحبة لله تعالى ولدينه، وبالجهاد يمحص ما في القلوب ويبتلى به ما في الصدور ويتخذ الله عز وجل من شاء من عباده شهداء.
(يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَـافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: من الآية54).
ج - تصقل عقيدة الولاء والبراء والحب في الله والبغض في الله :
فهذه العقيدة صلب التوحيد وأسه المتين ، وتقوى بالجهاد في سبيل الله تعالى، والدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنها تضعف ويصيبها الوهن بترك ذلك أو ضعفه ، قال الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71).
د - نشر التوحيد وشريعة الإسلام التي يهنأ الناس في ظلالها :
وبلقاء العدو والنصر عليه يرتفع عن البشرية الظلم والشقاء بارتفاع الشرك الذي فيه استعباد الناس وظلمهم وقهرهم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (الصف:10-13).
ه - عيش المسلمون حياة طيبة عزيزة :
وبلقاء العدو والنثر عليه تخلو حياة المسلمين من التذلل للكفار والبقاء تحت سيطرتهم وقهرهم ، ففي الثبات إلجام لأعداء الدين، وعز للدعاة والمصلحين والتمكين لأهل الحق.
صيانة عرض العلماء من أن يخوض فيه أهل الأهواء والأباطيل، فلو كان صف العلماء متذبذب الوحدة، ومشتت الكلمة، لأصبحوا محط السخرية والشتم، وفي ثباتهم تثبيت للعامة وباقي الأمة.
خامسا : عوامل النصر الحقيقية:
قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون، وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين. ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط ..
ومن خلال هذه الآيات الكريمات حدد الأستاذ سيد قطب في الظلال عوامل النصر الحقيقية بأنها : الثبات عند لقاء العدو ، والاتصال بالله بالذكر ، والطاعة لله والرسول ، وتجنب النزاع والشقاء ، والصبر على تكاليف المعركة ، والحذر من البطر والرئاء والبغي ، وبيان هذه العوامل في الآتي :
1 . الثبات عند لقاء العدو :
فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر. فأثبت الفريقين أغلبهما. وما يدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون وأنه يألم كما يألمون، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون; فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار; وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر؟ بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا; وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها، ولا حياة له سواها؟!
2 . والاتصال بالله بالذكر :
وأما ذكر الله كثيرا عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن; كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة،
إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى: إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب; والثقة بالله الذي ينصر أولياءه.. وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها، فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا لا للسيطرة، ولا للمغنم، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي..
3 . والطاعة لله والرسول ، لتجنب النزاع والشقاق :
وأما طاعة الله ورسوله، فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء; فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم .. فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه; وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار. فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة .
4 . والصبر على تكاليف المعركة :
وأما الصبر. فهو الصفة التي لا بد منها لخوض المعركة.. أية معركة.. في ميدان النفس أم في ميدان القتال. (واصبروا، إن الله مع الصابرين ) وهذه المعية من الله هي الضمان للصابرين بالفوز والغلب والفلاح..
5 . الحذر من البطر والرئاء والبغي :
يبقى هذا التعليم ليحمي العصبة المؤمنة من أن تخرج للقتال متبطرة طاغية تتعاجب بقوتها! وتستخدم نعمة القوة التي أعطاها الله لها في غير ما أرادها ، قال الله تعالى : ( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط )
والعصبة المؤمنة إنما تخرج للقتال في سبيل الله لتقرير ألوهيته سبحانه في حياة البشر، وتقرير عبودية العباد لله وحده ، ولتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله في تعبيد العباد له وحده، والتي تزاول الألوهية في الأرض بمزاولتها للحاكمية - بغير إذن الله وشرعه - وتخرج العصبة المؤمنة لإعلان تحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل عبودية لغير الله، تستذل إنسانية الإنسان وكرامته.
