مقدمة
تحقيق الصلةُ باللهِ واجبة على الفرد والجماعة والأمةِ ، وتجديدُها وتقويتها لابدَّ منه من أجل النجاة والفوزِ في الدنيا والآخرة ، وتتحقق هذه الصِّلةِ وتتجدد بالقيامُ بجميعِ ما أمرَ اللهُ به , فالأمةُ إذا صدقت ربَّها في عباداتها وطاعاتِها ، والتزمت شريعَته نالتْ تأييدَه وفتحَه ونصره في الدنيا ، وحظيتْ برحمتِه وجنَّتِه في الآخرة . وكذلك الفرد المسلمُ إذا صفتْ سريرتُه وأحسنَ القيامَ بأوامر الله فإنه يفوز بمحبةِ الله سبحانه ، وله البشارةُ والعنايةُ من ربِّه .
المطلب الأول : مفهوم الصلة بالله وصفات الموصولون
الفرع الأول : مفهوم الصلة بالله:
أ - معنى الصلة لغة :
قال الجوهري : الوصل ضد الهجران ، والتواصل ضد التصارم ، والقطيعة تحصل بالهجران وعدم الإحسان وما شاكلهما من وجوه الصلة .
ب - مفهوم الصلة بالله:
هو التذكر الدائم لله عز وجل على كل حال وفي أي مكان وزمان, في المنشط والمكره, في الغنى والفقر, في الحزن والفرح, في الشّدة والرخاء, وساعة الفرج والكرب ، فالصلة تكون في جميع شؤون الحياة كلّها كما قال الله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين} [الأنعام : 162].
ج - الصلة بالله والإيمان به سبحانه :
وعلى قدر الإيمان الذي يوجد في القلب تكون صلتك بالله تعالى, كما قال الإمام ابن تيميه رحمه الله: "إذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة؛ كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان, فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة, بل يلزم من وجود هذا كاملا وجود هذا كاملا, كما لزم من نقص هذا نقص هذا ...".
ويقول أيضا: "وإذا قام بالقلب التصديق بالله والمحبة له لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والباطنة فما يظهر على البدن من الأقوال والأفعال له أيضا تأثير فيما في القلب, فكل منها يؤثر في الآخر لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له والفرع يستمدّ من أصله, والأصل يثبت ويقوى بفرعه.
الفرع الثاتي : صفات الموصولون بالله وعلاماتهم:
أ - صفات الموصولون بالله :
قال علي : الموصولون بالله هم أهل الفضل, منطقهم الصواب, وملبسهم الاقتصاد, ومشيهم التواضع, غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم, ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم, لا يرضون من أعمالهم بالقليل, ولا يستكثرون منها الكثير, فهم لأنفسهم متهمون, ومن أعمالهم مشفقون .
أ - علامات الموصولون بالله :
وقال رضي الله عنه : ومن علامة أحدهم أنّك ترى: قوة في دين, وحزما في لين, و إيمانا في يقين, وحرصا في علم , وعلما في حلم, وقصدا في غنى, وخشوعا في عبادة, وتجملا في فاقة, وصبرا في شدة, وطلبا في حلال, ونشاطا في هدى, يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل, يمسي وهمه الشكر, ويصبح وهمه الذكر, يمزج العلم بالحلم, والقول بالعمل, قريبا أمله, قليلا زللـه, خاشعا قلبه, خاشعة نفسه, مكظوما غيظه, ميتة شهوته, الخير منه مأمول, والشر منه مأمون, يعفوا عمن ظلمه, ويعطي من حرمه, ويصل من قطعه, بعيدا فحشه, لينا قوله, غائبا منكره, حاضرا معروفه, مقبلا خيره, مدبرا شره, في الزلازل وقور, وفي المكاره صبور, وفي الرخاء شكور, نفسه منه في عناء, والناس منه في راحة.
المطلب الثاني : وسائل تقوية الصلة بالله :
الفرع الأول: أعمال القلوب ومنها:
أ – محبة الله تعالى :
ومحبة الله هي إيثار طاعة الله ورسوله على ما سواه بالتزام أمره واجتناب نهيه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في كل كبير وصغير وسلوك طريق المحبين والتحزب لأهل محبة الله ونصرتهم ومودتهم وصرف المحبة الإيمانية لكل محبوب لله والبعد عن كل ما يسخط الله وينافي محبته ، (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
مراتب محبة الله تعالى : المرتبة الأولى : كامل المحبة لله تعالى وهو من التزم السنن والواجبات واجتنب المكروهات والمحرمات. وهذا حال الأنبياء والأصفياء من هذه الأمة ، المرتبة الثانية: مقتصد المحبة لله تعالى وهو من اقتصد في عمله فواظب على الواجبات وترك المحرمات ولم يتزود من الصالحات. وهذا حال عامة الصالحين ، المرتبة الثالثة: ناقص المحبة لله تعالى وهو من قصر في فعل الواجبات وارتكاب المحرمات وأسرف على نفسه بالسيئات. وهذا حال أهل الغفلة والهوى من هذه الأمة.
أسباب المحبة لله عز وجل : 1- إخلاص القصد لله في العبادة ، 2- تلاوة كلام الرحمن والتدبر في معانيه ، 3- الإكثار من ذكر الله آناء الليل والنهار ، 4- المواظبة على الصلوات الخمس في بيوت الله ، 5- الإنفاق وبذل المال في مرضاة الله ، 6- ملازمة حلق العلم ومجالس الإيمان ، 7- مصاحبة الصالحين والبعد عن الفاسقين ، 8- الإحسان إلى الخلق والنصح لهم ، 9- الصبر والاحتساب على الأقدار المؤلمة والرضا بها.
موانع تمنع المحبة وتضعفها : 1- الرياء وإرادة الدنيا في عمل الآخرة ، 2- هجر كلام الرحمن والجفاء منه ، 3- إضاعة الفرائض والتهاون في فعلها ، 4- الغفلة عن ذكر الله ، 5- الشح بالمال ومنعه عن المحاويج والفقراء ، 6- الاشتغال بالمعاصي والملاهي الموجبة لسخط الله ، 7- مصاحبة أهل الغفلة والفساد. 8- حب النفس وترك النصح للخلق ، 9- التسخط والتضجر من الرزايا والمصائب.
ب - الخوف والخشية من الله تعالى :
الخوف من الله هو : أن يوقف العبد نفسه عند محارم الله، تاركاً لها، مجافياً لطرقها ومسالكها، لكن أن يحصن العبد نفسه بالفقه والعلم، أو بمجالس العلم، أو بالأخوة الصادقة وغيرها من أعمال البر التي تبعد عن الغواية فحالته حينها هي الخشية.
الخوف من الله تعالى مقامان: الخوف من عذابه وهو خوف عامة الخلق وهو حاصل بالإيمان بالجنة والنار ويضعف هذا الخوف بسبب ضعف الإيمان أو قوة الغفلة. وزوال الغفلة يحصل بالتذكر والتفكر في عذاب الآخرة ويزيد بالنظر إلى الخائفين ومجالستهم أو سماع أخبارهم والمقام الثاني الخوف من الله تعالى وهو خوف العلماء العارفين.. {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 30]..
والخوف صفة بارزة من صفات عباد الله الصالحين، لا غنى لهم عنها في مسيرهم إلى الله – تعالى - فتراهم يؤدون حقوق الله، وهم خائفون وجلون من عدم قبولها، وقد ورد عن عائشة - رضي الله عنها - أنها سألت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، قالت عائشة: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون، قال: ((لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يُقبَل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات))؛ رواه الترمذي.
يخاف العبد من ستة أمور: الأول: يخاف العبد من ربه ألا يقبل منه عملاً، الثاني: أن تخاف من الملائكة أن تكتب عليك سيئات لم تستغفر منها؛ الثالث: أن يخاف من سوء الخاتمة، الرابع: أن تكون على خوف من هجوم ملك الموت عليك فجأة، الخامس: أن يكون فيه أموالك حرام،
جـ - التوكل على الله تعالى :
التوكل على الله عبادة الصادقين وسبيل المخلصين ، أمر الله تعالى به أنبياءه المرسلين، وأولياءه المؤمنين، قال رب العالمين: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِير} وقال :{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وأمر به المؤمنين:فقد قال الله تعالى في سبعة مواضع من القرآن :{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}
التوكل لا ينافي أخذ الأسباب : فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رجل: يا رسول اللّه أعقلها وأتوكّل، أو أطلقها وأتوكّل؟ -لناقته- فقال صلى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكّل» [سنن الترمذي]ويجب أن تتخذ الأسباب ولو كانت ضعيفة في نفسها لأن الله لما أراد أن يطعم مريم وهي في حالة وهن وضعف أمرها أن تهز جذع النخلة ، ومع ذلك لا يعتمد على الأسباب وإنما يكون الاعتماد على الله تعالى.
كيف يمكن للمرء أن يستشعر حقيقة التوكل؟ : وتأتي الإجابة في قول حاتم الأصم، حين سأله رجل: (علام بنيت أمرك هذا في التوكل على الله؟)، قال: (على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله حيث كنت فأنا مستحي منه) ، والتوكل كما قال ابن القيم: نصف الدين و النصف الثانى الإنابة ، فإن الدين استعانة و عبادة ، فالتوكل هو الاستعانة و الإنابة هي العبادة ، و قال أيضاً : التوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق و ظلمهم و عدوانهم ، و قال سعيد بن جبير : التوكل على الله جماع الإيمان
الفرع الثاني: أعمال العقل والفكر :
أ - ذكر الله تعالى:
وكذلك يحتاج المسلم في عدته الإيمانية الروحية إلى الذكر وقد قال تعالى: ﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، وقال الله - تعالى -: ﴿ وَلَذِكُر اللهِ أَكْبَرُ ﴾ [العنكبوت: 45] ، وقال تعالى: ﴿ وَاذكُروا الله كَثِيراً لَعَلَّكم تُفْلِحونَ ﴾ [الجمعة: 10] ، وقال تعالى: ﴿ وَاذكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وخِيفةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَولِ بالغُدُوِّ والآصَال، وَلا تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205].
وليعلم المسلم أن حقيقة الذكر ليست باللسان بل لابد أن ينشأ أولاً في الشعور والوجدان ثم يفيض على اللسان مناجاة وحمدًا وتسبيحًا وتنزيهًا فحينئذٍ يكون المسلم من الذاكرين حقًا الذين أعد الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا ، وفي الحديث عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره، مثل الحي والميت". [رواه البخاري].
ب - مطالعة الأسماء الحسنى والصفات العلى وآثارها:
إن مطالعة الأسماء الحسنى ومعانيها، والصفات العلى وآثارها، مما يهذب النفس، ويجدد الإيمان في القلب، ويوثق الصلة بالله - تعالى ، وقد جاء في القرآن الكريم قول الله - تعالى -: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180].
وجاء في السنة الثابتة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلاّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ)). [رواه البخاري ومسلم].
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله : "لا يستقر للعبد قدم في المعرفة بل ولا الإيمان حتى يؤمن بصفات الرب - جل جلاله - ويعرفها معرفة تخرجه عن حد الجهل بربه، فالإيمان بالصفات وتعرفها هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان، وثمرة شجرة الإحسان".
ج - محاسبة النفس:
قال ابن القيم (إغاثة اللهفان 1\136): ومحاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل ونوع بعده ، فالأول أن يقف عند أول همه وإرادته ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه.
قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبدا وقف عند همه فإذا كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر. النوع الثاني : وهو محاسبة النفس بعد العمل وهو أنواع ثلاثة: الاول : محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي ،والثاني : أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خير له من فعله ، والثالث : أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد لم فعله ؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ أو أراد به الدنيا؟
د - ذكر الموت والدار الآخرة وقصر الأمل:
فقد جاء في الحديث عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيلٍ" ، وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: "إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت، فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك". [رواه البخاري].
فلا ينبغي أن يغفل المسلم عن ذكر دار مستقره في الآخرة، وعن أنه راحل عن الدنيا، فلا تعتريه الغفلة وهو في سكرة الدنيا والأموال والتجارة غافلًا ناسيًا، وقد بين الله ذلك في كتابه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني الموت". [رواه الترمذي.
وعن قصر الأمل وأن الموت لا محالة منه ولا فرار، فلا بد من الاستعداد له، قال تعالى: ﴿ يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمَوالكُم ولا أَولادكُم عَن ذِكرِ اللهِ * ومن يَفعَلْ ذلِكَ فَأُولَئِكَ هم الخاسِرُونَ * وأنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبلِ أَن يأتِي أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَولا أَخَّرْتَني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وأَكُنْ مِنَ الصَّالحِينَ * ولن يُؤَخِّرَ الله نَفساً إذَا جَاءَ أَجَلُهَا واللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 9 - 11] وقال أيضا وقال تعالى: ﴿ حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارجِعُونِ * لَعَلِّي أعمَلُ صَالحاً فِيما تَرَكتُ كَلاَّ إنَّهَا كَلِمَةٌ هو قَائِلُهَا وَمِن ورَائِهم بَرْزَخٌ إلى يَوْم يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99 - 100]. كما قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ وَإنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُم يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عنِ النَّارِ وأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ وما الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].
الفرع الثالث: أعمال الجوارح ومنها:
أ - إقامة الصلاة بأركانها وخشوعها:
إن الصلاة عماد الدين، فهي تربي المؤمن على مراقبة الله تعالى له في كل حركاته وسكناته، بها تمحى ذنوبه، وتزوده بطاقة روحية تعينه على مواجهة الشدائد والمحن، وتقوي الصلة بين العبد وربه، : «أقرب ما بكون العبد إلى ربه وهو ساجد، فاكثروا الدعاء». أخرجهمصداقا لقوله الإمام مسلم. إن الصلاة هي خضوع المسلم لله تعالى أثناء إقامتها، وانقياده له، مما يكون له أثر كبير على سلوك الفرد.
ليس المقصود من الصلاة أداؤها فحسب فإقامة الصلاة تشمل القيام بشروطها وأركانها وخشوعها والمحافظة على أوقاتها ومراعاة سننها وآدابها ، وكلما أتقن المسلم ما سبق كانت صلاته أقرب إلى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، القائل (وصلوا كما رأيتموني أصلي ) ، فهذا الاقتداء كما هو شامل لصفة الصلاة الحسية ، فهو شامل أيضاً للإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في خشوعه وطمأنينته في صلاته .
والصلاة من صفات المتقين قال تعالى: ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 1-3] ، وهي طريق لتهذيب النفس والأخلاق، وحفظها عن الفواحش والدنايا والمحرمات، كما أخبرنا تعالى في كتابه: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45] ، وهي كذلك من أعظم ما يذهب السيئات والخطايا عن الإنسان، فقال تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114].
ب - تلاوة القرآن وتدبره:
القرآن كلام الله رب العالمين وهو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، وهو الذكر المبارك والنور المبين، ألقاه على جبريل الأمين فنـزل به على قلب محمد ؛ ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، من عَلِمَ علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم، ويهدي للتي هي أقوم، وهو هدى للمتقين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، محفوظ من التغيير والتبديل
أن أفضل الذكر تلاوة القرآن وذلك لتضمنه لأدوية القلب كما قال الله - عز وجل -: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82] ، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [يونس: 57] ، وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه" [رواه مسلم].
وأن تفهم القرآن وتدبره هو المقصود الأعظم ، والمطلوب الأهم من التلاوة. فبه تنشرح الصدور ، وتستنير القلوب. قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن)[النساء:82] وقال: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) [ص:29] ، روى أبو داود والنسائي وغيرهما عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قمت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة ، لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ.
جـ - قيام الليل:
قيام الليل هو دأب الصالحين، وتجارة المؤمنين، وعمل الفائزين، ففي الليل يخلو المؤمنون بربهم، ويتوجهون إلى خالقهم وبارئهم، فيشكون إليه أحوالهم، ويسألونه من فضله، فنفوسهم قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنسم من تلك النفحات، وتقتبس من أنوار تلك القربات، قيام الليل من أعظم الزاد والبناء الإيماني في قلب المسلم وهو من أول ما أمر الله به نبينا عليه الصلاة والسلام يقول سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴾ [المزمل: 1-4] وقال تعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]. قال مجاهد والحسن: يعني قيام الليل.وقال ابن كثير في تفسيره: ( يعني بذلك قيام الليل وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة ).
وفي الحديث عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا، يا رسول الله، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً". [متفقٌ عليه]. فقال عليه الصلاة والسلام: {عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم،ومطردة للداء عن الجسد } [رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني].
وقال النبي في شأن عبد الله بن عمر: { نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل } [متفق عليه]. قال سالم بن عبد الله بن عمر: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً.
د – الزكاة والصدقة:
الزكاة والصدقة من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله -عز وجل-؛ قال الله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (سورة آل عمران، الآيتان: 133-134) ، قال الله تعالى آمرًا نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} [سورة إبراهيم: 31] ، وقال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة التغابن: 16].
ومن فضل الزكاة الفوز بالقرب من رحمة الله قال سبحانه: "ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للدين ينفقون و يؤتون الزكاة" ، وان الله يعين المتصدق على الطاعة ويهيئ له طرق السداد والرشاد وقال سبحانه: "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى" ، ومنها التطهير من دنس الذنوب و الأخلاق و الرذيلة، قال صلى الله عليه وسلم : " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها" ، والصدقة سبب من أسباب المعية الخاصة لان المتصدق محسن " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" ، والصدقة برهان على إيمان صاحبها قال صلى الله عليه وسلم : " الصدقة برهان" .
والصدقة والزكاة تطفيء عن أهلها حر القبور كما في الحديث "إن الصدقة لتطفيء عن أهلها حر القبور" ، ( انها تدفع ميتة السوء كما في الحديث "ان الصدقة تطفىء غضب الرب وتدفع ميتة السوء" ، والمتصدق يكون في ظل الله يوم القيامة كما في الحديث "انما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته" ، وانها تزيد العمر ويذهب الله بها الكبر والفخر كما في الحديث "ان صدقة المسلم تزيد في العمر وتمنع ميتة السوء ويذهب بها الكبر و الفخر" ، ان الصدقة حجاب من النار لمن احتسبها كما في الحديث " انها حجاب من النار لمن احتسبها يبتغي بها وجه الله عز وجل"
هـ - الاهتمام بالأذكار والأوراد والنوافل:
إن الله سبحانه يقول لأقرب عباده إليه وأرفعهم درجة لديه: )إن لك في النهار سبحا طويلا واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا (، وقال تعالى: )وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود(، وقال تعالى: )واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا(. والطريق إلى الله سبحانه هو مراقبة الأوقات وعمارتها بالأوراد على سبيل الدوام . أخرج الطبراني والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي: وقال ابن حجر في التلخيص صححه الحاكم وسكت عليه، عن ابن أبي أوفى t: أن الرسول r قال: "خيار عباد الله إلى الله الذين يراعون الشمس والقمر والأهلة لذكر الله". يعني المؤذنين الذين يهتمون بالصلاة وأقاتها.
و - الاهتمام بإزالة العوائق :
إن الطريق إلى الوصول إلى الله شاق ، والنفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب ويحتاج السالك الى تهذيب الأخلاق وترويضها وقطع الآفات والاشتغال بتنقية الطريق وتنظيفها من العوائق ،
ومن العوائق التلطخ بالمعصية , وقد نبه السلف إلى هذه القضية فقد قال الضحاك: "ما نعلم أحدا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب" ثم قرأ: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير(
ومن العوائق: التوسع في المباحات: فقد يكون التوسع في المباحات من الطعام والشراب واللباس والمراكب ونحوها هو السبب
ومن العوائق مشاهدة ذوي الأسوة على حال من التفريط فبعض الشباب ينظر إلى بعض ذوي الأسوة أنه نمط فريد من الناس ولا يمكن أن يقع منه تفريط أو تقصير وحين يطلع منهم أو من بعضهم على شيء من التفريط فإن هذه النظرة قد تحمله على محاكاتهم .
ومن العوائق: كثرة الواجبات والأعباء، ففي زحمة العمل وإلحاح الأعباء والواجبات قد يهمل الصلة بالله أو قد يضيق عليه الوقت بذلك .
ومنها عوائق ظن العبد بأنه بلغ الكمال فترك نفسه ومحاسبتها ، عوائق كثرة الواجبات والأعباء، ففي زحمة العمل وإلحاح الأعباء والواجبات قد يهمل الصلة بالله أو قد يضيق عليه الوقت بذلك ، عوائق التسويف المهلك
المطلب الثالث : ثمار الصلة بالله
الفرع الأول : انشراح الصدر وطمئنيه وسعادة القلب:
من ثمرات الصلة القوية بالله أن يكون المرء مطمئن القلب منشرح الصدر صابرًا محتسبًا راضيًا بقضاء الله وقدره، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، سعيد مهما أصابته ضراء أو تعرض لفتن أو الم ، قال تعالى: ) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وقال تعالى أيضا (الرعد:28) {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَـٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، وقال تعالى أيضا: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام: 48.
وقوة الصلة بالله تجعل المؤمن طائعا لله عاملا بأحكام شريعته ومن ثم فلهو الحياة الطيبة قال تعالى : ( من عمل صالحاً من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) النحل/ 97 ، وفي كتاب الله الشفاء لأمراض النفوس، وضيق الصدور، وكروب القلوب، بل وشفاء لعلل الأجساد وأمراض الأبدان قال تعالى : وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ"[الإسراء: 82 وفي الصلاة الطمئنينة والراحة فكان صلى الله عليه وسلم يقول : ( وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ). رواه الإمام أحمد والنسائي ، وعنها قال صلى الله عليه وسلم: ( أَرِحْنَا بِهَا يَا بلال) رواه الإمام أحمد وأبو داود.
الفرع الثاني : الدافع الذاتي وعلو الهمة :
الصلة بالله تربي في صاحبها العمل والانطلاقة الذاتية دون أن ينظر لأوامر أو ضغوط خارجية بل بالاندفاع النفسي وتربي فيه السير الذاتي إلى الهدف المنشود ، والموصول بالله يحاسب نفسه على الصغيرة والكبيرة ، ويستشعر مراقبة الخالق قبل محاسبة الخلق ، الموصولون بالله يتحمسون لفعل الخير، ويسعون إليه ويحرصون على ألا يفوتهم شيء من ذلك ، ويتذوق حلاوة الشعور بالسعادة عندما يصلحون أنفسهم بطاعة الله ويسعدون غيرهم بتقديم الخير
والموصول بالله يصدق فيه قول الله تعالى : قال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) (الزمر/ 9) ، ويضع نصب عينيه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً ، ويا صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أغني عنك من الله شيئاً ويا فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً " رواه البخاري ومسلم . عن أبي حازم الأشجعي قال: قال رسول الله (ص) "من أصبح منكم اليوم صائماً؟"، قال أبو بكر (رض): أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة" قال أبو بكر (رض): أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً" قال أبو بكر (رض): أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟"، قال أبو بكر (رض): أنا، فقال رسول الله: "ما إجتمعن في إمرئ إلا دخل الجنة".
والموصول بالله ذو همة عالية في كل موقف وعلى كل أحواله ، يضع نصب عينيه قول الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾[ سورة آل عمران: 102] و قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ [ سورة الحج : 78] ، فيراقب الله قبل أن يعطي وقبل أن يأخذ وقبل أن يتكلم ، قبل أن يصل، قبل أن يقطع، وحال الرضى والغضب ، ويتساءل ما موقفي من الله يوم القيامة ؟ يتصور دائماً أن الله يسأله: لِمَ فعلت هذا، لمَ ابتززت مال فلان ؟ لمَ كذبت على فلان ؟ لمَ غششت فلاناً ؟ لمَ طلقت زوجتك ؟ لمَ أهملت أولادك ؟ المؤمن لا يكون عالي الهمة إلا إذا تصور في كل ثانية أن الله سيسأله وسيحاسبه، لذلك من خاف الله في الدنيا أمِّنه الله يوم القيامة، ومن أمِن الله في الدنيا أخافه يوم القيامة.
الفرع الثالث : الثبات عند المحن والشدائد :
وقوة الصلة بالله تجعل المسلم عاملا مجاهدا في سبيل غايته، مهما بعدت المدة وتطاولت السنوات والأعوام، حتى يلقى الله على ذلك وقد فاز بإحدى الحسنيين: فإما الغاية وإما الشهادة في النهاية تنفيذا لقوله تعالى : )من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا( الأحزاب - 23.
قوة الصلة بالله تدفع على الثبات في الفتن الاضطهاد والطغيان والظلم: قال تعالى : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )
وتدفع على الثبات في الجهاد وعند لقاء العدو : قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا" (الأنفال: 45)، وقال الله تعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ *ولَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وأَنتُمْ تَنظُرُونَ"(آل عمران:142 - 143). وقوله تعالى :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (الأنفال: 45
الفرع الرابع : بناء الشخصية المعتدلة المتوازنة :
صلة الإنسان القوية بالله تعالى هو المرتكز الأكبر في شخصيته ، وهي المقياس الذي يحدد مدى استعداد الإنسان المؤمن بالله لتحقيق الاعتدال والتوازن الشخصي بين الدنيا والآخرة ، وبين الحاجات الجسدية والعقلية والنفسية ، وفي السلوك والممارسات والمواقف ، وبين الفرد والمجتمع ، فقد دعا القرآن الإنسان إلى أن يوازن بين طلب الدنيا وطلب الآخرة بل جعل الله الدنيا طريقاً إلى الآخرة، فليس هناك فصل بين عمل الدنيا وعمل الآخرة حيث قال الله تعالى : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا .)
وإلى جانب دعوته إلى إشباع حاجات الجسم المادية والغريزية من الطعام والشراب والجنس والراحة ، دعا وبعناية فائقة إلى احترام العقل، وتلبية حاجاته العقلية من العلم والمعرفة ، وفسح المجال أمام عمليات الفكر والتفكير المنتج ، وأن يحمل الأحاسيس والمشاعر الوجدانية والعواطف الإنسانية من الحب والكراهية والرضا والسخط والإحسـاس بالكرامة والقيم الاعتبارية .
وفي مجال تنظيم السلوك في اتجاهاته المختلفة، فدعا إلى الانفق المعتدل، وتناول الطعام والشراب بشكل معتدل، وممارسة العمل والكسب والجنس والراحة والنوم بشكل معتدل ، لذا حرّم الاسراف والتبذير والتقتير، ودعا إلى عدم المبالغة في الحب والكراهية، وكره كثرة النم والبطالة، ودعا إلى الاعتدال في الكسب المادي وطلب المعيشة وعدم إرهاق الجسم .
قال تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...) (البقرة/ 143) وقال أيضا : (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67) ، (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 77)، (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر/ 9) ، (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا...) (هود/ 112).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق