الثلاثاء، 8 أكتوبر 2019

اليقين إعداد : محمد أبوغدير المحامي

    مقدمة :
اليقين  من اعظم شعب الإيمان، و من أجل صفات أهل التقوى والإحسان ، وهو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك ، الموجب للعمل ،

قال الشعراوي : إن اليقين هو تصديق الأمر تصديقاً مؤكداً، بحيث لا يطفو إلى الذهن لِيُناقش من جديد، بعد أن تكون قد علمته من مصادر تثق بصدق ما تَبلغك به ،
ولليقين ثلاث درجات :عِلم اليقين ، وعَين اليقين ، وحق اليقين .

وقال ابن القيم : لا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا من قلبه وبدنه ،
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصائب الدُّنْيَا .

وقال صاحب الظلال : والذي يجد راحة اليقين في قلبه يجد في الآيات مصداق يقينه ، ويجد فيها طمأنينة ضميره . فالآيات لا تنشىء اليقين ، إنما اليقين هو الذي يدرك دلالتها ويطمئن إلى حقيقتها . ويهيئ القلوب للتلقي الواصل الصحيح .

والحديث عن اليقين عبر العناصر الآتية : أولا : تعريف اليقين لفة وإصطلاحا و أقوال العلماء ، ثانيا : اليقين في الكتاب والسنة ، ثالثا : درجات اليقين ، رابعا : وسائل تحصيل اليقين وزيادته ، خامسا : ثمرات اليقين وآثاره ، سادسا : صور من يقين الأنبياء والمصلحين ، وبيان ذلك في الآتي :



أولا : تعريف اليقين
لغة وإصطلاحا وأقوال العلماء حوله :


أ - اليقين في اللُّغة :

 اليقين مشتق من الفعل أيقن يوقن إيقانًا ، وييقن يقينًا فهو موقن .

واليقين نقيض الشك ، فهو العلم وتحقيق الأمر وإزاحة الشك ، يقال : علمته يقينًا ، أي علمًا لا شك فيه .


ب - اليقين في الاصطلاح :


1- عرف الجُنَيْد اليقين بأنه هو :
استقرارُ العِلْم الذي لا يَنقلِب ولا يُحوَّل ولا يتغيَّر في القلْب.


2- أورد الجرجانيُّ في تعريفاته: أنَّ اليقين هو :

 طُمأنينة القَلْب، على حقيقة الشيءِ وتحقيق التصديق بالغَيْب، بإزالة كلِّ شكٍّ ورَيْب.


3 - قال البيهقي : في تعريف اليقين انه :

سكون القلب عند العمل بما صدق به القلب فالقلب مطمئن ليس فيه تخويف من الشيطان ولا يؤثر فيه تخوف فالقلب ساكن آمن ليس يخاف من الدنيا قليلا ولا كثيرا .


ج - اليقين في أقوال العلماء :


1 . قال ابن سعدي :

" اليقين : هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، والموجب للعمل " .


2 . قال ابن القيم :

" اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد ، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون .


3 .  قال ابن القيم أيضا :

اليقين مع المحبة ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامه، وهما يُمدان سائر الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تصدر، وبضعفهما يكون ضعف الأعمال، وبقوتهما تقوى الأعمال، وجميع منازل السائرين إنما تُفتتح بالمحبة واليقين، وهما يثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم" انتهى من "مدارج السالكين" .


4 . قال أبو بكر الوراق :

'اليقين ملاك القلب، وبه كمال الإيمان، وباليقين عُرف الله، وبالعقل عُقل عن الله '.



ثانيا : اليقين في الكتاب والسنة  :


أ - اليقين في القرآن الكريم :

عند التأمُّل في آيات القرآن الكريم نجد أنَّ مفهوم اليقين يختلِف معناه باختلاف مَظانِّه داخلَ النسق القرآني، ويُمكن تصنيفُ هذه المعاني كالتالي:


1- اليقين : العِلم الجازم الذي لا يَقبل التشكيك :

قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ﴾ الواقعة : 95 ،
جاءتْ هذه الآية تذييلًا لجميع ما اشتملتْ عليه السورةُ مِن المعاني المثبتة مِن "عظيم صفاته، وبديع صُنْعه، وحِكْمته وعدله، وتبشيره النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأمَّتَه بمراتبَ مِن الشَّرَف والسلامة، على مقادير درجاتهم وإيمانهم الجازم، وبنِعْمة النجاة مما يَصير إليه المشرِكون مِن سوء العاقبة .
وقال أيضًا: ﴿ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ﴾ الحاقة: 51 .
فهذه الآيةُ كانت تحقيقٌ وتأكيد منه تعالى أنَّ هذا القرآن الكريم هو الحقُّ اليقين، الذي لا شكَّ فيه أنَّه مِن عند الله، لم يتقوَّلْه محمد صلَّى الله عليه وسلَّم .


2- اليقين بمعني الموت :

قال سبحانه : ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ الحجر : 99 .

قال مجاهد والحسن  : يقول الله تعالى  لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: واعبُدْ ربَّك حتى يأتيك الموت .


3 .  الانتفاع بالآيات والبراهين طريق اليقين :

فقال: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ الأنعام: 75 .


4 . الموقنون هم أهل اليقين بالهُدى والفلاح :

قال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ البقرة: 4، 5 .


5 . ينال الموقنون الصابرون الإمامةُ في الدِّين :

 قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون َ﴾ السجدة: 24،


6 . اليقين أرقى درجات الإيمان وأخص صفات أهل التقوى والإحسان :

 قال تعالى ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )  سورة لقمان : 4-5


7. باليقين لا تتشابه على المؤمنين الأمور ولا يحيدون عن الحق :

 قال الله عز وجل ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )


8 . باليقين يحتكم المؤمنون لشرع الله في كل أمورهم :

 قال تعالي (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).


9 - باليقين يرى المؤمنون إعجاز الله وآياته :

قال سبحانه : ( إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )


ب - ثانيا : اليقين في السنة النبوية :


ذكر اليقين في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناسبات كثيرة مبينا فضله ومكانته نذكر منها الآتي :


1 . اليقين افضل ما أعطي الناس في الدنيا:

أخرج أحمد عَنِ الْحَسَنِ ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَطَبَ النَّاسَ ، فَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطَوْا فِي الدُّنْيَا خَيْرًا مِنَ الْيَقِينِ ، وَالْمُعَافَاةِ ، فَسَلُوهُمَا اللهَ ، عَزَّ وَجَلَّ.


2 . فضل اليقين بعد المعافاة :

أخرج أحمد والنَّسائي عَنْ عُمَرَ ، قَالَ : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ خَطَبَنَا ، فَقَالَ:إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِينَا عَامَ أَوَّلَ ، فَقَالَ : أَلاَ إِنَّهُ لَمْ يُقْسَمْ بَيْنَ النَّاسِ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنَ الْمُعَافَاةِ بَعْدَ الْيَقِينِ ، أَلاَ إِنَّ الصِّدْقَ وَالْبِرَّ فِي الْجَنَّةِ ، أَلاَ إِنَّ الْكَذِبَ وَالْفُجُورَ فِي النَّارِ.


3 . اليقين يهون مصائب الدنيا :

أَخْرَجَ الترمذي والنَّسَائي عن ابن عمر رضي الله عنه ، كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم قْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ , وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ , وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصائب الدُّنْيَا , اللهم أمتعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا , وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا , وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا , وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا , وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِى دِينِنَا , وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا , وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا , وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا.


4 . صلاح الأمة بالزهد واليقين :

قال صلى الله عليه وسلم : «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك آخرها بالبخل والأمل»(أَخْرَجَهُ الترمذي والنَّسَائي .، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير) أخرجه الترمذي والنَّسَائي ، .


5 . اليقين تهون به المصائب :

من دعائه صلى الله عليه وسلم : «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا... » أخرجه الترمذي .


6 . البناء على اليقين حال الشك في الصلاة :

ورد في سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُلْقِ الشَّك َّ، وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ، فَإِذَا اسْتَيْقَنَ التَّمَامَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ» .


7 . اليقين في الأذان طريق الجنة :

 روى النسائي وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام بلال ينادي - يؤذن للصلاة - فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  من قال مثل ما قال هذا يقينا دخل الجنة.



ثالثا : درجات اليقين :


لليقين ثلاث درجات : الأولى عِلم اليقين والثانية عَين اليقين والثالثة حق اليقين ، وبيانها كالتالي :


1. عِلم اليقين :

هو قَبول ما ظَهَر مِن الحق تعالى، مِن أوامره ونواهيه، وشَرْعه ودِينه الذي جاء على ألْسِنة رُسُله، فنتلقَّاه بالقَبول والإذْعان والانصياع لله جَلَّتْ قُدرتُه ،
وكذلك قَبول ما غاب مِن أمور المَعاد، والجَنَّة والنار، وما قبْل ذلك مِن بعْث وصِراط وميزان وحساب، وإثْبات الأسماء والصِّفات.
فقَبول هذا كله هو عِلْم اليقين الذي لا يُخالِج القَلْب فيه ريبٌ ولا مِرْية، ولا تعطيل أو نفي.


2 . عَين اليقين :

ويُرَاد به أنَّ المعارِف التي حصَلتْ سلفًا ترْتقي مِن درجة العِلْم الجازم بها، إلى دَرَجة النظر إليها بالأنظار، والكَشْف عنها بالأبصار، فتخرق بذلك المشاهدةُ سِتارَ العِلم، فيُلامس هذا الأخيرُ القَلْبَ والبصر معًا.


3 . حق اليقين:

وهذه الدَّرجة تحصيلٌ لِمَا حصَل مِن العِلم والمشاهدة ، فالفَرْق بين مراتب اليقين كالفرْق بيْن الخبر الصادِق والعِيان، وحق اليقين فوقَ هذا كله.

وقد مثَّل ابنُ القيِّم لهذه المراتب الثلاث بقوله:
 (مَن أَخبَرك أنَّ عنده عسلًا وأنتَ لا تشكُّ في صِدْقه فهذا عِلم اليقين ،
ثم أراك إياه فازددتَ يقينًا وهذا عَين اليقين ،
ثم ذُقتَ منه وهذا حق اليقين .



رابعا : وسائل تحصيل اليقين وارتقائه :


لكي نرتقي بإيماننا لنصل الى منزلة اليقين ، علينا ان نلتمس أسبابا ، بيانها في التي :


1 • مجاهدة النفس في الله :

 وحملها على مراده بقوة، فلا يُسوِّف في طاعة، ولا يتباطأ في توبة، ولا يتردد في خيرٍ عَزَم عليه، وقد نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد، ويهلك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل.


 2 • تجريد المحبة لله ورسوله :

وذلك بأن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، وأن تحب المرء لا تحبه إلا لله،
وذلك ما روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْـمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لله، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».


3 • تدبر القرآن الكريم :

قال الله تعالى فيه: ﴿وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ﴾  الحاقة : 50، 51 .
وحق اليقين ما باشرته بنفسك فلا تشك فيه ، وتلاوة القرآن وتدبره من أقوى أسباب زيادة اليقين، بل هي الطريق إلى الوصول إلى أعلى مراتبه.


4 • التفكر في آيات الله في الأنفس والآفاق :

كما قال تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾}  الذاريات: 20 ، 21 .


5 • التفكر في أحوال السابقين:

وقراءة أخبارهم في القرآن الكريم، وتعلم اليقين من آياته العظيمة؛ كما قال الله تعالى: { هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُون َ} الجاثية: 20 .
ومثال لذلك ، روي ان  الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ - رحمه الله تعالى - مرض فقيل له : أَلَا نَدْعُو لَكَ طَبِيبًا؟ قَالَ: أَنْظِرُونِي ، فَتَفَكَّرَ ، ثُمَّ قَال قرأ : { وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } الفرقان: 38،
وذكر أن مِنْ حِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَرَغْبَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا ثم قَالَ : فَقَدْ كَانَتْ فِيهِمْ أَطِبَّاءُ وَكَانَتْ فِيهِمْ مَرْضَى، فَلَا أَرَى الْمُدَاوِي بَقِيَ وَلَا الْمُدَاوَى هَلَكَ ...)الزهد ، هناد بن السري


6 • صحبة الموقنين :
صحبة الموقنين تزيد من اليقين وتثبت عليه؛ ولهذا كانت الوحدة خيرًا من جليس السوء ، روي البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «إِنَّمَا مَثَلُ الْـجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْـجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْـمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً».

قال خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ - رحمه الله تعالى -: (تَعَلَّمُوا الْيَقِينَ كَمَا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ حَتَّى تَعْرِفُوهُ فَإِنِّي أَتَعَلَّمُهُ) اليقين ، ابن أبي الدنيا .


7 • الإلحاح بالدعاء واللجوء إلى الله :
فالدعاء يقوي اليقين، ويغير القدر،  ففي الحديث قال الرسول صلي الله عليه وسلم  (وسَلُوا اللهَ اليقينَ والمُعافاةَ ؛ فإنَّهُ لمْ يُؤْتَ أحدٌ بعدَ اليقينِ خيْرًا من المُعافاةِ) رواه أحمد .

 وكان الرسول يدعو فيقول: (اللهمَّ اقسِمْ لنا مِنْ خشيَتِكَ ما تحولُ بِهِ بينَنَا وبينَ معاصيكَ، ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنَا بِهِ جنتَكَ، ومِنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ علَيْنَا مصائِبَ الدُّنيا) .



خامسا : ثمرات اليقين وآثاره :


لليقين آثار كثيرة وثمرات عظيمة في حياة العبد ومعاده ، ومن تلك الثمرات ما يلي :


1- اليقين من أعظم أسباب حياة القلب ووقود الحياة :

  فهو حياة القلب وطمأنينته وقوة المرء ونشاطه وسائر لوازم الحياة ، فاليقين يزيل الريب والشك والسخط ، ويملأ القلب نورًاً وإشراقًا ورجاءً وخوفًا من الله ومحبة له ، ورضى بما قدر .

وهو من أسباب زيادة أعمال القلوب كالتوكل والإنابة والخوف والخشية وإحسان الظن بالله تعالى ، ولابد لليقين من علم صحيح يوصل بالخوف والرجاء فهما يدفعان إلى العمل بتحري الإتباع والإخلاص .

قال تعالى  : " رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي " (البقرة: 260) ،
 وجاء في تفسير القرآن العظيم أن إبراهيم عليه السلام بسؤاله هذا أحب أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين وأن يرى ذلك مشاهدة ،  فزاده الله الكريم باليقين إيمانًا وقوة حجة وبرهان .


2- اليقين من أعظم أسباب قوة الإيمان وزيادته، وبه تنال الإمامة في الدين :

في مدارج السالكين يقول ابن القيم : سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : " بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ثم تلا قوله تعالى : " وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ " (السجدة:24 ) .


3- اليقين سبب لتوفيق الله لعبده للجواب الصحيح حين سؤال الملكين في القبر :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «...ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار، فأوحي إلى أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة المسيح الدجال ، يقال : ما علمك بهذا الرجل ؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول : هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا واتبعنا ، هو محمد ثلاثًا ، فيقال نم صالحًا قد علمنا إن كنت لموقنًا به ، وأما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته» أخرجه البخاري ومسلم .

وكذلك جاء في سيد الاستغفار قوله صلى الله عليه وسلم : «من قالها من النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة» أخرجه البخاري .


4- اليقين من أعظم الأسباب المعينة على الطاعات :

ذلك إن اليقين يمنع ورود الشهوات والشبهات على القلوب ، ويدفع عن النفس ما قد تجده من ثقل أو صعوبة في بعض العبادات .
ويقول الحسن البصري : " ما طلبت الجنة إلا باليقين ، ولا هرب من النار إلا باليقين ، ولا صبر على الحق إلا باليقين "


5- اليقين من أسباب انشراح الصدر وسلامة النفس من الخوف والقلق والتردد :

قال تعالى : "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ " (التغابن: 11)
ويقول ابن رجب : " فمن حقق اليقين وثق بالله في أموره كلها، ورضي بتدبيره له ، وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاء وخوفًا ، ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة " (جامع العلوم والحكم) .



سادسا : صور من يقين الأنبياء والمصلحين :


أ - صور من يقين الأنبياء :

ولقد ضرب أنبياء الله ورسله الكرام المثل الأعلى في اليقين وحسن الثقة بالله تعالى ، ويزداد  اليقين بالله إذا انقطعت الأسباب ، وهذه أمثلة لذلك :

1- موسى عليه السلام :

كليم الله موسى عليه السلام يقول لأصحابه حينما أدركهم فرعون وانقطعت عنهم أسباب النجاة ، إذ وجدوا البحر من أمامهم والعدو من ورائهم ، فكانت لهم النجاة بعد يقينهم بنصر الله القوي القادر ،
قال تعالى  : ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴾ الشعراء: 67- 66 .


2- يونس عليه السلام :

بعد أن ابتلعه الحوت وغاص به في أعماق البحر وانقطعت عنهم أسباب النجاة ، إذ كان في الظلماته فعلم أن لا يغيثه ولا يقدر على سماعة وإنقاذه إلا الله ،
قال تعالى : ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾
فنجاه الله من بطن الحوت بدون أذى وهكذا ينجي الله كل من توكل عليه.


3- محمد عليه الصلاة والسلام مع صاحبه ورفيقه أبو بكر رضي الله عنه :

وهما في الغار فيأتي الكفار يقفون على باب الغار فيرى أقدامهم ويقول: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه يرانا فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر ما رأيك في اثنين الله ثالثهما. وقال ﴿ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾. فقوله: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)
وهذا دليل علي كمال توكل النبي صلي الله عليه وسلم علي ربه، وأنه معتمد عليه، ومفوض إليه أمره، وهذا هو الشاهد من وضع هذا الحديث في باب اليقين والتوكل.


4 - واليقين الآخر كان حين غادر الغار :

ومر هو وصاحبه ورفيقه ببعض العرب،فسمع الفارس المغامر سراقة بن مالك الجعشمي بجائزة قريش: للرسول مائة، ولرفيقه مائة، ويلحق بالنبي وصاحبه،
ولما انقطعت بالنبي صلى الله ليه وسلم،  الأسباب، يلجأ إلى مسببها، رافعا يديه لرب عوده أن يكون معه، ويقول: "اللهم اكفنا سراقة".
فما إن أتم دعاءه : حتى غاصت قوائم جواد سراقة في الأرض، وأدركه الوهن، وينظر إليه الرسول قائلا له كلمات ملؤها اليقين:
 "يا سراقة، كيف بك إذا ألبسك الله سواري كسرى؟". فيتعجب الرجل، ويقول: كسرى بن هرمز؟ فيقول: "نعم".
يعد صلى الله عليه وسلم صعلوك من صعاليك العرب بسواري كسري ، وهو الذي خرج متخفيا هو وصاحبه، لكنه اليقين بنصر الله، وأنه لا يخلف الميعاد.


5 .  وفي غزوة بدر :

وقد تلاقى الجمعان، وجيش قريش ثلاثة أضعاف جيش المسلمين، ومعهم من العدة والعتاد أضعاف ما مع المسلمين، وكانت حال المؤمنين كما وصفها الله تعالى: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } آل عمران:123.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم، يثق في موعود ربه، ويرى نهاية المعركة رأي العين حتى إنه يقول لأصحابه: "هذا مصرع فلان".
 قال أنس: ويضع يده على الأرض: "هاهنا، هاهنا" قال: فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.


6 . وفي غزوة الأحزاب :

هذه الفزوة ذكر الله تعالى من شأنها: { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } الأحزاب:10-12 .
قريش وغطفان ومن معهم من الأحزاب تحزبوا على رسول الله في عشرة آلاف مقاتل، والنبي لا يأمن غدر اليهود، والصحابة قد أصابهم الضيق والجوع، ودعاية المنافقين تحاول أن تعمل عملها، لتوهن النفوس، وتُضعف العزائم، وتفرق الصفوف، فقال الله تعالى { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } الأحزاب:22
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبصر النصر أقرب من منتهى بصره، ليس نصرا على هذه الأحزاب التي ينتظرون، ولكنه نصر على كبرى دول العالم وقتها،
فيقول لأصحابه وقد عرضت لهم صخرة لا تأخذ فيها المعاول في مكان من الخندق، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول بيده، وقال: "باسم الله".
فضرب ضربة وقال: "الله أكبر، أُعْطِيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا".
ثم قال: "باسم الله". وضرب أخرى، فقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا". ثم قال: "باسم الله".
وضرب ضربة أخرى فقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا" .


ب -  صور من يقين الصالحين المصلحين :


1 - وهذا سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه يعبر بجنوده البحر كأنهم يمشون على الأرض!!!.

عندما أراد سعد بن أبى وقاص فتح المدائن وكانت على شاطئ دجلة في العراق وكان النهر في حالة فيضان ،
فلم يجد سعد بن أبى وقاص وسيلة لعبور البحر فكون كتيبة سميت كتيبة الأهوال وعبرت النهر وأخلت الشاطئ نسبيا من قوات الفرس لما عبرت كتيبة الأهوال النهر وكانوا ستمائة رجل، تبعهم سعد بن أبي وقاص بكامل الجيش وأمر جنده قائلاً : ( قولوا : نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)
فجعلوا يمشون على الماء كأنهم يمشون على الأرض حتى أن الفرس عندما رأوا هذا الموقف قالوا : ديوانا ديوانا أي: مجانين مجانين.
وعندما رأوهم لا يغرقون قالوا بالفارسية: والله إنكم لا تقاتلون إنساً بل تقاتلون جنا !!!


2 . وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يشرب السم فلا يضره :

عندما فتح خالد بن الوليد الحيرة في العراق، آتاه رجل ليفاوضه ومعه السم، فرآه خالد فقال له: ما هذا؟ قال: سم عقرب قال خالد: ناولنيه، فأعطاه الرجل السم، ثم سكب خالد السم على يده وقال : بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ، فشرب السم ولم يضره! فذهب الرجل بسرعة إلى قومه يقول لهم: يا قوم لقد أتيتكم من عند رجل أخشى أن تضعوا السيوف فيه ولا يموت!.


3 . وهذا الحسن البصري رحمه الله تعالى دخل إلى الحجاج بن يوسف فخافه :

وكان الحجاج قد طلبه وأحضر السيف وهو بانتظاره ،
ولما دخل الحسن تلفظ بكلمات وهو بالباب فانقلب حال الحجاج فأجلسه بجواره وأمر بإكرامه ، وقال له يا سلطان العلماء ،
فعجب الناس لأمره ، وكان الحاجب قد لاحظ تحرك شفتيه .
فلما خرج فقال للحسن البصري : أسألك بالله ماذا قلت عند دخولك ،
قال الحسن: " اللهم يا ولي نعمتي وملاذي في دعوتي اجعل غضبه ونقمته علي برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً و سلاماً على إبراهيم".


4 . وهذا حاتم الأصم رحمه الله :

وكان شيخا كبيرا له بنات فلم يستطع تركهن والذهاب إلى الحج ، فأشارت عليه ابنته الكبرى أن يحج ويوكل أمرهم إلى الله فهو لن يضيعهم، فأخذ بنصيحتها وذهب،
فلما جاء المساء كان إخوتها يتضاغون عند رجله من الجوع، فتوسلت إلى الله ألا يفضحها فإذا بملك يمر ببيتهم وقد بلغ العطش منه مبلغا عظيما ، فطلب الجنود له ماءا فشرب ،
ثم نظر إلى بيتهم و عرف ما بهم من فقر وحاجة فأعطاهم سترة من المال ، فقالت البنت المؤمنة: هذا عبد نظر إلينا فاغتنينا فكيف بنظر الرحمن الرحيم إلينا.


5 . أبو مسلم الخولاني رحمه الله :

كان يحب التصدق والإيثار على نفسه، وكان يتصدق بقوته ويبيت طاوياً، فأصبح يوماً وليس في بيته غير درهم واحد ،
فقالت له زوجته : خذ هذا الدرهم واشتر به دقيقاً نعجن بعضه ونطبخ بعضه للأولاد، فإنهم لا يصبرون على ألم الجوع، فأخذ الدرهم والمزود ،
 وخرج إلى السوق، وكان الجو شديد البرودة، فصادفه سائل فتحوله عنه، فلحقه وألح عليه وأقسم عليه، فدفع له الدرهم ،
وبقي في هم وكرب، وفكر كيف يعود إلى الأولاد والزوجة بغير شيء، فمر بسوق البلاط وهم ينشرونه ففتح المزود وملأه من النشارة وربطه وأتى به إلى البيت فوضعه فيه على غفلة من زوجته ثم خرج إلى المسجد ،
فعمدت زوجته إلى المزود ففتحته فإذا فيه دقيق أبيض فعجنت منه وطبخت للأولاد فأكلوا وشبعوا ولعبوا ،
فلما ارتفع النهار جاء أبو مسلم وهو على خوف من امرأته ، فلما جلس أتته بالمائدة والطعام فأكل ،
فلما فرغ قال: من أين لكم هذا؟
قالت: من المزود الذي جئت به أمس، فتعجب من ذلك وشكر الله على لطفه وكرمه .

الجمعة، 13 سبتمبر 2019

إبتهال واستغاثة بالحي القيوم إعداد : محمد أبوغدير المحامي

إبتهال واستغاثة بالحي القيوم

إعداد : محمد أبوغدير المحامي



انت ربي ( يا حي يا قيوم ) :

 فأنت يا ربنا الحي : الذي لا بداية لوجودك  ، انت الأول ليس قبلك شيء وانت الآخر ليس بعدك شيء ، انت الباقي الذي لا يموت ، لا يصيبك ما يصيبنا من الضعف والشيخوخة والمرض والموت والانتهاء ، سبحانه فأنت الحي .

وانت يا ربنا الْقَيُّوم : القائم علي تدبير أمر السماوات والأرض ، لا يعجزك ولايخفي عليك شيء ، ولا تغيب عنك مثقال ذرة ، ولا تحتاج إلى أعوان ولا أنصار ولا إلى أولياء فانت الغني جل في علاك .

فأتوسل إليك يا الله بحياتك الدائمة وبقائك وقيوميتك عَلِي الكون ، فأنت يا ياربا القوي وأنا الضعيف ، وأنت الغني وانا الفقير المحتاج فلا أستطيع أن أستقل بحاجة نفسي وأمري دونك .

وبرحمتك أستغيث يا حي يا قيوم :
أستغيث برحمتك يا الله وهي أوسع صفة من صفاتك فسبحانك أنت القائل : ( ورحمتي وسعت كل شيء) وسعت رحمتك  الخلق جميعا ،ً  الانس والجن ، والمؤمن والكافر ، والبهائم .

أصلح لي شأني كله :

برحمتك أستغيث وأتوسل إليك يا ياحي يا قيوم : أن تصلح لي شأني كله ، أصلح لي نفسي ، أصلح لي سائر اعمالي العبادية والحياتية ، وأصلح لى زوجتي وأولادي ووالدي وعشيرتي وجيراني ، أصلح لي كل شيء ، بل أصلح لي شأني كله

ولا تكلني إليّ نفسي طرفة عين :

فأنا الضعيف الفقير العاجز ، لا أملك من أمري شيئا ، فأبرأ اليك يا ربي من حولي وقوتي إلا بك ، فلا تجعلني أركن إلى نفسي ولو قدراً ضئيلاً مقدار طرفة العين ، فإني إذا ركنت إليها لن أَجِد ما يعينني ، فوكلتك يارب جميع أمري فأنت  نعم المولى ونعم النصير  .

روى النسائي عن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه ؛ قال : أن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِفَاطِمَة رضي الله عنها : ( مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ، أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ : يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ  ).

الخميس، 5 سبتمبر 2019

قيام الليل إعداد : محمد أبوغدير المحامي

مقدمة :

قيام الليل أن تخلو بربك والناس نيام وقد سكن الكون كله وأرخى الليل سدوله وغابت نجومه ، 

فتستحضر قلبك وتتذكر ربك وتتمثل ضعفك وعظمة مولاك ، فتأنس بحضرته ويطمئن قلبك بذكره وتفرح بفضله ورحمته ، 

وتبكى من خشية الله وتشعر بمراقبته ، وتلح في الدعاء وتجتهد في الاستغفار ، وتفضي بحوائجك لمن لا يعجزه شيء ، ولا يشغله شيء عن شيء ،
وتسأل الله لدنياك وآخرتك وجهادك ودعوتك وآمالك وأمانيك ووطنك وعشيرتك ونفسك وإخوتك ،
وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.

والحديث عن معنى الليل يقتضي تعريفه ، وبيان مشروعية ، وهدي النبي فيه ، ووسائله ، وكونه بداية النصر وطريق النجاح ، وثمراته وفضله ، ووسائل تيسيره ، وبيان ذلك في الآتي :


أولا : تعريف قيام الليل :

قيام الليل هو قضاء معظم الليل أو جزء منه او بعض الوقت للصلاة، او تلاوة القرآن، أو الذكر والإستغفار ، أو الدعاء ، تبدأ بعد صلاة العشاء حتى صلاة الفجر، ويفضل أن تكون بالثلث الأخير من الليل


ثانيا : مشروعية قيام الليل

من القرآن الكريم  :

 قال  تعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون } السجدة :16 .
 وقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الذاريات :18،17.
وقال تعالى أيضا : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } الزمر:9.

ومن السنة المطهرة :

قوله عليه الصلاة والسلام: {عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم،ومطردة للداء عن الجسد } رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني .
وقال صلى الله عليه وسلم : { أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس } رواه الحاكم والبيهقي وحسنه الألباني .
 وذكر عند النبي رجل نام ليلة حتى أصبح فقال: { ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه !! } [متفق عليه].
وقال عليه الصلاة والسلام : { أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل } رواه مسلم.


ثالثا : هدي النبي في قيام الليل:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: { كان النبي يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. فقالت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ }متفق عليه
 وعن حذيفة قال: { صليت مع النبي ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مُتَرَسلاً، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوّذ تعوذ... الحديث } [رواه مسلم] ،
وعن ابن مسعود قال: { صليت مع النبي ليلة، فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء. قيل: ما هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأَدَعَهُ ! } متفق عليه.


رابعا : وسائل إحياء قيام الليل :

أ - صلاة الليل :

صلاة قيام الليل هي : ما يصليه المسلم نفلا بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، والأفضل تأخير صلاة الوتر عنها، وإذا صلاها قبلها صحت ، وأما صلاة التهجد فهي ما يصليه المرء بعد قيامه من النوم في السدس الأخير من الليل إلى طلوع الفجر .
حث الله المؤمنين ورغبهم في قيام الليل والصلاة فيه فقال تعالى: ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ) الإسراء ، وقال أيضا مادحاً المؤمنين: (والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً 9)الفرقان، وقال سبحانه يصف قيام الليل: (إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً ) المزمل.

وقت التهجد هو الثلث الأخير من الليل ، وقد حث النبي على قيام الليل ورغّب فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: {عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم،ومطردة للداء عن الجسد}  رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني .
وقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة النبي بالليل؟ قالت: " كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه فإذا أذن المؤذن وثب فإن كان به حاجة اغتسل، وإلا توضأ وخرج " رواه البخاري

ب - استغفار السحر :

الاستغفار : هو طلب المغفرة للذنوب والإقالة من العثرات من الله العزيز الغفار، وأفضل وقت للاستغفار هو وقت السحر قال تعالى : ( وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الذريات :18 .
وقد حث الله المؤمنين ورغبهم في الاستغفار فقال تعالى  ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199]، وقوله: ﴿ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 18]، وقوله: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 135]، وقوله: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110].
وأفضل صيغ الإستغفار سيد الإستغفار عنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي اللَّه عنْهُ عن النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قالَ : « سيِّدُ الاسْتِغْفار أَنْ يقُول الْعبْدُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي ، لا إِلَه إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَني وأَنَا عَبْدُكَ ، وأَنَا على عهْدِكَ ووعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما صنَعْتُ ، أَبوءُ لَكَ بِنِعْمتِكَ علَيَ ، وأَبُوءُ بذَنْبي فَاغْفِرْ لي ، فَإِنَّهُ لا يغْفِرُ الذُّنُوبِ إِلاَّ أَنْت منْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِناً بِهَا  فَمـاتَ مِنْ يوْمِهِ قَبْل أَنْ يُمْسِيَ ، فَهُو مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ ، ومَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وهُو مُوقِنٌ بها فَمَاتَ قَبل أَنْ يُصْبِح، فهُو مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ(.

ج - الدعــــاء :

الدعاء هو : استدعاءُ العبدِ ربَّه عزَّ وجلَّ العنايةَ، واستمدادُه منه المعونةَ. وحقيقته: إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتبرُّؤ من الحول والقوّة، وهو سمةُ العبودية، واستشعارُ الذلَّة البشريَّة، وفيه معنى الثناء على الله عزَّ وجلَّ، وإضافة الجود والكرم إليه.
وقد حث النبي  أصحابه ورغبهم في الدعاء في جوف الليل فروي عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا قال رسول الله (ينزل الله عز و جل إلى السماء الدنيا في كل ليلة إذا مضى ثلث الليل الأول ثم ينادي مناد هل من مستغفر فيغفر له هل من سائل فيعطى هل من داع فيستجاب له (، والدعاء سلاح المؤمن كما روى الحاكم في صحيحه من حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض" .

د - الذكــــر:

عرف  ابن عطاء الله السكندري الذكر بأنه : التخلص من الغفلة والنسيان بدوام حضور القلب مع الحق، بترديد اسم الله وصفاته بالقلب واللسان أو حكم من أحكامه أو فعل من أفعاله أو غير ذلك مما يُتقرَّبُ به إلى الله تعالى .
وقد حث الله المؤمنين ورغبهم في الذكر فقال تعالى :  { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسَبِّحُوه بكرةً وأصيلاً }  الأحزاب: 41 ، وقال تعالى: { واذكرْ ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار) آل عمران 41 ، وقال سبحانه : {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} الرعد: 28 ،وقال أيضاً: {واذكر اسم ربك وتبت إليه تبتيلاً} المزمل8  .
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم “ :مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربَّهُ مثل الحي والميت” رواه البخاري ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما من قومٍ اجتمعوا يذكرون الله عز وجل لا يريدون بذلك إلا وجهه؛ إلا ناداهم منادٍ من السماء أن قوموا مغفوراً لكم فقد بُدلت سيئاتكم حسنات” رواه الإمام أحمد ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقول الرب تبارك وتعالى: مَن شغلَهُ قراءةُ القرآن وذكري عن مسألتي أعطيتُهُ أفضلَ ما أُعطي السائلين ” أخرجه الترمذي


خامسا : قيام الليل شرف المؤمن وطريق النصر  والنجاح :

روى الحاكم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أتاني جبريل فقال: يا محمد ! عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس» .

فبقيام ترق القلوب وتتزكى النفوس العقول وتتهذب سائر الجوارح ، فمن يتحدَّى شهوة النوم التي تغلب كل البشر، وينتصر عليها؛ ليقوم مناجيًا ربه بلا جزع أو فزع، فهو صاحب قوة لا يمكن مضاهاتها ومن ثم يستبعد معه القعود والركون وينتفي أمامه الخوف والجبن، ويستحيل في حقه الفرار ويكون النصر والنجاح بإذن الله تعالى واقعًا بإذن الله تعالى .

وقيام الليل أرضٌ خصبة لتربية الرجال، وسبيل مهم للنصر على الأعداء، وقد كان قادة الحروب إذا مرُّوا على الجنود ورأوهم يقيمون الليل، يقولون: من هنا يأتي النصر، وإذا وجدوا الجنود نائمين يقولون: من هنا تأتي الهزيمة.


سادسا : ثمرات وفضل قيام الليل:

أ - دعوة مُستجابة ذنب يُغفر ومسألة تُقضى .

ب - وزيادة في الإيمان والتلذذ بالخشوع للرحمن .

ج - تحصيل للسكينة ونيل الطمأنينة .

د - اكتساب الحسنات ورفعة الدرجات والظفر بالنضارة .

ه - والمهابة وطرد الأدواء من الجسد.

فعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممَّن يذكر الله في تلك الليلة فكن " (رواه الترمذي وصححه.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال:  "جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات " (رواه الترمذي ).
وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  "تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي مناد: هل من داع فيُستجاب له، هل من سائل فيُعطى، هل من مكروب فيفرج عنه، فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إلا استجاب الله تعالى له، إلا زانية تسعى بفرجها، أو عشاراً " (رواه الترمذي وحسّــَنه .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له " (رواه البخاري ومسلم .


سابعا : الأسباب الميسِّرة لقيام الليل:

أ -- الأسباب الظاهرة أربعة أمور:

1 - ألا يكثر الأكل فيكثر الشرب، فيغلبه النوم، ويثقل عليه القيام.
2 - ألا يتعب نفسه بالنهار بما لا فائدة فيه.
3 - ألا يترك القيلولة بالنهار فإنها تعين على القيام.
4 - ألا يرتكب الأوزار بالنهار فيحرم القيام بالليل.

ب -- أما الأسباب الباطنة أربعة أمور:

1.  سلامة القلب عن الحقد على المسلمين، وعن البدع وعن فضول الدنيا.
2. خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل.
3. أن يعرف فضل قيام الليل.
4.  الحب لله، وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناج ربه.

الأربعاء، 28 أغسطس 2019

الأخوة في الله إعداد : محمد أبوغدير المحامي

مقدمة :
كان الناس كلهم في تناحر و تباغض ، وتكبر وتعال من الغني على الفقبر ومن الشريف على الوضيع ، وتفاخر بالأنساب و القبائل ، فجاء الإسلام مبددا بنوره كل تلك الظلمات ، فآخى بين المسلمين وألف بين قلوبهم وجعل الكل سواسية كأسنان المشط لا تمايز ولا تفاضل بينهم إلا بالتقوى .
قال الله عز وجل " وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم و لكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم "

فأشرقت أخوة الإيمان بالمودة والتعاون والإيثار والقوة ، منحة من عند الله تبارك وتعالى يقذفها في قلوب عباده المؤمنين فلا يمكن لأي قوة بشرية أن تمحوها من قلوب أصحابها المؤمنين أو أن تستبدلها بالحقد والكراهية والخصومة .

فكانت الأخوة و المحبة سببا في ظل الله تعالى لهم ، يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي ، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي" .

والحديث عن الأخوة في الله يقتضي بيان مفهومها وآفاقها ، ومشروعيتها في الكتاب والسنة ، وفضلها وحقوقها وما يفسدها وامثلة لها في صدر الإسلام


أولا : تعريف الأخوَّة وشروطها وآفاقها :

أ - تعريف الأخوة الإسلامية:

1. عرفت الأخوة في الله بأنها :
رابطة شرعية ربانية، وثيقة دائمة، تجمع بين كل مسلم وجميع المسلمين في كل ناحية وجزء من العالم.

2. كما عرفت الأخوة الإسلامية بإنها :
إنها رباط متين منعقد لا ينحل، وعروة وثقى لا تنفصم، وصلة أبدية لازمة مستمرة لا تنقطع، مبنية على المشاركة في الدِّين، تؤلف بين كافة المسلمين وتنتظمهم حيثما وجدوا.

3. وعرفت كذلك بأنها :
عقد وثيق؛ أطرافه جميع المسلمين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا صلى الله عليه وسلم، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويصومون رمضان، ويحجون البيت الحرام، ويؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره..

يقول ابن الجوزي: "اعلم أن المعنى الجامع بين المسلمين الإسلام، فقد اكتسبوا به أخوة أصلية، ووجب عليهم بذلك حقوق لبعضهم على بعض"

4. الأخوة في الله تعالى عند  الإمام البنا :

يقول : أقصد بالأخوة ان ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة ، والعقيدة أوثق الروابط وأغلاها ، والأخوة أخت الإيمان ، والتفرق أخو الكفر ، والقوة وحدة ، ولا وحدة بغير حب , وأقل الحب : سلامة الصدر وأعلاه : مرتبة الإيثار , (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر:9) .

والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه ، لأنه إن لم يكن بهم ، فلن يكون بغيرهم ، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره , (وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) , (والمؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً). (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة:71) , وهكذا يجب أن نكون .


ب - شروط الأخوة في الله:

لتحقيق الأخوَّة في الله لابد أن تسوفي شروطها اللازمة لقيامها وهي :

1. أن تكون خالصة لوجه لله.
2. أن تكون الأخوة في الله مقرونة بالإيمان والتقوى.
3. أن تكون الأخوة ملتزمة منهج الإسلام.
4. أن تكون الأخوة قائمة على النصح لله ولعباده.


ج - آفاق الأخوة الإسلامية :

للأخوة الإسلامية آفاق رحبة ؛ فهي تمتد مع أحقاب الزمان فتشملُ جميع المسلمين عبر العصور.
وتمتد مع آفاق المكان وتتخطى جميع الحدود، فتنتظم كافة المسلمين على وجه البسيطة .

قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [سورة الحشر: 10].

وعن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال - مخاطباً أصحابه رضي الله عنهم -: "وددت أنا قد رأينا إخواننا "، قالوا : أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: "أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد..." رواه مسلم .

ثانيا : مشروعية الأخوَّة في الله :

وهذه الأخوة الإسلامية تشريعٌ رباني ، ورابطة أنشأها الله عز وجل وشرعها، وعقد شرعي لا يسع مسلماً أن يتحلل منه أو يتخلف عن المشاركة فيه، والقيام بحقوقه وواجباته ورعايتها على النحو الذي شرعه الله تعالى في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وبيان ذلك في الآتي :


أ - الأخوة في القرآن الكريم :

1. قال الله تعالى :  ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 103].
ومعنى ﴿ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ أي: صرتم بنعمة الإسلام أخواناً في الدين"

2. وقال الله تعالى ايضا:  ﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 11].
فبالإسلام صيَّر الله تعالى المسلمين  إخوانا، بعد أن كانوا قبله طرائق قددا، وبعد أن أسلم الكفار صاروا مؤمنين إخوانا للمسلمين، تظللهم راية الأخوة الإسلامية،

3. وقال الله تعالى ايضا:  ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10]

4. وقال تعالى: ﴿ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ الفرقان 63.
الإخوة في الله منحة ربانية يقذفها الله في قلوب المخلصين من عباده والأصفياء من أوليائه، والأتقياء من خلقه؛ 
5. وقال الله تعالى : ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 220].
الإخوة في الله إصلاح وتعايش وتكافل مع ضعفاء المسلمين الذين فقدوا اباءهم أو اولياءهم .

ب - الأخوة في السنة النبوية الشريفة :

أكدت الأحاديث النبوية الشريفة ضرورة التمثل بالأخوة الإسلامية والتحلي بها نذكر منها الآتي :

1. جاء في صحيح مسلم : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخواناً المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ولا يحقره ، التقوى هاهنا )) ويشير إلى صدره ثلاث مرات (( بحسب أمري من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه )) رواه مسلم .

2. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخواناً )) رواه البخاري .

3. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام )) روه البخاري .

4. عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )) رواه مسلم .

5. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تحقرن من المعروف شيئاً ، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق )) رواه مسلم ، ( جـ 16 ، ص 177 ) .


ثالثا : حقوق الأخوة الصادقة :

1- التواد والتراحم والتعاطف:
قال عليه الصلاة والسلام: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى ) رواه مسلم.

والمؤمن يرحم أخاه كما قال الله تعالى : ( ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ) سورة البلد : 17.
وهكذا يكون المؤمن وأخيه كالجسد الواحد إذا اشتكى تألم له، وإذا احتاج أسرع إلى قضاء حاجته .

2 - التزاور في الله :
في صحيح الجامع قال عليه الصلاة والسلام: ( من عاد مريضًا أو زار أخًا له في الله، ناداه مناد أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلًا )؛ رواه أحمد وغيره.
وفي صحيح مسلم: عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته [طريقه] ملكًا، فلما أتى عليه، قال: (أين تريد)، قال أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل عليك من نعمةَ تربُّها؟ قال: لا غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته ) .

3. التواضُع وعدم التكلُّف : 
فما قطع الناس ولا أحدث فيهم الجفاء إلا نظرهم لمن فوقهم وعدم نظرهم إلى من تحتهم، واتِّخاذ الشيطان عدوًّا، وتقوى الله ما استطعنا، والحب في الله والبُغْض في الله، والإعطاء لله والمنع لله، ومنها القصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب، والتعاوُن على البرِّ والتقوى، وعدم التعاوُن على الإثم والعدوان.

4. الإيثار : 
قال تعالى : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأوليك هم المفلحون ) سورة الحشر : 90.

الأخوة تعايش يستوجب الإيثار بالمال وقضاء الحوائج والمشاركة في المحن .
قال محمد بن المنكدر: "لم يبق من لذة الدنيا إلا قضاء حوائج الإخوان".
وقال على بن الحسين لرجل: هل يُدخل أحدُكم يده في جيب أخيه، فيأخذ ما يريد بغير إذنه؟ قال: لا، قال: لستم بإخوان.

 5. التناصح والتواصي في الله :
 قال الله تعالى في : ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ العصر : 1 - 3 
 فأقسم سبحانه أن الناس جميعًا في خسران وهلاك في دنياهم وهالكون في آخرتهم ، إلَّا الأقلِّين عددًا، الأكثرين فضلًا ، وهم الذين آمنوا بالله إيمانًا صادقًا، وعملوا الصالحات ، وتواصَوا بالحق ِّ، وتواصَوا بالصبر.

6. العفو وستر العيوب والزلات : 
وهذه من أعظم الحقوق، فأخوك ليس ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلًا، فإن ذل فهو بشر يصيب ويخطئ ومن يكون العفو عنه من مقتضيات الأخوة ، قال تعالى : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) سورة الأعراف : 199، 
وقال تعالى أيضا : ( وجزآؤا سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ) سورة الشورى : 40.

 ولا يجوز للمؤمن أن تفشي سرًّا أو يكشف لأخيه عيبًا أو يذكره أمام الناس ، بل عليه أن يخلوَ به سرًّا، وينصحه بما تقتضيه النصيحة، ولا شك أن النصيحة عندما تكون خالصة لوجه الله حاصلة في السر، فإن الاستجابة لها ستكون متحققة.

ومن واجب المؤمن ألا يضيق ذرعًا بالنصيحة، وأن يتقبلها بصدر منشرح ونفس راضية، واعلم أيها الأخ الحبيب أن العفو من شيم الكرام.
وكان عبدالله بن معاوية يقول:
لا يزهدنك في أخ لك     أن تراه زل زلة 
ما من أخ لك لا يعاب   ولو حرصت الحرص كله 

7. الإصلاح بين الناس :
جعل الله تعالى الإصلاح بين الأخوَينِ من التقوى، وحسبنا قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ الحجرات: 10 .


رابعا : مفسدات الأخوة :

إذا فسدت الإخوة دَبَّ الفتور الذي يفتت عضد الاستقامة ، وتؤدي الى انهيار صرح الأخوة وإفسادها بين المؤمنين ، لذلك وجب بيان أسباب هذه مفسدات الأخوة في الآتي :

1- الكبر والاستعلاء :
وأول مفسدات الإخوة هو الكبر والاستعلاء
، ومن طبيعة البشر كرههم لمن يعاملهم باستعلاء مهما كان هذا الإنسان، لذا كان الإنسان مأمورًا بالتواضع والشعور بالآخرين .
ولقد أُمر  الله تعالى بذلك سيد الناس عليه الصلاة والسلام قال له سبحانه : ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ الشعراء: 215 .
وروى ابن ماجه في صحيحه ان النبي صلى الله عليه وسلم يراه الرجل، فيهابه وترعد فرائصه، فيقول عليه الصلاة والسلام: ( هوِّن عليك، فإني لست بملِك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد ) .
فعلام الكبر والاستعلاء؟ 
حُكى عن مُطرف بن عبدالله قال : أنه نظر إلى أحد الناس وهو يمشي الخيلاء وعليه حُلة يجرجرها، فقال: يا هذا ما هذه المشية؟ قال: أما تعرفني؟ قال: بل أعرفك أولك نطفة مذِرة وآخرك جيفة قذرة، وحشوك فيما بين ذلك بول وعذْرة.

2- السخرية والاستهزاء :
ومفسدات الأخوة السخرية والاستهزاء حتى لو لم يكن بقصد ، فأخوك لم يشق عن قلبك  لما رأى وسمع ، فيجب  الإلتزام بقول الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ الحجرات: 11 .

3- سوء الظن :
من أكبر العقبات التي تَحُول بين تَرابط المسلمين فيما بينهم هو سوء الظن ، فإياك وإياه الظن الذي لم يُبْن على أصل وتحقيق نظر، وأغلب الظن كذلك؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ الحجرات: 12 .

وفي الصحيحين: " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث "، فأحسن الظن بالغير  فلعله أساء التعبير، أو لم يحسن التصرف لخبرته، فبعض الإخوة يحكم على قلوب الآخرين.

لما جلس الإمام الشافعي في مرض موته، قال له الربيع بن سليمان: قوى الله ضعفك يا إمام، فقال: لو قوّى ضعفي لقتلني، فقال: "والله ما قصدت يا إمام، فقال الشافعي: والله لو شتمتني لعلمت أنك لم تقصد.

4- عدم التزام بأدب الحديث : 
وهذا باب واسع يدخل منه الشيطان للإفساد بين الإخوان وله صور منها: الحيدة ورفع الصوت في الكلام ، وعدم الإنصات إلى حديث صاحبه فيقطعه أو ينشغل عنه .
يقول بعض السلف : إن الرجل ليحدثني بالحديث أعرفه قبل أن تلده أمه، فيحملني حسن الأدب إلى الاستماع إليه حتى يَفرُغ.

5- الجدل:
فبالجدال تخسر المجال ويقسوا القلب في الحال، وهذه حقيقة واقعية ، فقد روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك الجدال ولو كان محقًّا ).

ولما سئل الإمام مالك: يا أبا عبدالله الرجل يكون عالمًا بالسنة أيجادل عنها ؟ قال: لا ولكنه يخبر بالسنة، فإن قبلت وإلا سكت.
 وصدق من قال: (من جاءك مسترشدًا فأرشده، ومن جاءك مجادلًا فأعرض عنه فإنه من الجاهلين).

6 - إفشاء الأسرار : 
وفي صحيح الجامع يقول عليه الصلاة والسلام: ( إذا حدث الرجلُ الرجلَ حديثًا ثم انصرف، فهو أمانة ).
ومما يديم الصحبة ألا تفشي لأخيك سرًّا ، فكفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع.


7- النصح في الملأ : 
لا يختلف اثنان أن النصيحة بين الناس يكرهها الناس، بل إن ذلك مما يزيل المحبة ويزرع العداوة، وقد يولّد العناد.

8-  كثرة المعاتبة وعدم التسامح والنظر إلى السلبيات دون الإيجابيات:
فيجب التغافل عن هفوات الأخ حتى تدوم الألفة ؛ قال بعض الحكماء: وجدتُ أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل، وقد تغافل أقوام عن أذى الأعداء، فكيف بالأصدقاء! 
 قال سعيد بن المسيب: "ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل، إلا فيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه".
وقال الشاعر : 
كنت في كل الأمور معاتبًا    أخاك لم تلق الذي لا تعاتبه 
فعش واحدًا أوصل أخاك   فإنه مقارف ذنبًا تارة ومجانبه 
فمن ذا الذي تُرجى سجاياه كلها    كفى بالمرء نبلًا أن تعد معايبه 

9 ، 10 : ومن مفسدات الإخوة الكثير والكثير :
 نسأل الله النجاة  
﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ الحشر: 10 .

خامسا : ثمرة المحبَّة في الله.

إذا استكملت الأخوة في الله شرائطها واستوفت حقوقها وانتفت مفسداتتها تحققت ثمراتها العظيمة الآتي بيانها :

1. ـ استكمال الايمان:
عن ابي امامة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من احب لله، وابغض لله، واعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الايمان).. (رواه ابو داوود بسند حسن).

2. دليل على ملازمة الإيمان للمؤمن :
قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات:10 ، فإذا وجدت التقوى والإيمان في عبد ولم توجد إخوة صادقة، فهو إيمان ناقص وتقوى مزعومة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )؛ رواه الشيخان.

3. أيجاد طعم الايمان: 
قال عليه الصلاة والسلام: (من احب ان يجد طعم الايمان فليحب المرء لا يحبه الا لله).. (رواه الحاكم وقال: صحيح الاسناد ولم يخرجاه واقر الذهبي.

4. تذوق حلاوة الإيمان :
ويكفينا قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث من كُنَّ فيه وجَدَ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبُّه إلَّا لله، وأن يكره أن يعود في الكُفْر كما يكره أن يُقذَف في النار ).

5. الكرامة من الله :
عن ابي امامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد احب عبدا لله الا اكرمه عز وجل).. اخرجه احمد  

6. محبة الله تعالى له :
وعن معاذ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: ( وَجَبَتْ محبَّتي للمُتحابِّين فيَّ والمُتجالسين فيَّ ) من الأحاديث القدسية في مسند أحمد .

7. احبهما الى الله اشدهما حبا لصاحبه:
عن ابي الدرداء رضي الله عنه يرفعه قال: (ما من رجلين تحابا في الله الا كان احبهما الى الله اشدهما حبا لصاحبه).. (رواه الطبراني)..

8. إظلال الله تعالى لهم بظله يوم القيامة :
وروى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظله... ورجلانِ تحابَّا في الله، اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه) . 
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابُّون بجلالي؟ اليوم أُظِلُّهم في ظلِّي يوم لا ظِلَّ إلا ظلي) .

9. يدخلهم الله تعالى جنته :
وروي عنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أَوَلَا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحابَبْتُم؟ أفْشُوا السلام بينكم ) .

 10ـ   يلتحق بمن يحبهم من الصااحين ويصل الى مراتبهم وان لم يكن عمله بالغ مبلغهم
 وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله كيف تقول في رجل احب قوما ولم يلحق بهم قال: (المرء مع من احب). (الصحيحان). 


سادسا : الأخوة في صدر الإسلام :

أن في استشعار الأخوة أقوى الروابط والتنظيمات الهادفة إلى إصلاح ما بين الناس وتصفية الأحقاد والأحساد .

أ- المآخاة بين المهاجرين والأنصار :

ومن سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم الإدارية في بداية تأسيس الدولة الإسلامية أن آخى بين المهاجرين والأنصار فقد ذكر الدميري ( 1408 هـ ) : (( أنـه قـال لـهـم : (( إني أوآخي بينكم كما آخى الله تعالى بين ملائكته ))
.

وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأوس والخزرج فصفى ما بينهم من خلافات وأنساهم الثأر والحروب وصهرهم في بوتقة واحدة ، وكان المقصود من المؤاخاة أن يوقر كل منهم أخاه ويعاونه ويواسيه ويكون عوناً له على الأعداء ويحبه كما يحب نفسه )) ، ص 71 .


ب- التآخي مع خادمه صلى الله عليه وسلم :

وفي تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خادمه أفضل الصور لاستشعار الأخوة الإسلامية بمعناها الحقيقي .

عن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً ، فأرسلني يوماً لحاجة فقلت : والله لا أذهب ، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي ، قال : فنظرت إليه وهو يضحك ، فقال : (( أنيس أذهبت حيث أمرتك )) ؟ قال : قلت : نعم ، أنا أذهب يا رسول الله ، قال أنس : والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته : (( لم فعلت كذا وكذا )) أو لشيء تركنه : (( هلا فعلت كذا وكذا )) ، رواه مسلم ، ( جـ 15 ، ص 71 ) .


ج - إيثاره ومواساة صلى الله عليه وسلم لضيفه :

ومن الإيثار ولمواساة ما ذكر في رياض الصالحين في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه ، فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك قلن كلهن مثل ذلك : لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من يضيف هذه الليلة ؟ )) فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله صلى عليه وسلم فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية قال لامرأته : هل عندك شيء ؟ فقالت : لا ، إلا قوت صبياني قال : علليهم بشيء وإذا أرادوا العشاء، فنوميهم ، وإذا دخل ضيفنا ، فأطفئي السراج ، وأريه أنا نأكل فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين ، فلما أصبح غداً على النبي صلى الله عليه وسلم : فقال : لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة )) ، ص 196

ونزل في ذلك آية قال تعالى : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) ، والصور كثيرة من صور رسول الله صلى الله عليه وسلم على استشعار الأخوة الإسلامية مع جميع أصحابه ، وقد تدرب عليها أصحابه وطبقوها ، 


د - تواضع عمر بن عبد العزيز مع ضيفه :

ومن أمثلة ذلك التواضع وما ذكره أبو بكر الجزائري ( د . ت ) : (( روي أن عمر بن عبد العزيز أتاه ليلة ضيف وكان يكتب فكاد السراج يطفأ فقال الضيف : أقوم إلى المصباح فأصلحه ؟ فقال : ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه فقال الضيف إذا انبه الغلام ؟ فقال عمر : إنها أول نومه نامها فلا تنبه . وذهب إلى البطة وملأ المصباح زيتناً ولما قال له الضيف : قمت أنت بنفسك يا أمير المؤمنين ؟ أجابه قائلاً ذهبت وأنا عمر ، ورجعت وأنا عمر ، ما نقص مني شيء ، وخير الناس من كان عند الله متواضعاً )) 

الأربعاء، 24 يوليو 2019

الصحة النفسية في الإسلام إعداد : محمد ابوغدير المحامي

 المؤمنون لا يعيشون لذواتهم ولا لشهواتهم إنما يعيشون دعاة ومصلحين لأمتهم حريصين عليهم ، مقتدون برسولهم صلى الله عليه وسلم حيث قال عنه الله  تعالى : " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم" .

 لذلك فإن حياة المؤمنين تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية، وتمتد بعد مفارقتهم لوجه هذه الأرض ، وحياتهم الطويلة محفوفة بالمكاره ، مليئة بالأشواك ، حافلة بالعقبات ، مفروشة بالدماء والأشلاء ، محكوم عليها بالابتلاء والإيذاء .

والابتلاء هو أحد سنن الله عزّ وجل في عباده المؤمنين في الحياة الدنيا ، وهو سنة الله في العقائد والدعوات ، يقول الله تعالى : { ألم ¯  أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ¯ ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } العنكبوت :1 - 3 .

ولما كان الرجل يبتلى على قدر دينه ، وإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء ، كان أشد الناس ابتلاءً هم الأنبياء والصالحون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أشد الناس بلاءً الأنبياء ، ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل )

ولكي يعيش المؤمن حياة طيبة وبحالة نفسية وروحية عالية راضيا بقضاء الله تعالى محتسبا الأجر فعليه ان يواجه كل مصيبة أو ابتلاء يقع عليه بالأسلحة الآتيه :
اولا : الإيمان : سلاح المؤمن الداعية في مواجهة صراع الحياة ومغرياتها .
ثانيا : الإخلاص طريق التجرد عن المصالح الشخصية والترفع عن الغايات الذاتية .
ثالثا :التفاؤل والأمل في مواجهة اليأس والقنوط .
رابعا : الجرأة في مواجهة الظالمين دون الخوف من المحنة والابتلاء .
خامسا : الصبر والثبات في مواجهة الفتن والمغريات والمحن والمكاره .
وبيان ذلك في الآتي :


اولا : الإيمان سلاح المؤمن الداعية في مواجهة صراع الحياة ومغرياتها :

لا شك المؤمن الداعية حال مواجهة لصراع الحياة ومجابها لمغريات الدنيا يحتاج الى سلاح في مواجهة ذلك هو الإيمان .

فالإيمان بالله الواحد الأحد حين يتغلغل في النفوس وتخالط بشاشته القلوب هو أول سلاح يتسلح به المؤمن ،  فبدون الإيمان يبطل كل سلاح ويبطل كل إعداد وتبطل كل ذخيرة ، فما المقصود بهذا الإيمان :

أ - الإيمان هو الإعتقاد الجازم بأن الآجال بيد الله تعالى : وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء كتبه الله له وأن اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه .
وعلى المؤمن أن يضع نصب عينيه قول الحق سبحانه :{ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون }.
وأن يردد صباح مساء قوله جل جلاله :{ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون }.
فبهذا الاعتقاد وبهذا الشعور يتحرر المؤمن من الخوف والجبن والجزع ويتحلى بالصبر والشجاعة والإقدام .

ب - الإيمان هو الإعتقاد الجازم بأن الأرزاق بيد الله : وأن ما بسطه الله على العبد لم يكن لأحد أن يمنعه وأن ما أمسكه عليه لم يكن لأحد أن يعطيه  وأن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها وعلى المؤمن أن يضع نصب عينيه قول الحق سبحانه :{ إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعبادة خبيراً بصيراً }.
وأن يردد صباح مساء قوله جل جلاله :{ أمن هذا الذي يرزقكم إن مسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور }.

فبهذا الاعتقاد يتحرر المؤمن من الحرص الزائد على الدنيا والإلحاح بالطلب ويتحرر أيضاً من الشح النفسي والتقتير المزري والإمساك الشائن ويتحلى بمعاني الكرم والإيثار والعطاء بل يرى السعادة في القناعة وعيش الكفاف فإذا قنعت النفوس رضيت بالقليل وكفاها اليسير .

ج - الإيمان هو الإعتقاد الجازم بمعية الله أن الله سبحانه معه يسمعه ويراه ويعلم سره ونجواه ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
وعلى المؤمن أن يضع نصب عينيه قول الحق سبحانه :{ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ...}.
وأن يردد صباح مساء قوله جل جلاله :{ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } .
فبهذا الاعتقاد وبهذا الشعور يتحرر المؤمن من ربقة الهوى ونزغات النفس المارة بالسوء وهمزات الشياطين وفتنة المال والنساء ويتحلى بالمراقبة لله والإخلاص له أمانة وجدية وإتقان بل يكون إذا مشى في الناس إنساناً سوياً وبراً تقياً وريحانه طيبة الشذى وشامة في المجتمع يشار إليه بالبنان .


ثانيا : الإخلاص طريق التجرد عن المصالح الشخصية والترفع عن الغايات الذاتية :

لا شك أن المؤمن حال ممارسته لشئونه الوظيفية والدعويه والسعي إلى الإصلاح تنتابه نزعات لتحقيق مصلتحه الشخصية وغايته الذاتية ، وهذه هي الصفات التي جبل عليها البشر ، ولا شك أن الإخلاص بإعتبار قوة إيمانه يدفع صاحبه ليترفع عن مصلحته وغايتة  الذاتية وأن يقصد من عمله وجه الله لا ينبغي من وراءه جزاء ولا شكوراً .

وإذا استمر المخلص على هذه الحالة يصبح الإخلاص في أعماله كلها خلقاً وعادة دون أن يجد في ذلك أي تكلف أو مجاهدة ؟

وهذا المعني للإخلاص هو المقصود من قول الله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء .} .
وقوله سبحانه وتعالى :{ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } .

وهو المقصود أيضاً من قوله عليه الصلاةوالسلام في الأحاديث الآتية :
روى أبو داود والنسائي بإسناد جيد عن أبي أمامه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :(( إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجه )).
وروى الحاكم عن معاذ بن جبل أنه قال حين بعث إلى اليمن : يا رسول الله أوصني قال له عليه الصلاة والسلام :(( أخلص دينك يكفك العمل القليل )).

وحقيقة العمل الخالص أن يتصف بشيئين : الأول أن يكون موافقاً للشريعة ، والثاني أن يقصد به وجه الله ، فإذا كان العمل موافقاً للشريعة ولم يكن خالصاً لله لم يقبل , وإذا كان خالصاً لله ولم يكن موافقاً للشريعة لم يقبل العمل إلا إذا كان على وفق الشريعة وكان خالصاً لله !!.

وصفات المخلصين من الدعاة :
أن جميع تصرفاتهم وأعمالهم وسلوكهم تكون علي وفق شريعة الله ، وأن يحاسبوا أنفسهم بشكل دائم ، وأن ينظروا إلى مفاهيم هل هي مطابقة لأقوالهم ولسان حالهم ، وأن يحذروا مكائد الشيطان ووساوس النفس والهوى وفتنة العجب ومزالق الرياء .


ثالثا :التفاؤل والأمل في مواجهة اليأس والقنوط :

التفاؤل قوة نفسية إيجابية فعالة ، ينظر صاحبها إلى الغد بابتسامة أمل ويسير إلى الغاية المرجوة بروح القائد الشجاع وبنفسية العزيز المنتصر دون أن يعتريه يأس أو يستحوذ عليه قنوط .

والمؤمن الذي يسعى لأصلاح نفسه ويدعو غيره للإصلاح هو أولي بأن يتحلى بالأمل لتحقيق أهدافه وليجد ثمرة جهده وجهاده فهو أحق بأن يتصف بالتفاؤل لإعزاز دينه ، لأن القرآن الكريم حزم اليـأس وندد باليائسين ، ولأن التاريخ برهن له على انتفاضات الأمم مما أصابها ، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام بشر أمة الإسلام بالعز والسيادة .

أما القرآن الكريم حرم اليأس وندد باليائسين ، من ذلك ما ورد   في سورة يوسف حيث قال تعالى :{ ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون }.
وما قاله تعالى في سورة الحجر : { قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون }.
ولقد ندد الله تعالى بالإنسان اليائس وقبح نفسه الخائرة وقلبه الهالع ، ففي سورة الروم قال الله تعالى :{ وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وان تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون }.

وخلاصة ما تقدم إذا كان اليأس  في دين الله حراماً ، وأن صفحات التاريخ اثبت أن الأمم المغلوبة التي تتوق إلى المجد لها انتفاضات وانتصارات ، وأن رسول صلى الله علي وسلم قد بشر أمة الإسلام ببلوغ قمة المجد وغاية القوة والسيادة مهما أصابها ضعف وتفكك .


رابعا : الجرأة في مواجهة الظالمين دون الخوف من المحنة والابتلاء :

الجرأة في الحق قوة نفسية رائعة يستمدها المؤمن الداعية من الإيمان بالله الواحد الأحد الذي يعتقده والحق الذي يعتنقه ومن الخلود السرمدي الذي يوقن به ومن القدر الذي يستسلم إليه ومن المسئولية التي يستشعر بها ومن التربية الإسلامية التي نشئ عليها ، وعلى قدر تحصيل المؤمن مما سبق يكون نصيبه من قوة الجرأة والشجاعة وإعلان كلمة الحق التي لا تخشى في الله لومة لائم .

وعلى الداعية في هذا المجال أن يميز بين الجرأة والغلظة .
الجرأة : وهي ان يقول كلمة الحق ولو أدت إلى المحنة والابتلاء ، وفي الأصل أن ينصح الداعي  بالرفق واللين والحكمة والموعظة الحسنة تحقيقاً لقول الله تبارك وتعالى :{ أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن }.

أما الغلظة : فهي أن يبدأ الداعي من يدعوه بالجفاء والفظاظة والشدة وهذا تورث ردود فعل من المدعو أو المنصوح قد تؤدي بالداعي إلى أسوأ العواقب ولا سيما إذا كان المنصوح له ذا مركز مرموق وسلطة قوية .

ومن هنا  امتدح الله سبحانه اهل الجرأة بالحق حيث قال تعالى في سورة الأحزاب :{ الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفي بالله حسيباً }

وكانت فضيلة الجرأة بالحق أنها من أعظم الجهاد ، لما روى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :(( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ))

وبذلك كان صلى الله عليه وسلم يأخذ العهد من أصحابه ، فقد روى مسلم في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال :(( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ، ، ، ، وعلى أن تقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم )).


خامسا : الصبر والثبات في مواجهة الفتن والمغريات والمحن والمكاره  :

الصبر قوة نفسية إيجابية فعالة تدفع المتحلي به إلى مقاومة كل أسباب الخور والضعف والاستكانة والاستسلام وتحمله على الصمود والثبات أمام الفتن والمغريات وأمام المحن والمكاره والأحداث إلى أن يأذن الله له بالنصر أو أن يلقى الله عز وجل وهو عنه راض .

وعلى المؤمن حال تبليغه دعوة الله أن يضع في حسبانه الاتهامات الكاذبة والأقاويل الباطلة للحط من شأنه والتقليل من اعتباره ،
وربما يصل إلى إخراجه من وظائفه، ومصادرة أملاكه ، قطع  كسبه ورزقه ، وأن يتوقع السجن والاعتقال والتعذيب ، بل عليه أن يضع بحسبانه الاستشهاد في سبيل الإسلام والدعوة إلى الله .

ومن المغريات التي التي يجب أن تكون بحسبان المؤمن إغراءه بالمنصب والوظيفة وفتنه بالمال والجاه ، أو إغواءه بالجنس والنساء وقد يلبس هذا الإغواء ثوب الزواج في كثير من الأحيان .

فحين يضع المؤمن نصب عينيه كل هذه الاحتمالات من ضروب الأذى والاضطهاد والشدة فلا يجد في سبيل ما يلقاه من محنه وابتلاء أي حرج أو يأس أو انهزامية لأن ذلك من سنن الدعوات والدعاة وحسبهم في ذلك قائد دعوتهم عليه الصلاة والسلام القدوة العملية في الصبر والاحتمال والأسوة الحسنة في الصمود والثبات .

وهذا ما بينه القرآن الكريم أوفى بيان :
قال الله تعالى في سورة العنكبوت : { آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعملن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }.

وقال سبحانه في سورة البقرة :{ أم حسبتهم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتي يقول الرسول والذي آمنوا معه متي نصر الله ألا إن نصر الله قريب }.

وعلى لسان لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه قال تعالى :{ يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور }.

وهذا أيضاً ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في مواطن عدة ، فقد روى الترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : قلنا يا رسول الله : أي الناس أشد بلاء ؟ قال : ( الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلي الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلاء الله على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه خطيئة ).
وروى مسلم في صحيحه عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ).

ومؤدى ما تقدم أن المؤمنين الذين يتصدون للدعوة ويسيرون في طريق الإصلاح والتغيير والهداية لابد أن يتعرضوا للمحن السالف الإشارة إليها ، وحتى  يعيشوا حياة طيبة وحالة نفسية وروحية عالية راضين بقضاء الله تعالى محتسبين الأجر والثواب فعليهم ان يواجهوا كل مصيبة أو ابتلاء يقع عليهم بأسلحة الإيمان ، والإخلاص ، والتفاؤل ، والأمل ، والجرأة في مواجهة الظالمين ، والصبر والثبات ، وذلك على التفصيل السالف بيانه .

الاثنين، 22 يوليو 2019

المسؤولية الدعوية إعداد : محمد أبوغدير المحامي

المسؤولية الدعوية
تعريف الدعوة ومشروعيتها ،
وتعريف المسؤولية وحكمها ، وجوانبها ، والخطوات الإدارية لتعزيزها ، وصفات المسؤول

الدعوة إلى الله تعالى هي رسالة السماء إلي الأرض وهدية الخالق إلي المخلوق ، وهي دين الله القويم ، وطريقه المستقيم ، وقد اختارها الله وجعلها الطريق الموصل إليه سبحانه فقال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ النحل : 125 .

لذلك كانت الدعوة إلى الله فريضة شرعية وضرورة إجتماعية ، فعلى افراد الأمة أن يستشعروا المسؤولية نحو أنفسهم وأسرهم وإصلاح  مجتمعاتهم ،

فالجميع على ثَغر من ثغور الإسلام ، فيجب على المسلم أن يكون حارسا لدينه وأمته من منطلقٍ تكليف النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بقوله : " كلكم راعٍ ، وكلكم مسؤول عن رعيته " .

وإذا غاب الشعور بالمسؤولية تعطلت الحياة ، وتراجع العطاء والانتاج ، لكن المسؤول الواثق بنفسه يعرف طريقه إلى النجاح والفلاح ، فيكون الإرتقاء بمسؤولية حليفه في كل خطوةٍ أو مهمةٍ يقوم بها في كافة مجالات الحياة .

والحديث عن المسؤولية الدعوية يقتضي تعريف الدعوة الإسلامية ومشروعيتها  ثم تعريف المسؤولية بصفة عامة والمسؤولية الدعوية ، ثم بيان جوانب المسؤولية الدعوية  ، والخطوات الإدارية لتعزيزها ، وصفات المسؤول  وبيان ذلك في الآتي :


أولا : تعريف الدعوية ومشوعيتها :

يسبق تعريف المسؤولية الدعوية تعريف الدعوة الإسلامية ومشروعيتها  ثم تعريف المسؤولية  بصفة عامة وبيان ذلك في الآتي :

أ - تعريف الدعوة الإسلامية :

يعريف الدكتور توفيق الواعي الدعوة الإسلامية بأنها :
جمع الناس علي الخير ، ودلالتهم علي الرشد بتنفيذ منهج الله علي الأرض قولا وعملا ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، وإرشادهم إلي الطريق المستقيم ، والصبر والمصابرة علي أعباء البلاغ ، مصدقا لقوله تعالي : (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) .

ب - مشروعية الدعوة إلى الله تعالى :

والدعوة إلي الله تعالي مشروعة علي سبيل الفرض والإيجاب ، لا يصح إهمالها ، أو التواني والتفريط فيها ، فهي من فرائض الدين ، والأدلة على ذلك كثيرة بيانها في الآتي :

1. قوله سبحانه وتعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون )َ سورة آل عمران الآية 104.
 2. ومنها قوله جل وعلا: ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) سورة النحل من الآية 125.
3. ومنها قوله عز وجل: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) سورة القصص من الآية 87.
 ومنها قوله سبحانه: ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) سورة يوسف من الآية 108.
 فيبين سبحانه أن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم الدعاة إلى الله. وهم أهل البصائر والواجب كما هو معلوم هو اتباعه والسير على منهاجه عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) سورة الأحزاب الآية 21..


ثانيا المسؤولية الدعوية مشروعيتها وحكمها :

المسؤولية بصفة عامة في الإسلام واجب شرعي وأخلاقي يجب على كل من تحمل شيئاً منها أن يقوم بها خير قيام براءة لذمته وحتى لا يكون ظالماً لغيره ، ومن المسؤولية العامة تكون المسؤوليةالدعوية ، ونبين أدلة المسؤولية العامة والدعوية في الآتي :

1. أدلة المسؤولية العامة :
روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) .
وقال الله تعالى ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ الحجر: 92، 93 ، وقال تعالى ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولونَ ﴾ .

والمسؤولية فردية لأن التكليف فردى والحساب كذلك يوم القيامة ،
قال تعالى ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ مريم: 93 - 95 .
ويقول الحق سبحانه : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } المدثر : 38  ، ويقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " كلكم راعٍ ، وكلكم مسؤول عن رعيته " .

2. أدلة المسؤولية الدعوية :

وإذا كانت الدعوة إلي الله تعالي واجبة ومفروضة علي النحو السالف بيانه ، فإنها مسئولية المسلمين جميعاً ، يعني مطلوبة من كل المسلمين ، كلٌ حسب طاقاته وإمكاناته ، ولا يعفي أحد من القيام بهذا الواجب .

1 - قوله تعالي : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) ، والشهادة علي الناس تقتضي البلاغ لهم ، وتمام البلاغ إنما يكون بتضافر كل الجهود الفردية والجماعية ، وذلك هو العموم أو عينية الوجوب .

2 - وقوله تعالي : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ، ومعناها ان المؤمنين مكلفون جميعاً بهذا الأمر وعليكم  أن تختاروا طائفة منكم لتقوموا بهذا الواجب وضرورة الوقوف من ورائها ، وحمايتها من سطوة كل جبار عنيد ، فالكل إذاً في دعوة كل حسب طاقاته وإمكانياته التي وهبها الله عز وجل .


ثالثا : جوانب المسؤولية الدعوية :

الإصلاح الشامل مسؤولية المسلم ، وهي مسؤولية ضخمة ورسالة سامية لها جوانب عديدة هي : أصلاح المسلم لنفسه وأهله ، وإرشاده لمجتمعه ، ونصحه لحاكمه ، وسعيه لإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية ، وبيان هذه الجوانب في التالي :

1. المسؤولية عن النفس :

فعلى المسلم أن يقوم بإصلاح بنائه وتشييده بأن يكون سليم العقيده ، صحيح العباده ، مجاهدا لنفسه ، حريصا على وقته ، منظما في شؤونه ، نافعا لغيره ، قوي الجسم ، متين الخلق ، مثقف الفكر ، قادرا على الكسب .

2 . المسؤولية عن الزوجة والأولاد :

بأن يحملهم على احترام فكرته، والمحافظة على آداب الإسلام في كل مظاهر الحياة المنزلية ، وحسن اختيار الزوجة ، وتوقيفها على حقها وواجبها ، وحسن تربية الأولاد والخدم وتنشئتهم على مبادئ الإسلام .
قال تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } طه:132.
وعن إسماعيل عليه السلام قال الله تعالى : {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا } مريم:55 .

3 . المسؤولية عن إرشاد المجتمع :

بأن ينشر دعوة الخير فيه ، ومحاربة الرذائل والمنكرات ، وتشجيع الفضائل، والأمر بالمعروف ، والمبادرة إلى فعل الخير ، وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية، وصبغ مظاهر الحياة العامة بها دائما ً.

4 . المسؤولية عن إصلاح الحكومة :

حتى تكون إسلامية بحق ، منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه. ومن صفاتها: الشفقة على الرعية، والعدالة بين الناس ، والعفة عن المال العام،
ومن واجباتها : صيانة الأمن، وإنفاذ القانون ، ونشر التعليم، وتنمية الثروة ، وتقوية الأخلاق، ونشر الدعوة.
ومن حقها –متى أدت واجبها الولاء والطاعة، فإذا قصرت، فالنصح والإرشاد ثم الخلع والإبعاد فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .

  5- ومسؤول عن اعادة الكيان الدولي للأمة :

فلا تكتمل المسؤولية في الإصلاح حتى تحرر أوطان الامة ويحيي مجدها وتتقارب ثقافتها وتجمتع كلمتها ، فتتحقق بذلك الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة .
ولا شك أن هذه المهام والمسؤوليات جسام لا يستطيعها الفرد بنفسه ولذلك فهي مسؤولية الأمة مجتمعة ، فعليها أن توحد صفها وتعد عدتها لتنشر دعوة الإسلام في ربوع المعمورة ، فتصل بذلك لغايتها وهي أستاذية العالم كما قال تعالى (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) الأنفال : 39


رابعا : الخطوات الإدارية لتعزيز المسئولية :

المسئولية هو الوقود الذي يحرك نحو الهدف ، وهي عنصر لا غنى عنه من أجل تقدير الذات الإيجابي، والاعتماد على النفس ، ولكن قيام المسؤولية تحتاج خطوات ادارية وعملية لتعزيزها في نفس المسؤول ، وهي كالآتي:

1 - معرفة تفاصيل المسؤولية التي يجب القيام بها  ،
بأن يتفاعل المسؤول في أدائها بصورةٍ أكثر بأن يعرف ماذا يراد منه ، ومتى عرف أهمية ذلك وأدركه على وجه التحديد سعى بجدٍ وإخلاصٍ لتحقيقه وإنجازه .

2 - إدراك التحديَّات والمخاطر التي تهدِّد الأمَّة الإسلاميَّة ،
فإنَّ معرفة هذه الأخطار والمؤامرات التي تحاك ضدَّ الأمَّة فيهارفعٌ للهمَّة وتقويةٌ للعزيمة ودفعٌ للذاتيَّة، وإقدامٌ على تبليغ دعوة الله والأخذ بالأسباب في مواجهة هذه التحدِّيات التي تريد النيل من الإسلام والمسلمين، وقد ورد في الأثر: " من لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم ".

3 -البعد عن الروتين والرتابة لأنهما يقتلان روح المسؤولية ،
فليحاول المسؤول  أن يُجدِّد في أسلوب التعامل مع مسؤولياته ، ولا يكن نمطياً أو جامداً على حالةٍ واحدة ، فالركود والتقليد الأعمى يحولان المسؤوليات إلى أعباء لا يطيق الكاهل حملها .

4 - تحديد الأدوار وتنفيذ الالتزامات والمسئوليات المنوطة بالمسؤول ، وأداء أدواره بأمانة ، والحرص على فهم الأمور وحقيقتها قبل الحكم عليها .

5 - التعرف على التحديات والمشاكل المتوقعة، ووضع الحلول المناسبة لها ، واتخاذ القرارات المهمة، وتحديد خطة زمنية محددة لتنفيذها.

6 - وضع الأولويات، وتحديد الأعمال والمهمات المطلوب تنفيذها ، والتحلي بالمرونة اللازمة للتعامل مع المتغيرات المختلفة .

7 - .الإنشغال بمـا هو مسؤولٌ عنه :
فمن اشتغل بغير الـمهم ضيّع الأهم ، ولا يؤجِّل القيام بمـا عليه القيام به من المسؤوليات لأنّها حينئذٍ تتراكم وتكثُر ، وقد يهمل أو ينسى فيصعُب عليه القيام بها ، وعندئذٍ يؤاخذ على تقصيره .

8 - محبة العمل والرضى بالمسؤولية :
 وليجتهد في أن يقبل على ذلك كله بنفس راضيةٍ وهمةٍ عاليةٍ ، ليجد في ذلك الـمُتعة والأُنس والتسلية والسعادة . وعليه أن يهتم كثيراً بالعلاقات الإنسانية بينه وبين من حوله ومن تتعامل معهم من خلال مُراعاة مشاعر الزملاء ، والتلطف مع العاملين ، وتقدير الظروف ، واحترام الصداقة ، وغرس الثقة ، والاتصاف بالمرونة اللازمة في التعامل مع الأفراد والمواقف .


خامسا : صفات المسؤول عن الدعوة الفردية :

المسؤول عن الدعوة الفردية يطلق عليه داعية ، ولابد أن تتوافر فيه صفات أو أخلاق أهمها :

1 - الإخلاص :
وهذا يعني أن يكون مقصد الداعية من قوله وفعله وجه الله وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته ، من غير نظر إلي مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر ، واضعا نصب عينيه قول الله تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ ) .

2 - الأسوة والقدوة :
بمعني أن يكون الداعية صورة صحيحة وصادقة لكل ما يدعو إليه ، ويريد غرسه في المدعو ، بل أن يكون فعله أو سلوكه قبل قوله أو كلامه ؛ نظراً لأن التأثر بالسلوك أو بالفعل يسبق التأثر بالقول أو بالكلام ، وما نجح المرسلون والمسلمون الأوائل في التأثير في الناس إلا  بخلق الأسوة والقدوة .

3 -'إستشعار المسؤولية كتكليفٌ لا تشـريف :
وهذا يفرض علي المسؤول أن يكون قوياً أميناً مصداقاً لقوله تعالى : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ } القصص : من الآية 26 .
فمن الواجب أن يراقب  الله تعالى في كل شأنٍ من شؤونه ، وأن يكون أميناً في تحمله للمسؤولية مُخلصاً في أدائها ، سائلاً الله تعالى العون والتوفيق والسدّاد والصلاح والفلاح .

 4 .  التأسِّي بأصحاب القدوة في التاريخ :
 فالصحابة الأعلام ومن سار على دربهم من السلف والتابعين ضربوا أعظم الأمثلة، ودشَّنوا الكثير من المواقف البطوليَّة والدعويَّة التي تدلٌّ على حسن فهم ودراية ووعي هؤلاء بأهمِّيَّة الرسالة التي يتحمَّلون مسئوليَّتها.

5 - أداء المسؤولية بروح الجماعة :
فالعمل الجماعي يخفف من ثقل المسؤولية ، ويؤدي إلى الإبداع في انجازها ، فليحرص المسؤول على كسب احترام من معه ليكونوا أول من يتبنى رأيه ، وهنا يحرصون على نـجاحه لرؤيتهم أنهم شركاء في المسؤولية .

6 - الصبر والاحتساب :
فعلى الداعية أن يوطن  نفسه علي تحمل كل ما يصيبه من أذي طاعة لله ، ويصبر ويحتسب  لأنه يدعو إلي الانخلاع عن أخلاق وعادات وأعراف تأصلت في حياة المدعوين ما أنزل الله بها من سلطان وهي محل معارضة شديدة منهم.
فعلى الداعية أن يوطن نفسه علي والصبر والاحتساب ،عملا بقول الله تعالى : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ . ) .

7 - توقع الإخفاق أو الفشل :
ومعناه : أن يوغل في المدعوين برفق ، واضعا في تقديره دائما أنه ليس من المأمول أن يستجيب كل هؤلاء المدعوين لدعوته ؛ لئلا يصاب بالإحباط أو خيبة الأمل ، فإن حدث واستجاب الجميع فذلك الله تعالي ومنته ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، و" إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء لقوله تعالى " و (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) .

5 - الفهم العميق لدعوته وفقهها :
بأن يكون الداعية علي دراية تامة بإسلامه ، وبمهمته في الحياة ، وبأي المدعوين يبدأ وأيهم يؤخر ، وبالظروف المحيطة بمن يدعوه ، ويلتمس أفضل السبل والأساليب لتوصيل الدعوة إليه .
وصدق الله العظيم : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) .

6 - التضحية :
فعلى الداعية أن يجود  بكل ما يملك من نفس ومن وقت وعلم ، ومال ، حتى يحوز ثقة الناس من ناحية ، ويؤثر فيهم من ناحية أخري ،وهكذا كانت تضحيات النبي صلي الله عليه وسلم بكل شيء ، حتى كتب الله لدعوته النجاح والخلود ، وهو نهج سائر المسلمين المجاهدين إلي يومنا هذا .

7 - الرفق أو اللين :
الرفيق اللين يفتح مغاليق القلوب ، ويكسب ثقة الناس ومودتهم ، فلا فظاظة ولا خشونة ولا عنف ، لحال نبيه محمد صلي الله عليه وسلم في دعوته كما وصفه القرآن قال تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )

8 - العمل مع أكثر من شخص :
حتى لا يستهلك الداعية وقته وجهده مع شخص واحد أو إنسان بعينه رغبة في جذبه للدعوة ، فيقابله كثيرا ، ويلح عليه طويلا ، ويشغل نفسه به دوما ، بل عليه أن يجعل عمله مع أكثر من شخص ، فإن أخفق مع واحد نجح من غيره ؛ لأن العمل مع شخص واحد ، مع محاولة الضغط عليه ومحاضرته أمر يثير في نفسه الشكوك والظنون وقد ينفر ، وتكون النتيجة عكسية ، إلا من رحم الله .

9 - التأني أو التروي وعدم الاستعجال :
فعلى الداعية أن يكون طويل النفس مع المدعو ، حتى يسبر غوره وينضجه علي نار هادئة كما يقولون ، فليست العبرة بالكم بقدر ما هي بالنوعية والكيف ، وحسبك أنك ماض في طريقك وأنك لم تحرم الثواب .

10 - التحرك من خلال خطة :
والمراد : أن يكون لدي الداعية خطة محددة الأهداف والغايات والأساليب ، بل والبدائل عند الإخفاق أو الفشل في وسيلة ما ، ليوفر بذلك الجهد والوقت ، ويتجنب العثرات أو المعوقات ، ويملأ الفراغ علي المدعو ولا يدخل به في خلافيات أو فرعيات .

11 - الأمل والثقة في الله :
الداعية لا يفقد الرجاء من أحد يدعوه ، فكل إنسان لا يخلو من الخير ، والداعية الموفق هو الذي يهتدي إلي مفتاح هذا الخير .
وفائدة هذا الخلق أنه يحمل صاحبه علي المضي في الطريق وعدم التوقف ، ويحثه على ابتكار وسيلة إن لم يجد وسيلة سابقة ، فالحاجة أم الاختراع .

 12 - حمد الله تعالى وشكره على ما تم من إنجازه من مهام :
  فالإنجزات تستحق شكر الله تعالى وإن كانت يسيرة ، وهذا الشكر الخالص لله تعالى حافزا  للتوفيق المستمر وسببا في المزيد ، لأن النِعمُ تدوم بشُكرها



الخميس، 11 يوليو 2019

فقه الثقة بالنفس إعداد : محمد أبوغدير المحامي

الثقة بالنفس تعني نظرة الشخص لذاته ، ومعرفته لقدراته وإمكانيّاته والشعور بما وهبه الله إياه من الصفات الحسنة بعيدا عن الغرور والعُجب ، وأنه فقير إلى الله ليوفقه ويسدده ويحسن الظن به سبحانه ، وأنه في حاجة لإخوانه ولعامة الناس لينصحوه ويرشدوه .

ومن سمات الواثق بنفسه أنه يقبل ذاته بإيجابياته وسلبياته ، ويعرف حدود قدراته وطاقاته ، ويتحمل نتائج أفعاله واختياراته بشجاعة ، ولا يهرب من المسؤولية ويرحب بالنقد ، وأنه ناجح في علاقته مع الآخرين .

ولزيادة المسلم ثقته بنفسه وسائل معينة منها  إكتشافه لقواه الكامنة وتعرفه على إيجابياته وسلبياته واحسانه التخطيط لبرمجة ذاته وغيرها الكثير من الوسائل التي إن إستكملها فقد استوفى كامل الثقة بالنفس .

والحديث عن الثقة بالنفس يقتضي بيان تعريفها ، ومشروعيتها ، وسمات صاحبها ، ووسائل زيادتها ، وبيان ذلك في الآتي :


اولا : تعريف  الثقة بالنفس :

أ - في اللغة :

الثقة : "الواو والثاء والقاف كلمةٌ تدلُّ على عَقْدٍ وإحكام .
والثقة من الوثاق يعني الرباط ، ووثَّقْت الشّيء : أحكَمْتُه" اهـ

ب -  في الاصطلاح :

الثقة بالنّفس هي حُسن تقدير الشخص لنفسه، ونَظرته لذاته، ومعرفته لقدراته وإمكانيّاته حسب الظرف الذي يكون فيه، دون مبالغةٍ أو غرورٍ، ودون تبخيسٍ أو تقليلٍ، ويكتسب الثقة ويُطوّرها مع مرور الزمن .


ج - التفريق بين الثقة بالنفس والغرور :

فالثقة بالنفس تعني شعور المرء بما وهبه الله إياه من الصفات الحسنة ، والعمل من خلالها على ما ينفعه ، فإن أساء المرء استعمالها أصابه الغرور والعُجب ، وهما مرضان مهلكان ،
وإن أنكرَ تلك النعم ، فقد جحد وأضاع نعم الله عز وجل عليه ، وخاب وخسر ،  قال الله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) الشمس /9-10 .

ج : أنواع الثقة بالنّفس :

الثقة بالنّفس نوعان أساسيان هما :

1. الثقة المطلقة بالنفس :
هي الثّقة القويّة التي لا يتخللها شكٌ؛ حيث يتميّز الإنسان الذي لديه ثقةٌ مطلقةٌ بنفسه ، فلا تفقده الهزيمة ثقته بنفسه، ولا تجعله المواقف الصعبة مُشكّكاً لقدراته .

2. الثقة المحدودة بالنفس :
حيثُ يكون الشخص واثقاً من قدراته أحياناً ومُشكّكاً لها أحياناً أخرى، ويُقيّم نفسه ويبني ثقته بناءً على هذه المواقف التي يختبرها .


ثانيا : مشروعية الثقة بالنفس :

والثقة بالنفس بعد التوكل على الله مطلب شرعي ، فالمسلم يتعين عليه أن يسعى باستمرار في سبيل الارتقاء لتحصيل الكمال .
ويستخدم لذلك فكره وطاقته، ويبذل جهده وما تيسر له من الوسائل في تحقيق طموحاته والوصول إلى أهدافه ، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجِز.... )

أن ثقة المسلم بنفسه تعني أنه في حاجة لربه تعالى ليوفقه ويسدده ، وعليه أن يحسن الظن بالله تعالى، وأن يتفاءل لنفسه الخير والنجاح دائماً، وفق ماورد في  الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ) يَقُولُ اللهُ تعالى : (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ ، ) .

والثقة بالنفس تقتضي حاجة المسلم لإخوانه ولعامة الناس ، لينصحوه ، ويرشدوه ، روى البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) .


ثالثا : أهميّة الثقة بالنّفس :

تكمن أهميّة الثّقة بالنّفس في عدّة أمور هي :

 1. هي تحفز ذاتي لصاحبها  للعمل بقوّةٍ للوصول لأهدافه ولتحقيق أحلامه، وبالتالي يَكون مُتصالحاً مع نفسه والآخرين .

2 . والثقة تنعكس على الآخرين بما فيهم أسرته وأصدقاؤه ورؤساء العمل فيثقون به ويتبعون نهجه، فيكون قدوةً لهم .

3 . وهي الطريق الى الحماس والقدرة الفائقة الدافعة لسرعة إنجاز الأعمال؛فيشجع صاحبها غيره على الإنجاز ويقذف فيهم الثقة .

4 . والثقة بالنفس قوة وقدرة دافعة على العمل والتصرّف واتخاذ القرارات ويظهر صاحبها بالقدرة الفائقة ، وتجعله في موضع ثقة الآخرين .

5 . وهي الطريق لتوفير الجهد والوقت والطاقة وتمنح صاحبها الثقة للآخرين وتحفيزهم للقيام بأفضل الأداء عند أداء المهام الصعبة .


رابعا : سمات الواثق بنفسه :

الواثق بنفسه له سمات كثيرة وجليلة يتميز بها صاحبها وبيانها في يأتي :

1 - يتقبل نفسه كما هي بإيجابياتها وسلبياتها : فلا ينزعج من سلبياتها فيكره نفسه، ولا يعجب بإيجابياتها فيغتر بنفسه ويعطيها فوق حجمها.

 2 - ويعرف حدود قدراته وطاقاته وإمكاناته :
فلا يغالي فيها، أو يحط من شأنها. وتتوازن طموحاته مع قدراته ، فلا تهبط إلى القاع ولا تطير مع الأحلام .

3 - يتقبل النقد من الآخرين ولا يضيق بهم :
 ويستفادة من النقد البناء لتطوير ذاته باستمرار .

 4 - يتجنب التسويف ولا يهرب من المسؤولية :
فهو يقوم بواجباته ويتحمل مسؤولية قراراته وأفعاله، يجتهد في عمله ويتقنه .

5 - مستقر نفسيا وناجح في علاقته مع الآخرين :
فهو مطمئن النفس، يتجنب الغضب والتعصب، يتفاهم مع الآخرين ويقدر ظروفهم وينصح لهم ويحب لهم ما يحب لنفسه .

6 - يتحمل نتائج أفعاله واختياراته بشجاعة:
 فيفخر بما ينجزه، ويشكر ربه على توفيقه، ولا يغتر بعمله، وكذلك لا يصاب باليأس إذا واجهته حالات الفشل .


خامسا : وسائل زيادة الثقة بالنفس :

الوسائل المعينة للفرد على زيادة ثقته بنفسه كثيرة وجليلة بيانها في الآتي :

أ - الثقة بالله عز وجل وحسن التوكل عليه وطلب النصرة والتأييد منه :

إن الثقة بالنفس أمر مكتسب ، والثقة بالله هي المنبع الأصيل للثقة بالنفس، فمن الله تعالى يستمد المرء القوة والعون والسند، فلا يخشى سواه ولا يرجو غيره ، وشعاره الدائم ترديد  قول الله تعالى : { حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ  عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ  وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم ِ} التوبة: 129 ،  وقول الله تعالى : {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم  مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا  إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (هود: 56).
وقول الله تعالى : {ومَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ  عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88).


ب -الثقة بالنفس والهمة العالية :

هناك ارتباط وثيق بين الثقة بالنفس والهمة العالية، لذلك على الفرد أن يطلب النجاح بإلحاح، وأن يحاول أن يصبح خبيرا في شيء ما، وعند ذلك سيأتي الناس إليه ليستفيدوا من علمه وخبرته، ويستنيروا برأيه وذكائه ، وما أجمل قول المتنبي:
على قدر أهـل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكـارم
وتعظم فـي عيـن الصغير صغارها *** وتصغر فـي عيـن العظيـم العظـائم .

ج - برمجة الذات وحسن التخطيط :

معرفة الذات هي أول الطريق لتغييرها وإصلاحها، فالإنسان يجب أن يعرف سلبياته وإيجابياته بحجمها الحقيقي ، وأن يعترف بالسلبيات ويتقبلها ويسعى إلى علاجها.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم ْ} الرعد: 11 .
ويجب عليه أن يواجه مخاوفه ويتغلب عليها ، وأن يكون متزنا في توقعاته وطموحاته ، ويتجنب الخضوع أو الانقياد او الذوبان في الآخرين . ،.
والتخطيط والوقوف على الأهداف المستقبلية  وتحديد أولوياتها الشخصية والاجتماعية والوظيفية، ووضع الخطط التنفيذية للوصول إليها من أهم العوامل التي تساعد على تدعيم الثقة بالنفس .
 وكذلك حسن استغلال الوقت وتنظيمه وتخطيطه يضمن إنجازات متتالية ومطردة تنتهي إلى تحقيق الأهداف والطموحات .

ء - اكتشاف القوى الكامنة والتغلب على النقائص :

ففي داخل كل منا قوى خفية وطاقات هائلة لا يعلم سرها إلا الخالق سبحانه وتعالى ، ومن خلالها يستطيع غرس المعاني الفاضلة والأخلاق النبيلة في نفسه .
وعلى الإنسان أن يرسل إلى عقله الباطن إيحاءات إيجابية تعزز قدراته الجيدة وتضعف صفاته التي لا يحبها ، وأن يحول نقائصه وفشله إلى طاقة ، وأن يتعلم من أخطائه زادا وخبرة لمواجهة ما يقابله في حياته من صعاب .

ه - الحرص على الصحبة الصالحة :

فالصحبة الصالحة تقوي مظاهر النجاح وتشجع على بذل المزيد من العمل ،  فتصير الصحبة الصالحة من عوامل نجاح ثقة المسلم بنفسه  .

الأحد، 23 يونيو 2019

بذل المال فريضة دعوية إعداد : محمد أبوغدير

من الخطأ الفادح أن يظن البعض أن الدعاة لا علاقة لهم بالمال ولا بالحياة المادية عمومًا ؛ كيف هذا؟ والمال هو عصب الحياة ، وبه تتحقق آمال وطموحات الدعاة الشخصية وتمتد لتشمل تحقيق اهداف الدعوة كإصلاح المجتمع واقامة الدولة والخلافة المسلمة .

والدعوة التي تمتلك مالًا دعوة قوية ومؤثرة في محيطها؛ بل تملك زمام التأثير والإصلاح عمومًا ، والداعية كآحاد الناس يحتاح إلى متطلبات الحياتية الشخصية والعائلية إن كان له أسرة ، فضلا عن مساهمته في شؤون دعوته ، ومن ثم فالدعوة والدعاة يحتاجون إلى الكثير من المال .

فالدعوة لا تحيا إلا ببذل المال ، لذلك توعد الله تعالى المتقاعسين عن تلبية نداء الإنفاق في سبيل الله باﻹستبدال ، فقال تعالى: ﴿ هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ 38 محمد .

والبذل الذاتي الذي يمنحه الأفراد لدعوتهم يبقى هو الأصل والباقي كله فرع ، ومن ثم فالدعوة تحتاج أفرادًا كأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وأضرابهم ممن أوقفوا أموالهم وأنفسهم في سبيل رفعة دينهم ونصرته ويعلمون أن أي مال ينفق في سبيل الدين فهو في سبيل إعزازهم هم .

ومن هنا كثرت النصوص الآمرة بالإنفاق، الداعية إلى البذل ، لأن الإنفاق في حد ذاته عبادة مقصودة لكل مسلم، قال تعالى: { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم }.

وفي هذه السطور نبين كيف رغب الكتاب والسنة في الإنفاق ، ونذكر وسائل بذل بالمال ، وكون الدعوات لا تقوم إلا بالمال ، وآداب الإنفاق ، وأفضل أوقات بذل المال ، وثمراته ، وبذل النبي وأصحابه للمال ، وبيان ذلك في الآتي :


أولا : القرآن الكريم والسنة يرغباب في الإنفاق :

رغب الإسلام في الصدقة، والعطف على الفقراء، ومواساة أهل الحاجة والمسكنة، ورتب على ذلك أعظم الأجر عند الله - تعالى - يوم القيامة.

أ - من القرآن الكريم :

1 . قال - تعالى -: { يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقنَاكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لاَ بَيعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُم الظَّالِمُونَ } البقرة: 254 .

2 .  وقال - تعالى -: { يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبتُم وَمِمَّا أَخرَجنَا لَكُم مِن الأَرض ِ} البقرة: 267 .

3 . وقال - تعالى -: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا استَطَعتُم وَاسمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيرًا لأَنفُسِكُم وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُم المُفلِحُونَ} التغابن: 16 .

ب من السنة النبوية :

عن زيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من جهَّز غازياً في سبيل الله فقد غزَا، ومن خَلَّف غازياً في أهله بخير فقد غزا) متفق عليه.

وعن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة) رواه مسلم.

وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) رواه أبو داود والنسائي والدارمي.

 وعن خزيم بن فاتك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أنفق في سبيل الله كُتب له بسبعمائة ضعف) رواه الترمذي والنسائي.

وعن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( للغازي أجره، وللجاعل أجره وأجرالغازي ) رواه ابوداود.

وعن علي وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة وعبدالله بن عمرو وجابر بن عبدالله وعمران بن حصين رضي الله عنهم أجمعين، كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( من أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم ) ثم تلا هذه الآية: ( وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ) رواه ابن ماجة.

وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ أَجوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلقَاهُ جِبرِيلُ،...وَلَرَسُولُ اللَّهِ حِينَ يَلقَاهُ جِبرِيلُ، أَجوَدُ بِالخَيرِ مِنَ الرِّيحِ المُرسَلَةِ ).
وإن رجلا سأله فأعطاه غنما بين جبلين فأتى الرجل قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. رواه مسلم .


ثانيا : وسائل بذل المال :

التضحية بالمال في سبيل الله تعالى ذات الشأن الكبير في إحقاق الحق، وتأمينه وتأمين أهله والمنادين به، إذ لا يخفى على أحد ما للمال من أهمية في حياة الإنسان ، ووسائل بذل المال أنواع هي :

1 - ومنها بذله في سبيل التمكين لدين الله ونشره في الأرض والدعوة إليه .
2 - ومنها بذل المال لدفع ضرر عن المسلمين في الحاضر أو المستقبل .
3 - منها بذل المال في تجهيز الجيوش المجاهدة في سبيل الله .
4 - ومنها تأمين احتياجات المسلمين في حالة السلم .
5 - ومنها تأمين الاحتياجات المتوقعة لهذه الجيوش في المستقبل القريب أو البعيد .
6 - ومنها بذله في وجوه الخير والبر عموما .


ثالثا : لا تقوم الدعوات إلا ببذل المال :

لا شك ان دين الله لا يقوم براحة الأبدان وسلامة النفوس ، ولا تتحقق الآمال والطموحات الدعويةالمشار اليها سلفا إلا بتضحية العاملين .

فإذا قلت الموارد او جفت المنابع، وضيق ذات الدعاة تتسع الثغـرات على الدعوة الإسلامية يوماً بعد يوم، وتكثر المجالات الشاغرة التي تفتقر إلى من يقوم بها .

 وفي غيبة إنفاق أهل الدعوى على دعوتهم تتسع الثغرات يوماً بعد يوم ، وتزداد قوة أهل الباطل وتنفذ مخططاتهم  في تحجيم العمل الدعوي أو اجهاضه ، وهنا شكوى عمر ـ رضي الله عنه ـ الـمُرَّةَ ماثلة حيث قال : "اللهم إني أشكو إليك جَلَدَ الفاجر وعجز الثقة" .

 ولا يرفع هذا الواقع إلا الصدق مع الله، ودليله الاستعداد للبذل والتضحية في كل جانب تحتاج إليه الدعـــــوة في وقت كهذا، وهو الوقت الذي يعظم فيه الأجر ويزداد فيه الفضل .

وشتان بين من يضـحـي وهو يرى ثمرة الجهد وتلوح له أمارات النصر، وبين من يضحي وقد غابت عن ناظريه أمارات النصر ودلائل التمكين، قال الله ـ عز وجل ـ: ( لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقَاتَلُوا وكُلاًّ وعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ).الحديد: 10.


رابعا : آداب الإنفاق في سبيل الله:

حتى يتقبل الله مالك الذي بذلته ينبغي أن تراعي الأمور التالية:

1- أن تخلص نيتك لله تعالى :

 قال الله تعالى -: ( وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) البقرة: 272].

2- أن تتخير الأجود الذي تحبه فتنفقه :
قال الله تعالى -: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ( أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ) مسلم .
وعن سعيد بن هلال أن ابن عمر - رضي الله عنهما - نزل الجحفة وهو مريض فاشتهى سمكا، فلم يجدوا إلا سمكة واحدة، فلما قربت إليه أتى مسكين حتى وقف عليه، فقال له ابن عمر: خذها، فقال له أهله: سبحان الله! قد عنيتنا ومعنا زاد نعطيه. فقال: إن عبد الله يحبه!!
ووقف سائل على باب الربيع فقال: أطعموه سكراً فقالوا: ما يصنع هذا بالسكر؟ نطعمه خبزا أنفع له قال: ويحكم أطعموه سكرا فإن الربيع يحب السكر!!

3- أن تقدم ذوي الحاجة من أقربائك وذوي رحمك :
فقد قال رسول الله: ( الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة ) رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني .

4- أن تتحرى بصدقتك أهل الدين :
الذين يستعينون بهذه الصدقة على طاعة الله، ولا ينفقونها في معصيته فتكون معاونا لهم على المعصية والإثم.

5- أن تسر بصدقتك ما استطعت :
إلا إذا كان في إعلانها مصلحة راجحة فأعلنها، قال الله تعالى -: { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم .... } البقرة: 271 .
وذكر من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) متفق عليه.

6- أن تتصدق بما لديك وإن كان قليلا :
 فعن جابر قال: (ما سئل النبي شيئا قط فقال: لا). متفق عليه.
وأتى سائل إلى أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وعندها نسوة، فأمرت له بحبة عنب، فتعجب النسوة منها، فقالت: إن فيها ذرا كثيرا!! تتأول قوله - تعالى -: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} الزلزلة: 7 .

7 - أن تعود نفسك على الصدقة ولو كنت فقيرا :
 فقد سئل عن أفضل الصدقة فقال: ((جهد المقل)) [رواه أحمد والنسائي وأبو داود]. أي صدقه الفقير.

8 – اجتناب المنّ والأذى:
قال الله تعالى : {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا، لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. البقرة:263-264.

9 – الاعتدال في الإنفاق وعدم الإسراف:
يقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}. البقرة:219.
وقال أيضاً: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}. الفرقان:67.

 10 – الإنفاق حسب الأولى:
على المرء أن ينفق حسب الأولى في الإنفاق ويقدم المسكين على الفقير. قال الله سبحانه : {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}. البقرة:273.


خامسا : أفضل أوقات الصدقة :

أفضلَ ما تكون الصدقة إذا كانت
في عز الشباب، واقتبال العمر،
مع كمال الصحة والعافية،

ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: ( أَيٌّ الصَّدَقَةِ أَعظَمُ أَجرًا؟ قَالَ: أَن تَصَدَّقَ وَأَنتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخشَى الفَقرَ وَتَأمُلُ الغِنَى، وَلاَ تُمهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلقُومَ قُلتَ: لِفُلَانٍ, كَذَا، وَلِفُلَانٍ, كَذَا، وَقَد كَانَ لِفُلاَنٍ,) فهذه الصدقة من أحب الصدقات إلى الله - تعالى -.


سادسا : ثمرات بذل المال :

أما الثمرات التي تجنيها من صدقتك فكثيرة منها  :

1. الصدقة دليل على إيمان صاحبها :
قال: ((... والصدقة برهان... )) [رواه مسلم].

2 - والصدقة يخلفها الله عليك:
قال - تعالى -: ( وَمَا أَنفَقتُم مِن شَيءٍ, فَهُوَ يُخلِفُهُ وَهُوَ خَيرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39].
وقال - تعالى - في الحديث القدسي: ((أَنفِق يَا ابنَ آدَمَ أُنفِق عَلَيكَ)) متفق عليه من حديث أبي هريرة].
وعن أبي هريرة أن النبي قال: ((مَا مِن يَومٍ, يُصبِحُ العِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعطِ مُنفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعطِ مُمسِكًا تَلَفًا)) [متفق عليه].

3 - الصدقة تدفع النار عن المنفق يوم القيامة:
 فعن عدي بن حاتم عن النبي أنه قال: ((اتَّقُوا النَّارَ، ثُمَّ أَعرَضَ وَأَشَاحَ، ثُمَّ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ، ثُمَّ أَعرَضَ وَأَشَاحَ ثَلاَثًا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنظُرُ إِلَيهَا، ثُمَّ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمرَةٍ,، فَمَن لَم يَجِد فَبِكَلِمَةٍ, طَيِّبَةٍ,)) [رواه البخاري].

 4 - تظل المنفق نفقته يوم القيامة  :
جاء في الحديث الصحيح أن النبي قال: ((كُلٌّ امرِئٍ, فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفصَلَ بَينَ النَّاسِ، أَو قَالَ يُحكَمَ بَينَ النَّاسِ، قَالَ يَزِيدُ: وَكَانَ أَبُو الخَيرِ لَا يُخطِئُهُ يَومٌ إِلَّا تَصَدَّقَ فِيهِ بِشَيءٍ,، وَلَو كَعكَةً أَو بَصَلَةً أَو كَذَا)) [رواه الإمام أحمد].

5 - الصدقة تدخل المنفق الجنة من باب الصدقة :
 كما قال النبي: ((وَمَن كَانَ مِن أَهلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِن بَابِ الصَّدَقَةِ.. )) [متفق عليه].

6 - والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار:
 قال: ((تصدقوا ولو بتمرة، فإنها تسد من الجائع، وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)) [صحيح ابن المبارك].

7 - يضاعف الله للمنفق أجر صدقته يوم القيامة إلى سبعمائة ضعف :
فعن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله، فقال: رسول الله: ((لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة)) [رواه مسلم].

وعن أبي هريرة أن النبي قال: ((مَن تَصَدَّقَ بِعَدلِ تَمرَةٍ, مِن كَسبٍ, طَيِّبٍ, -وَلاَ يَقبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ- فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُم فَلُوَّهُ -صغير الخيل- حَتَّى تَكُونَ مِثلَ الجَبَلِ)) [رواه البخاري].

8 - رحمة الله وغفرانه للسيئات :

وهذه من أعظم الثمرات وأجلها ، عن أبي هريرة أن النبي قال: ( غُفِرَ لإمرَأَةٍ, مُومِسَةٍ مَرَّت بِكَلبٍ, عَلَى رَأسِ رَكِيٍّ, -بئر- يَلهَثُ، كَادَ يَقتُلُهُ العَطَشُ، فَنَزَعَت خُفَّهَا فَأَوثَقَتهُ بِخِمَارِهَا، فَنَزَعَت لَهُ مِنَ المَاءِ فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ ) رواه البخاري .


سابعا : بذل النبي وأصحابه للمال :

فقد كان صلى الله عليه وسلم مباركاً أينما كان، وهو أسوة الدعاة والمصلحين في بذل  المال  وهذه بعض الأمثلة :

عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام شيئاً إلا أعـطــــــاه، قال: "فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا؛ فإن محـمــداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة"

وعنه قال: "إن كـانـت الأَمَــةُ من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت" فـكــان صلى الله عليه وسلم باذلاً لجــاهــــه ووقته وراحته وماله... في مرضاة الله ـ تعالى ـ ونفع الخلق.


وكان بذل الصحابة مضرباً للأمثال،

فحينما جاء أبو بكر رضي الله عنه بماله كله فوضعه بين يدي الرسول في غزوة تبوك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله.

وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وجاء عثمان رضي الله عنه بشيء كثير جداً ووضعه بين يدي الرسول صلي الله عليه وسلم ،فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (اللهم ارض عن عثمان فإني راضٍ عنه) وهكذا جهّز جيش العسرة.

 وأخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه، وقد تصدّق أبو طلحة رضي الله عنه بعين بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد. ولمّا نزلت هذه الآية : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة: 245) .

قال أبو الدحداح: يا رسول الله قد أقرضت ربي حائطي وفيه ستة مائة نخلة، فجاء يمشي حتى أتى الحائط وأمّ الدحداح فيه وعيالها، فنادى يا أمّ الدحداح، فقالت: لبيك. قال: أخرجي، فقد أقرضت ربي.