سادسا : من صور الثبات :
1 ) ثبات عمار بن ياسر وعائلته الأيوبية :
عندما علم صناديد قريش عن إسلام بعض الصحابة من المستضعفين منهم، مارسوا معهم التعذيب الجسدي بشتّى أشكاله، وقد نال عمار من تلك المعاناة العصيبة الحصة الكبرى والحظ الأوفر، حيث لم يترك المشركون وسيلة من وسائل القهر والتعذيب إلاّ واستعملوها معه، فكانوا يسحبونه على الرمضاء المحرقة مجرداً من ثيابه، ثم يضعون صخرة كبيرة على صدره، فإن يئسوا منه لجأوا إلى تفريقه بالماء بغمس وجهه ورأسه حتى يختنق أو يشرف على الموت، ليس ذلك فحسب، بل وصل العذاب إلى أمه وأهانتها وقتلها بحربة في فرجها أردتها صريعة، وأينا يطيق أن تمسأمه بسوء، وقد علم عمّار أن ما أصابه وأصاب أمّه إنما هو بسبب الإسلام، ومع ذلك صبر وثبت فنال الدرجات العلى، فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأبي عمار وأم عمار وعمار: (اصبروا آل ياسر موعدكم الجنة )وهذا جزاء الثبات على الحق، وأنعم به من ثواب.
2 ) ثبات بلال بن رباح :
كان بلال بن رباح من المسلمين المستضعفين وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى; فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد، فسجلها التاريخ كلمةً خالدة منم وقف جبّار، ومن منّا يطيق ما أصابه، وما كان ذلك إلا من صدق إسلامه، وقوة عزيمته.
3 ) ثبات كعب بن مالك :
ورد في صحيح البخاري قصة كعب بن مالك الطويلة، في قصة الثلاثة الذين خلفوا عن المسلمين عن غزة تبوك ، وكان كعب ميسور الحال والمال ولم يكن شيء يعيقه سوى الركون وحب الدنيا، قال كعب: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف،فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأماأنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو فيم جلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهوا بن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت: يا أبا قتادة ، أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت له فناشدته فسكت، فعدتله فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار. قال:فبينا أنا أمشي بسوق المدينة، إذا نبطي من أنباط أهل الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان، فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها.
ومنت جمعت عليه هذه المصائب، وتنكر المسلمين عليه، وانصرف عنه حتى الصبيان والسفهاء،ثم جاءته دعوة من ملك الغساسنة يواسيه فيها ويطلب منه اللحاق بهم وترك المسلمين ليعيش مع الملوك ويصغي له كل الناس، ومع ذلك صبر على بلاء وثبت على امتحانه حتى أتاه الفرج من عند الله عز وجل فقد قال تعالى: (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الذين خلفوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وضاقت عليهم أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إليه ثم تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
4) ثبات إمام أهل السنة أحمد بن حنبل :
عندما آمن المأمون بفكرة خلق القرآن وأجبر العلماء على القول بذلك، وعذّب وقتل مني خالف هذا القول، كان الإمام أحمد بما أعطاه الله من العلم ثابتاً على الحق، فأتى به أمام السلطان وسُئل، فقال إن القرآن منزل من عند الله قال تعالى: (كتاب أنزلناه إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وليتذكر أولوا الْأَلْبَابِ) ، فجلد الإمام أحمد حتى أغمي عليه وتقطع جلده، ثم وضعوا عليه حصيرا وداسوه بأقدامهم، ومنع الإمام أحمد من تحديث الناس، وزاد في الشدة عليه من بعده ابنه الواثق وهو لا يزال ثابت، ونقل عن المرمزي أنه قال: دخلت على الإمام أحمد أيام المحنة، فقلت: يا إمام قال الله: (ولا تقتلوا أنفسكم)، فقال: “يا مرمزي،اخرج فانظر إلى رحبة دار الخليفة. فرأيت خلقاً من الناس لا يحصي عدهم إلا الله والصحف في أيديهم والمحابر والأقلام في أيمانهم، فقلت لهم: أي شيء تعملون؟ قالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه، فقلت: مكانكم. فدخلت إلى الإمام فقلت له ما رأيته. فقال: يا مرمزي أأضل هؤلاء كلهم؟ أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء. ومن ذلك: ما قاله علي بن ألمديني رحمه الله تعالى: “أعز الله الدين بالصديق يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق