مقدمة :
قيام الليل أن تخلو بربك والناس نيام وقد سكن الكون كله وأرخى الليل سدوله وغابت نجومه ،
فتستحضر قلبك وتتذكر ربك وتتمثل ضعفك وعظمة مولاك ، فتأنس بحضرته ويطمئن قلبك بذكره وتفرح بفضله ورحمته ،
وتبكى من خشية الله وتشعر بمراقبته ، وتلح في الدعاء وتجتهد في الاستغفار ، وتفضي بحوائجك لمن لا يعجزه شيء ، ولا يشغله شيء عن شيء ،وتسأل الله لدنياك وآخرتك وجهادك ودعوتك وآمالك وأمانيك ووطنك وعشيرتك ونفسك وإخوتك ،
وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.
والحديث عن معنى الليل يقتضي تعريفه ، وبيان مشروعية ، وهدي النبي فيه ، ووسائله ، وكونه بداية النصر وطريق النجاح ، وثمراته وفضله ، ووسائل تيسيره ، وبيان ذلك في الآتي :
أولا : تعريف قيام الليل :
قيام الليل هو قضاء معظم الليل أو جزء منه او بعض الوقت للصلاة، او تلاوة القرآن، أو الذكر والإستغفار ، أو الدعاء ، تبدأ بعد صلاة العشاء حتى صلاة الفجر، ويفضل أن تكون بالثلث الأخير من الليل
ثانيا : مشروعية قيام الليل
من القرآن الكريم :
قال تعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون } السجدة :16 .
وقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الذاريات :18،17.
وقال تعالى أيضا : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } الزمر:9.
ومن السنة المطهرة :
قوله عليه الصلاة والسلام: {عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم،ومطردة للداء عن الجسد } رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني .
وقال صلى الله عليه وسلم : { أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس } رواه الحاكم والبيهقي وحسنه الألباني .
وذكر عند النبي رجل نام ليلة حتى أصبح فقال: { ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه !! } [متفق عليه].
وقال عليه الصلاة والسلام : { أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل } رواه مسلم.
ثالثا : هدي النبي في قيام الليل:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: { كان النبي يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. فقالت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ }متفق عليه
وعن حذيفة قال: { صليت مع النبي ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مُتَرَسلاً، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوّذ تعوذ... الحديث } [رواه مسلم] ،
وعن ابن مسعود قال: { صليت مع النبي ليلة، فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء. قيل: ما هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأَدَعَهُ ! } متفق عليه.
رابعا : وسائل إحياء قيام الليل :
أ - صلاة الليل :
صلاة قيام الليل هي : ما يصليه المسلم نفلا بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، والأفضل تأخير صلاة الوتر عنها، وإذا صلاها قبلها صحت ، وأما صلاة التهجد فهي ما يصليه المرء بعد قيامه من النوم في السدس الأخير من الليل إلى طلوع الفجر .
حث الله المؤمنين ورغبهم في قيام الليل والصلاة فيه فقال تعالى: ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ) الإسراء ، وقال أيضا مادحاً المؤمنين: (والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً 9)الفرقان، وقال سبحانه يصف قيام الليل: (إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً ) المزمل.
وقت التهجد هو الثلث الأخير من الليل ، وقد حث النبي على قيام الليل ورغّب فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: {عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم،ومطردة للداء عن الجسد} رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني .
وقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة النبي بالليل؟ قالت: " كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه فإذا أذن المؤذن وثب فإن كان به حاجة اغتسل، وإلا توضأ وخرج " رواه البخاري
ب - استغفار السحر :
الاستغفار : هو طلب المغفرة للذنوب والإقالة من العثرات من الله العزيز الغفار، وأفضل وقت للاستغفار هو وقت السحر قال تعالى : ( وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الذريات :18 .
وقد حث الله المؤمنين ورغبهم في الاستغفار فقال تعالى ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199]، وقوله: ﴿ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 18]، وقوله: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 135]، وقوله: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110].
وأفضل صيغ الإستغفار سيد الإستغفار عنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي اللَّه عنْهُ عن النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قالَ : « سيِّدُ الاسْتِغْفار أَنْ يقُول الْعبْدُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي ، لا إِلَه إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَني وأَنَا عَبْدُكَ ، وأَنَا على عهْدِكَ ووعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما صنَعْتُ ، أَبوءُ لَكَ بِنِعْمتِكَ علَيَ ، وأَبُوءُ بذَنْبي فَاغْفِرْ لي ، فَإِنَّهُ لا يغْفِرُ الذُّنُوبِ إِلاَّ أَنْت منْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِناً بِهَا فَمـاتَ مِنْ يوْمِهِ قَبْل أَنْ يُمْسِيَ ، فَهُو مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ ، ومَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وهُو مُوقِنٌ بها فَمَاتَ قَبل أَنْ يُصْبِح، فهُو مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ(.
ج - الدعــــاء :
الدعاء هو : استدعاءُ العبدِ ربَّه عزَّ وجلَّ العنايةَ، واستمدادُه منه المعونةَ. وحقيقته: إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتبرُّؤ من الحول والقوّة، وهو سمةُ العبودية، واستشعارُ الذلَّة البشريَّة، وفيه معنى الثناء على الله عزَّ وجلَّ، وإضافة الجود والكرم إليه.
وقد حث النبي أصحابه ورغبهم في الدعاء في جوف الليل فروي عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا قال رسول الله (ينزل الله عز و جل إلى السماء الدنيا في كل ليلة إذا مضى ثلث الليل الأول ثم ينادي مناد هل من مستغفر فيغفر له هل من سائل فيعطى هل من داع فيستجاب له (، والدعاء سلاح المؤمن كما روى الحاكم في صحيحه من حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض" .
د - الذكــــر:
عرف ابن عطاء الله السكندري الذكر بأنه : التخلص من الغفلة والنسيان بدوام حضور القلب مع الحق، بترديد اسم الله وصفاته بالقلب واللسان أو حكم من أحكامه أو فعل من أفعاله أو غير ذلك مما يُتقرَّبُ به إلى الله تعالى .
وقد حث الله المؤمنين ورغبهم في الذكر فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسَبِّحُوه بكرةً وأصيلاً } الأحزاب: 41 ، وقال تعالى: { واذكرْ ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار) آل عمران 41 ، وقال سبحانه : {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} الرعد: 28 ،وقال أيضاً: {واذكر اسم ربك وتبت إليه تبتيلاً} المزمل8 .
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم “ :مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربَّهُ مثل الحي والميت” رواه البخاري ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما من قومٍ اجتمعوا يذكرون الله عز وجل لا يريدون بذلك إلا وجهه؛ إلا ناداهم منادٍ من السماء أن قوموا مغفوراً لكم فقد بُدلت سيئاتكم حسنات” رواه الإمام أحمد ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقول الرب تبارك وتعالى: مَن شغلَهُ قراءةُ القرآن وذكري عن مسألتي أعطيتُهُ أفضلَ ما أُعطي السائلين ” أخرجه الترمذي
خامسا : قيام الليل شرف المؤمن وطريق النصر والنجاح :
روى الحاكم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أتاني جبريل فقال: يا محمد ! عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس» .
فبقيام ترق القلوب وتتزكى النفوس العقول وتتهذب سائر الجوارح ، فمن يتحدَّى شهوة النوم التي تغلب كل البشر، وينتصر عليها؛ ليقوم مناجيًا ربه بلا جزع أو فزع، فهو صاحب قوة لا يمكن مضاهاتها ومن ثم يستبعد معه القعود والركون وينتفي أمامه الخوف والجبن، ويستحيل في حقه الفرار ويكون النصر والنجاح بإذن الله تعالى واقعًا بإذن الله تعالى .
وقيام الليل أرضٌ خصبة لتربية الرجال، وسبيل مهم للنصر على الأعداء، وقد كان قادة الحروب إذا مرُّوا على الجنود ورأوهم يقيمون الليل، يقولون: من هنا يأتي النصر، وإذا وجدوا الجنود نائمين يقولون: من هنا تأتي الهزيمة.
سادسا : ثمرات وفضل قيام الليل:
أ - دعوة مُستجابة ذنب يُغفر ومسألة تُقضى .
ب - وزيادة في الإيمان والتلذذ بالخشوع للرحمن .
ج - تحصيل للسكينة ونيل الطمأنينة .
د - اكتساب الحسنات ورفعة الدرجات والظفر بالنضارة .
ه - والمهابة وطرد الأدواء من الجسد.
فعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممَّن يذكر الله في تلك الليلة فكن " (رواه الترمذي وصححه.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات " (رواه الترمذي ).
وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي مناد: هل من داع فيُستجاب له، هل من سائل فيُعطى، هل من مكروب فيفرج عنه، فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إلا استجاب الله تعالى له، إلا زانية تسعى بفرجها، أو عشاراً " (رواه الترمذي وحسّــَنه .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له " (رواه البخاري ومسلم .
سابعا : الأسباب الميسِّرة لقيام الليل:
أ -- الأسباب الظاهرة أربعة أمور:
1 - ألا يكثر الأكل فيكثر الشرب، فيغلبه النوم، ويثقل عليه القيام.
2 - ألا يتعب نفسه بالنهار بما لا فائدة فيه.
3 - ألا يترك القيلولة بالنهار فإنها تعين على القيام.
4 - ألا يرتكب الأوزار بالنهار فيحرم القيام بالليل.
ب -- أما الأسباب الباطنة أربعة أمور:
1. سلامة القلب عن الحقد على المسلمين، وعن البدع وعن فضول الدنيا.
2. خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل.
3. أن يعرف فضل قيام الليل.
4. الحب لله، وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناج ربه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق