الخميس، 13 يونيو 2019

من ثمرات رمضان ... 4 - علو الهمة اعداد : محمد أبوغدير

علو الهمة خلق رفيع ، تهفو إليه الفطر القويمة ، وتعشقه النفوس الكريمة ، وأهل الهمة العالية هم صفوة الأمة ، وأهل المجد والكرم ، فالحياة عندهم ايمان وجهاد وبر وفلاح ، وصبر وثبات ، فهم فرسان بالنهار رهبان بالليل تغلبوا على شهواتهم فسمت أرواحهم وارتفعت درجاتهم .

الهمة عمل قلبي، والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه، كذلك يطير المرء بهمته، فتحلق به إلى أعلى الآفاق، طليقةًً من القيود التي تكبل الأجساد..

ولقد حث القرآن الكريم والسنة النبوية على علو الهمة ، وبيان مكانتها في الإسلام ، ولعلو الهمة أسباب كثيرة هي ثمرات لطاعات رمضان المتنوعة


أولا : معني علو الهمة :

عرف احد السلف علو الهمة بأنه : توجه القلب بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق وطلب المراتب السامية بقصد حصول الكمال واستصغار ما دون النهاية من معالي الأمور  .

الهمة عمل قلبي، والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه، كذلك يطير المرء بهمته، فتحلق به إلى أعلى الآفاق، طليقةًً من القيود التي تكبل الأجساد .

وقال الراغب الأصفهاني:  والكبير الهمة على الإطلاق : هو من لا يرضى بالهمم الحيوانية قدر وسعه ، فلا يصير عبد رعاية بطنه وفرجه، بل يجتهد أن يتخصص بمكارم الشريعة .


ثانيا : مكانة علو الهمة :

1 . الهمة أبلغ من العمل :

وهمَّة المؤمن أبلغ من عمله قال صلى الله عليه وسلم : ( من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة  ) رواه البخاري
وقال صلى الله عليه وسلم: ( من سأل الله الشهادة بصدقٍ، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه ) رواه مسلم وغيره
وقال صلى الله عليه وسلم فيمن تجهز للجهاد ، ثم أدركه الموت: " قد أوقع الله أجره على قدر نيته " رواه الإمام أحمد وغيره


2 . صاحب الهمة سباق :

وقد يتفوق المؤمن بهمته العالية ، قال صلى الله عليه وسلم في قوله: ( سبق درهم مائة ألف) ، قالوا : يا رسول الله ، كيف يسبق درهم مائة ألف ؟! ، قال: ( رجل كان له درهمان ، فأخذ أحدهما ، فتصدق به ، وآخر له مال كثير ، فأخذ من عَرْضها مائة ألف ) رواه أحمد وغيره .
وقال ابن القيم: ( فمن علت همته، وخشعت نفسه، اتصف بكلِّ خلق جميل. ومن دنت همته، وطغت نفسه، اتصف بكلِّ خلق رذيل ) الفوائد .


4 . صاحب الهمة سباق :

كما قال صلى الله عليه وسلم في قوله: ( سبق درهم مائة ألف) ، قالوا : يا رسول الله ، كيف يسبق درهم مائة ألف ؟! ، قال: ( رجل كان له درهمان ، فأخذ أحدهما ، فتصدق به ، وآخر له مال كثير ، فأخذ من عَرْضها مائة ألف ) رواه أحمد وغيره .


ثالثا :رمضان مدرسة الارتقاء الإيماني :

لقد من الله على المؤمنين بشهر رمضان  يهيئهم لعلو الهمة ، فقد ثبت في صحيح السنة أن الله ينظر لعباده فهذا الشهر المبارك فلا يعذبهم ، والملائكة تستغفر لهم ، والجنة تتزين لهم ، ويغفر الله لهم ، وفيه تفتح لهم أبواب الجنة وتغلق النار وتسلسل الشياطين .
 في رمضان ترتقي المشاعر فتتعلق  القلوب بالمساجد ويكون الفوز بالجنة .

ورمضان شهر القرب من الله والتزود من الخيرات والطاعات ، فتتعلق فيه القلوب بالمساجد ويسعى الصائمون للبكور في الصلاة وقراءة القرآن ومجالس العلم والذكر طوال الشهر الكريم ، رغبة منهم في التزود منه للوصول إلى الدرجات العلا في الجنة .

 ولهذا كان رمضان شهر الارتقاء الإيماني وسمو الطاعة لكل المسلمين، فالمسلم الفاسق يقل فسقه فيه ، والمسلم الذي يسدد ويقارب يكون في رمضان أكثر تسديدا ومقاربة ، أما المسلم المجتهد زاد اجتهاده في رمضان كانت كافة طاعاته إيمانا واحتسابا واسبابا لعلو همته وبيان ذلك فيما ياتي.


رابعا : أسباب علو الهمة ثمرات طاعات رمضان :

ولعلو الهمة اسباب هي : الإخلاص واليقظة والتنافس في الصالحات ، والتطلع إلى الكمال والحرص على الوقت وتوظيفه ،  وطلب العلم والسعي لإصلاح واقع الأمة ومصاحبة أصحاب الهمم ومطالعة سيرهم ، وهذه الأسباب هي ثمرات لطاعات رمضان المتنوعة ، وبيان هذه الأسباب وكيف كانت ثمرة لهذه الطاعات في الآتي :

1 . الإخلاص :

  عرف ءحد السلف الإخلاص بأنه : نسيان رؤية المخلوقين بدوام النظر إلي الخالق تبارك وتعالى بأن تكون المشاعر والشعائر والشرائع من الله تعالى وله وحده لا شريك له سبحانه ، والإيمان الجازم بأن الناقد بصير ، يقول الإمام بن القيم رحمه الله : لقاح الهمة العالية: النية الصالحة ، والإخلاص هو أول أسباب علو الهمة .

ورمضان يربي المؤمنين على الإخلاص ، لأنَّ الصِّيام سرٌّ بين العبد وربِّه لا يطَّلع على ذلك غيره ، وحقيقته ترك حظوظ النَّفس وشهواتها الَّتي جبلت على الميل إليها لله عزَّ وجل ، ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله : صلى الله عليه و سلم ، قال الله تعالى : ( كُلُّ عَمَل ابن آدم لَهُ إلاَّ الصومَ فإِنَّه لي وأنا أجزي بهِ .... ) .
ولمَّا صار الصِّيام دليل إخلاص العبد ، وعنوانًا على نَبْذِ كلِّ رياء، ومعقد السِّرِّ بين العبد وربِّه في الدُّنيا ، فإنه يرفع همة المسلم ويعينه على فعل العالى من الإعمال واستسهال الصعب وبذل الغالى والثمين إبتغاء رضا الله والفوز بالجنة .


2 . الاجتهاد والمثابرة في طلب العلم   وتحصيله :

من أعظم ما يعين على علو الهمة طلب العلم ومطالعة ما أعده الله عزَّ وجلَّ لطالب العلم والعلماء ، فإنَّ الله سبحانه قد ذكر العلماء في كتابه فقال : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ ) آل عمران : 18.
 والخشية لله التي هي سبب الفوز لديه وقد جعلها الله من سمات العلماء  فقال: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) فاطر : 28.
وأخبر عباده بأنه يرفع علماء أمته درجات فقال : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) المجادلة :11 .

ورمضان شهر العلم والذكر ، والمساجد بيوت الله التي أمر سبحانه أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، قال تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال ِ} النور: 36 ،
وفي رمضان كان جبريل يلقى رسول الله ويتدارس معه القرآن ، كما روى البخاري عن بن عباس رضي الله عنهما، قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن .
 الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده).  رواه مسلم .
  وارتفعت همة المؤمن بمشيه إلى المساجد ومكثه فيها فارفتع درجاته وحطت خطاياه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً)) رواه مسلم .


 3 . اليقظة والتنافس في الصالحات :

من أسباب علو الهمة أن يخلع المؤمن ثوب النوم والرقاد فيفارق بيقظته جموع الغافلين ، ويعرض عن أفعال الجاهلين ، فلا يقر له قرار حتى يسكن في جنة عرضها السموات والأرض ، فقال الله تعالى : ( وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) آل عمران آية 133 .
قال الحسن: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره. ، وقال وُهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل)

ورمضان طريق اليقظة والتنافس في الصالحات ، والتخفف من الأوزار والتغافر والتسامح بين المؤمنين ، وقد تحققت هذا لى المؤمن حال صيام رمضان إيمانا واحتسابا وبمغفرة الله له ما تقدم من ذنبه ، وكذلك حال قامه رمضان بصفة عامة ومن قام ليلة القدر بصفة خاصة حيث مغفرة الله له ما تقدم من ذنبه .
 والتوبة سبب للفلاح والتدافع لعمل الصالحات والتنافس عليها ، قال الله تعالى : {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) النـُّـور ، من الآية: 31 .


4 . التطلع إلى الكمال والترفع عن النقص:

صاحب الهمة العالية يتطلع دائما إلى الكمالات ، ويترفع عن الدنايا ، وفي الحديث الشريف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  ( إن الله يحب معالي الأمور ، ويكره سفسافها ). أي يبغض الرديء الحقير من كل شيء وعمل.
وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله : صلى الله عليه و سلم ، قال الله تعالى : ( .... والصِّيامُ جُنَّةٌ فإِذا كان يومُ صومِ أحدِكم فَلاَ يرفُثْ ولا يصْخَبْ فإِنْ سابَّهُ أَحدٌ أو قَاتله فَليقُلْ إِني صائِمٌ ،  ) .

وصيام المؤمن في رمضان وفي سائر الشهور وسيلة الى الكمال والبعد عن النقائص ، فبالصوم أرتقت المشاعر وتهذب الجوارح وسمت الأخلاق ومن آداب الصائم غض البصر ويثمر فوائد كثيرة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال : ( غض البصر يورث ثلاث فوائد : حلاوة الإيمان ولذته ، نور القلب والفراسة ، قوة القلب وثباته وشجاعته ) .
ومن وجوه التَّقوى أنَّ الصَّائم يترك ما حرَّم الله عليه من الأكل والشُّرب وسائر المفطرات الَّتي تميل النَّفس إليها، متقرِّبًا بذلك إلى الله تعالى، راجيًا ثوابه.رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) .


5 . الحرص على الوقت وتوظيفه :

 فأصحاب الهمم العالية يحرصون على كل ثانية  فالوقت هو الحياة ، وإنما سعد من سعد ، وارتقى من ارتقى في مراتب المجد من استثمر الأوقات وكان حريصا على الدقائق واللحظات .

والطاعة في شهر رمضان علمت المؤمن الحرص على الوقت وتوظيفه ، فالمسلم يستيقظ قبلَ الفجر ليتهجد حيث قال الله تعالي: " أمَن هو قانتٌ آناء الليل ساجداً وقائماً يحذرُ الآخرة ويرجو رحمة ربه " سورة الزمر ، ثم السحور حيث قال رسول الله صلي اله عليه وسلم :"تسحروا فإن في السحور بركة " متفق عليه ، وفي وقت السحر  يكون الاستغفار حتي آذان الفجر حيث قال تعالي : " وبالأسحار هم يستغفرون " سورة الذاريات ، ثم أداء سنة الفجر لقوله رسول الله صلي الله عليه وسلم  : ( ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها " .
وربط النبي صلى الله عليه وسلم بين الصوم والعمل , فقَالَ عن شهر شعبان انه ( . . .  شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِى وَأَنَا صَائِمٌ. )رواه أحمد والنسائي عن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ .


6 . الاهتمام بواقع الأمة والسعي لإصلاحه :

اصحاب الهمة العالية أشد انشغالا بقضايا أمتهم واحساسا بآلامها ، فيفرحون لفرحها ، ويحزنون لماأصابها .
قال الله تعالى : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) آل عمران : 104 .
ويدفعهم ذلك الشعور إلى العمل لرفعتها وعزها واستعادة سؤددها وكرامتها ، فيوقنون بمسؤليتهم نحو أمتهم ويسعون إلى إصلاح المجتمع الذي يعيشون فيها .

وفي رمضان توثقت روابط الأمة ، وتقوت صلة الأرحــام وذوى القــربى ، حيث تم التزاور بين الأسر والعائلات ، وفيه سعى المؤمنون لقضاء حوائج بعضهم بعضا ، ولزكاة الفطر اثرها الفعال في تحقيق التكافل ، وكذلك الكفارة على من يفطر يوما عمدا ، فضلا عن تبادل الهدايا المالية والعينية بين المسلمين بصفة .
ورمضان شهر التغيير والإصلاح ، وتصاحب هذا الشهر الكريم انطلاقة قوية وصادقة لعودة الأمة إلى الله تبذل فيها الجهود الكبيرة لواجب الدعوة الى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبصيرا وهداية للغير ممن غفل عن الحق والهدى، قال الله تعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) الرعد :11 .
وهذا هو الطريق لوصول الأمة إلى العزة والقوة والجهاد والنصر فيه بإذن الله, قال تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ) محمد:7 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق