الثلاثاء، 20 فبراير 2018

العـمـرة تعريفها وحكمها وفضلها وأركانها وصفتها كما فعلها النبي و زيارة المدينة إعداد : محمد أبوغدير المحامي


أولا : تعريف العمرة :
العمرة لغة هي : الزيارة ،
واصطلاحاً : هي : زيارة بيت الله الحرام على وجه مخصوص ومن شخص مخصوص . 
وقيل ايضا : هي التعبد لله بالطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والحلق أو التقصير.

ثانيا : حكم العمرة :
العمرة مشروعة بقول الله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله) ، [البقرة : 196 .
واختلف فيه العلماءُ فمنهم من قال : إنها واجبة واحتج بالآية السابقة ، ومنهم من قال : إنها سنة مؤكدة .

عدد ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟:
اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلها في أشهر الحج في ذي القعدة: عمرة الحديبية سنة ست.. وعمرة القضاء سنة سبع.. وعمرة الجعرانة سنة ثمان.. وعمرته مع حجته سنة عشر من الهجرة ، وكلها أحرم بها قادماً إلى مكة.
عَنْ قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَألْتُ أنَساً رَضِيَ اللهُ عَنْه: كَمِ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: أرْبَعاً: عُمْرَةُ الحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي القَعْدَةِ حَيْثُ صَدَّهُ المُشْرِكُونَ، وَعُمْرَةٌ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ فِي ذِي القَعْدَةِ حَيْثُ صَالَحَهُمْ، وَعُمْرَةُ الجِعِرَّانَةِ إِذْ قَسَمَ غَنِيمَةَ-أُرَاهُ- حُنَيْنٍ. قُلْتُ: كَمْ حَجَّ؟ قال: وَاحِدَةً. متفق عليه.

ثالثا : فضل العمرة:
 فمن فضلها “غفران الذنوب وزوالها” :
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الجَنَّةُ». متفق عليه.
ومن فضلها “إكرام الله لضيوفه :
قال صلى الله عليه وسلم ” الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم ” رواه ابن ماجه .
ومن فضل العمرة أنها تنفي الفقر كما تنفي الذنوب
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «تَابعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَث الحَدِيدِ». أخرجه النسائي.
.فضل العمرة في رمضان:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا قال: لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَجَّتِهِ، قال لأُمِّ سِنَانٍ الأنْصاريَّةِ: «مَا مَنَعَكِ مِنَ الحَجِّ». قالتْ: أبُو فُلانٍ، تَعْنِي زَوْجَهَا، كَانَ لَهُ نَاضِحَانِ حَجَّ عَلَى أحَدِهِمَا، وَالآخَرُ يَسْقِي أرْضاً لَنَا. قال: «فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أوْ حَجَّةً مَعِي». متفق عليه.

رابعا : أركان العمرة :
أركان العمرة ثلاثة ، وهي : أولا:ً الإحرام ، ثانيا : الطواف بالبيت الحرام سبعاً ، ثالثا : السعي بين الصفا والمروة .
فلا تتم العمرة إلا بفعل هذه الأركان ، وتركها لا يُجبَر بالدم  ، وإليك أخي الكريم تفاصيل هذه الأركان الثلاثة:
الركن الأول الإحــــرام :
أ -  معنى الإحرام  :
نية الدخول في العمرة
ب -  واجبـــات الإحرام  ثلاثة:
1 . التجرد من المخيط والمحيط ! فلا يلبس المحرم ثوبا مفصلا على الجسم لا قميصا ولابرنسا ولا جلبابا ولا سروالا ولا خفين ولا يغطي رأسه بعمامة ولا بأي غطاء مباشر .
2 . لبس رداء و إزار وهو في الميقات لم يتجاوزه ، وإذا جاوز الميقات من غير لبس الرداء والإزار وجب عليه الرجوع ، وإن تعذر عليه فعليه دم .
3 . التلبية يقولها المحرم عند الشروع في الإحرام وهو بالميقات لم يتجاوزه ومن تجاوز الميقات من غير تلبية وجب عليه الرجوع ، وإن تعذر عليه الرجوع فعليه دم ! بل كل الواجبات من ترك واحدة منها وجب عليه دم ، ويستحب تكرارُالتلبية ورفعُ الصوت بها بالنسبة للرجال ، أما النساء تجهرالمرأة بقدر ما تسمع نفسها ورفيقتها !
ج - محظورات الإحرام وهي:
1 . تغطية الرأس بأي غطاء كان غطاءً مباشراً .
2 .  لق الشعر أوقصه أونتفه وإن قل وسواء شعر الرأس أو غيره
3 . مس الطيب مطلقا .
4 .  قليم الأظافر سواء أظافر اليدين أو الرجلين .
5 . لبس المخيط المفصل مطلقاً .
6.  الخصام والنزاع والجدال مع الرفقاء
7 . يحرم على المحرم وغيره ، صيد الحرم وتنفيرُه ، وقطعُ النبات والأشجار .
الركن الثاني : الطواف :
أ - معنى الطواف:
الدوران حول البيت سبعة أشواط ،
ب - شروط صحته الطواف وهي :
- 1النية عند الشروع فيه ، لقوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات ، فكان لابد للطائف من نية طواف وهي عزم القلب على الطواف تعبدًا لله تعالى ، وطاعة له عز وجل .

 2 - الطهارة من الخبث والحدَث ، لخبر ، الطواف حول البيت مثل الصلاة .
- 3ستر العورة ، إذ الطواف كالصلاة ، لقوله صلى الله عليه وسلم :(الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه ، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير) الترمذي. وعليه : فمن طاف بغير نية ، أو طاف وهو محدَث أو عليه نجاسة أوطاف وهو مكشوف العورة ، فطوافه فاسد وعليه إعادته وإلا وجب عليه دم ، أوالصيام .
– 4 أن يكون الطواف بالبيت داخل المسجد ولو بعُدَ من البيت .
- 5أن يكون البيت على يسار الطائف ، لا على يمينه ولا أمامه ولا خلفه .
- 6أن يكون الطواف سبعة أشواط ، وأن يبدأ بالحجر الأسود ويختمه به لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذالك كما ورد في الصحيح .
- 7أن يوالي بين الأشواط ، والفصل اليسير لا يضر وخاصة للضرورة كالصلاة أو نقض الوضوء ، فلا يُفصَلُ بين الأشواط لغير ضرورة ، ولو فصل بينها وترك الموالاة لغير ضرورة بطل طوافه ووجبت إعادته ، لأن بفساد الشرط يفسد الركن ! وبفساد الركن تفسد العمرة !

الركن الثالث السعي بين الصفا والمروة :
أ - معنى السعي :
السعي : هو المشي بين الصفا والمروة ذهابا وجيئةً بنية التعبد يقول ربنا : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا لاجناح عليه أن يطوف بهما (البقرة ) وجاء في الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال : اسعوا بين الصفا والمروة فإن الله كتب عليكم السعي !
ب - شروط صحة السعي :
- 1النية ، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما الأعمال بالنيات) فكان لا
بد من نية التعبد بالسعي طاعة لله وامـتـثـالاً لأمره جل وعلا .
- 2الترتيب بينه وبين الطواف ، بأن يقدم الطواف على السعي .
- 3الموالاة بين أشواطه ، غير أن الفصل اليسير لا يضر ولا سيما للضرورة .
- 4إكمال العـد د سبعة أشواط ، فلو نقص شوط أو بعضه لم يجزئ إذ حقيقته متوقفة على تما م أشواطه ، ومن شك في شوط بنى على اليقين ، وكذلك في الطواف .
- 5وقوعه بعد طواف صحيح ، سواء كان الطواف واجباً أو سنة غير أن الأولى أن يكون بعد طواف واجب كطواف القدوم ، أو ركن كطواف العمرة ، وبفساد شوطٍ يفسد السعي ! وبفساد السعي الذي هو الركن الثالث تفسد العمرة !

خامسا  : صفة العمرة التي فعلها النبي- صلى الله عليه وسلم :
أن يحرم من يريد العمرة بها من الميقات إذا كان ماراً به، ومن كان دون الميقات أحرم من حيث أنشأ، وإن كان من أهل مكة خرج إلى الحل كالتنعيم ليحرم منه، ويستحب أن يدخل مكة ليلاً أو نهاراً من أعلاها، ويخرج من أسفلها إن كان أيسر له، ويقطع التلبية إذا دخل أدنى حدود الحرم.
فإذا وصل المسجد الحرام دخله متوضئاً، ويبدأ بالطواف بالكعبة من الحجر الأسود، ويجعل البيت عن يساره.
ويسن أن يضطبع قبل أن يطوف، بأن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر في جميع الأشواط.
ويسن أن يرمل، وهو المشي بقوة ونشاط في الأشواط الثلاثة الأولى من الحَجَر إلى الحَجَر، ويمشي في الأشواط الأربعة الأخيرة، والاضطباع والرمل سنة للرجال فقط دون النساء، في طواف القدوم وطواف العمرة فقط.
فإذا حاذى الحجر الأسود استقبله واستلمه بيده، وقبَّله بفمه، فإن لم يستطع وضع يده اليمنى عليه وَقبَّلها، فإن لم يستطع استلمه بمحجن، أو عصا ونحوهما مما في يده وَقبَّلها، فإن لم يستطع أشار إليه بيده اليمنى ولا يقبلها، ويمضي ولا يقف، ويقول إذا حاذاه: الله أكبر مرة واحدة، ويفعل ذلك في كل شوط، ثم يدعو أثناء طوافه بما شاء من الأدعية الشرعية ويذكر الله ويوحده.
فإذا مر بالركن اليماني استلمه بيده اليمنى بدون تقبيل في كل شوط ولا يكبر، فإن شق استلامه مضى في طوافه بلا تكبير ولا إشارة، ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}فيطوف سبعة أشواط كاملة من وراء الكعبة والحِجر، يكبر كلما حاذى الحجر الأسود، ويستلمه، ويقبِّله في كل شوط إن أمكن، ولا يستلم الركنين الشاميين، وله أن يلتزم ما بين الركن والباب بعد طواف القدوم، أو الوداع، أو غيرهما فيضع صدره، ووجهه، وذراعيه عليه، ويدعو ويسأل الله تعالى.
فإذا فرغ من الطواف غطى كتفه الأيمن وتقدم إلى مقام إبراهيم- صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة/125].
  ثم يسن أن يصلي ركعتين خفيفتين خلف مقام إبراهيم إن تيسر وإلا في أي مكان من المسجد الحرام، ويسن أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة الكافرون وفي الثانية بعد الفاتحة سورة الإخلاص، ثم ينصرف من حين يسلم، والدعاء بعد الركعتين هنا غير مشروع، وكذلك الدعاء عند مقام إبراهيم لا أصل له.
ثم إذا فرغ من الصلاة يسن أن يذهب إلى الحجر الأسود ويستلمه إن تيسر.
ثم يخرج إلى الصفا، ويسن أن يقرأ إذا قرب منه:  ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ 158( البقرة/158 .
ويقول: أبدأ بما بدأ الله به، فإذا صعد على الصفا ورأى البيت يقف مستقبلاً القبلة ويكبر ثلاثاً رافعاً يديه للذكر والدعاء، لا على هيئة تكبير الصلاة، يوحد الله ويكبره ويحمده قائلاً: «لا إلَهَ إلَّا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لا إلَهَ إلا الله وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ». متفق عليه.
ثم يدعو، ثم يعيد الذكر مرة ثانية، ثم يدعو، ثم يعيد الذكر مرة ثالثة، يجهر بالذكر، ويسر بالدعاء.
ثم ينزل من الصفا متجهاً إلى المروة بخشوع وتذلل، ويمشي حتى يحاذي العلم الأخضر، فإذا حاذاه سعى سعياً شديداً إلى العلم الأخضر الثاني، ثم يمشي إلى المروة، وفي كل ذلك يهلل، ويكبر، ويدعو.
زيارة المسجد النبوي بالمدينة :
زيارة المدينة حيث المسجد النبوي وقبره صلى الله عليه وسلم ليست شرطاً أو واجباً في العمرة ، إلا أنها مشروعةٌ ومستحبةٌ في أي وقت طِوال العامِ ، فإذا وفق الله العبدَ ويسر له الوصول إلى مكة ، سن له الذهاب إلى المدينة للصلاة في المسجد النبوي الشريف ، فإن الصلاة فيه بألف صلاة ،
ويُسن له أيضا السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، كما يسن له أيضا السلام على أهل البقيع وعلى شهداء أحد .
ويسن للمسلم إذا دخل المسجد أن يصلي بالروضة الشريفة الوارد فيها قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي ).
بعد الصلاة في المسجد النبوي ، يسن للمصلي أن يأتي أمام الحُجرة النبوية ويقف تجاه القبر بسكينة وأدب وحضور قلب ويسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ) .

الأربعاء، 14 فبراير 2018

الموت وسكراته ... تذكرة للغافلين وعبر وعظات للذاكرين والاستعداد له بكل الوسائل واجب وله فوائد كثيرة إعداد : محمد أبوغدير المحامي


 الموت هو الحقيقة التي لا يستطيع أحد أن ينكرها، وهو يأتي بغتةً، ولا يدري أحد من الناس متى وأين وكيف سينتهي أجله، وأكيس المؤمنين َأكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، والغافلون عنه توقظهم سكرات الموت فينقطع صوته، وتضعف قوته عن الصياح لشدة الألم ، وفي الموت عبر وعظات، ومن ثم وجب علينا أن نلتمس وسائل الاستعداد للموت قبل فوات الأوان حتى تتحقق فوائده.

وبيان ذلك في هذه السطور.

أولاً : الموت وسكراته :

أ - الموت قَضاء نافذ :

الموت عاقبة كلِّ حيّ، وخِتام كلِّ شيّ، ونهاية كلِّ موجود، سوى الربِّ المعبود ، قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ الرحمن: 26، 27 .

الموت قَضاء نافذ ، وحُكم شامل، وأمر حاتم لازم، لا تمنع منه حَصانة القِلاع، ولا يَحُول دُونه حِجابٌ، ولا تردد الأبواب، كما قال العزيز الوهَّاب: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ النساء: 78.

ب - للموت سكرات مؤلمة :

إن لسكرات الموت آلامًا لا يعلمها إلا الميت؛ فالميت ينقطع صوته، وتضعف قوته عن الصياح لشدة الألم، فالموت قد هد كل جزء من أجزاء البدن، فلم يترك لإنسان قوة للاستغاثة، ويود لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح، ولكنه لا يقدر على ذلك، فإن بقيت له قوة سمع له عند نزع الروح وجذبها غرغرة تصدر من حلقه وصدره، وقد تغير لونه، حتى تبلغ روحه إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها .

 1 - سكرات الموت في القرآن والسنة  :

تحدث القرآن الكريم عن شدة الموت فقال الله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ﴾ الواقعة: 83 – 85 ، قال الإمام ابن كثير: قوله تعالى: ﴿ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ﴾ أي: إلى المحتَضَر وما يكابده من سكرات الموت .

روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة - أو علبة - فيها ماء، فجعل يُدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه، ويقول: ( لا إله إلا الله، إن للموت سكرات )، ثم نصب يده فجعل يقول: ( في الرفيق الأعلى ) حتى قبض ومالت يده)
قال البخاري: (العلبة من الخشب، والركوة من الجلد ) .

2 . أقوال السلف في سكرات الموت:

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكعب الأحبار: يا كعب، حدثنا عن الموت، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، إن الموت كغصنٍ كثير الشوك، أُدخل في جوف رجل، وأخذت كل شوكة بعرق، ثم جذبه رجل شديد الجذب، فأخذ ما أخذ .

كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحض على القتال ويقول: إن لم تقتلوا تموتوا، والذي نفسي بيده، لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من موت على فراش.

قال شداد بن أوس رضي الله عنه: الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمن، وهو أشد من نشرٍ بالمناشير، وقرضٍ بالمقاريض، وغليٍ في القدور، ولو أن الميت نُشِر فأخبَر أهل الدنيا بالموت، ما انتفعوا بعيش، ولا لذوا بنوم .


ثانيا : الموت تذكرة للغافلين  وعبر وعظات للذاكرين :

 أ – الموت تذكرة للغافلين :

يقول القرطبي - رحمه الله - في كتابه "التذكرة "
( تفكَّر يا مغرور في الموت وسَكرته، وصُعوبة كأسه ومَرارته، فيا للموت من وعدٍ ما أصدَقَه، ومن حاكمٍ ما أعدله! كفى بالموت مُقرحًا للقلوب ومُبكيًا للعيون، ومُفرِّقًا للجماعات، وهادمًا للذَّات، وقاطعًا للأُمنيات، فهل تفكَّرت يا ابن آدم في يوم مَصرعك، وانتقالك من موضعك، وإذا نقلت من سَعة إلى ضِيق، وخانَك الصاحب والرفيق، وهجَرَك الأخ والصديق، وأخَذت من فراشك وغِطائك إلى عرر وغطُّوك بعد لين لحافك بتراب .

فيا جامع المال، والمجتهِد في البُنيان، ليس لك والله من مالِك إلا الأكفان، بل هي والله للخَراب والذَّهاب وجِسمك للتراب والمآب، فأين الذي جمعتَه من مال؟ هل أنقذَكَ من الأهوال؟ كلا، بل تركتَه إلى مَن لا يحمدك، وقدِمت بأوزارك على مَن لا يعذرك".

ويقول القرطبي أيضًا في كتابه "التذكرة"
: "يا هذا، أين الذي جمعتَه من الأموال، وأعددته للشدائد والأهوال، لقد أصبحتْ كفُّك منه عند الموت خاليةً صفْرًا، وبُدِّلت من بعد غِناك وعِزِّك ذلاًّ وفَقْرًا، فكيف أصبحت يا رهينَ أوزاره؟ ويا مَن سُلِبَ من أهله ودِياره؟ ما كان أخفى عليك سبيل الرشاد، وأقل اهتمامك لحمْل الزاد إلى سفرك البعيد، وموقفك الصَّعب الشديد!
أوَمَا علمت يا مغرور أن لا بُدَّ من الارتحال، إلى يوم شديد الأهوال، وليس ينفعك ثَمَّ قيل ولا قال، بل يعد عليك بين يدي الملك الدَّيَّان، ما بطشت اليدان، ومشت القَدَمان، ونطَق به اللسان، وعملت الجوارح والأركان، فإنْ رحمك فإلى الجنان، وإن كانت الأخرى فإلى النِّيران.

يا غافلاً عن هذه الأحوال، إلى كم هذه الغَفلة والتوان! أتحسب أنَّ الأمر صغير، وتزعم أنَّ الخطب يسير؟ وتظنُّ أنْ سينفعك حالك إذا آنَ ارتحالُك، أو ينقذك مالك حين تُوبقك أعمالك، أو يُغني عنك ندَمُك إذا زلَّت بك قدمك، أو يعطف عليك معشرُك حين يضمُّك محشرُك، كلا والله ساءَ ما تتوهَّم، ولا بُدَّ لك أنْ ستعلَم، لا بالكفاف تقنع، ولا من الحَرام تشبع، ولا للعِظات تسمع، ولا بالوعيد ترتدع، دأبك أنْ تنقلب مع الأهواء، وتخبط خبط العَشواء، يعجبك التكاثُر بما لديك، ولا تذكُر ما بين يديك.

يا نائمًا في غَفلة، وفي خبطة يَقظان، إلى كم هذه الغفلة والتَّوان! أتزعُم أنْ ستُتْرَك سُدًى، وألا تُحاسب غدًا، أم تحسب أنَّ الموت يقبَلُ الرِّشا، أم يميز بين الأسد والرَّشا؟ كلا والله لن يدفَع عنك الموت مالٌ ولا بنون، ولا ينفع أهلَ القبور إلا العمل المبرور.


ب -  الموت عبر وعظات :

كان السَّلف الكِرام يُذكِّر أحدُهم أخاه بالموت وما بعدَه؛ حتى يتأهَّب لهذه اللَّحظة ولا يغفل عنها، فالموت خير واعظ.

دخَل يزيد الرقاشي على عمر بن عبدالعزيز فقال له: "عِظني، فقال يزيد الرقاشي: لست أوَّل خليفة تموت يا أمير المؤمنين، قال: زِدني، قال: لم يبقَ أحدٌ من آبائك من لدُن آدم إلى بلغت النوبة إليك إلا وقد ذاق الموت، قال: زِدْنِي، قال: ليس بين الجنَّة والنَّار منزل والله... ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ الانفطار: 13، 14]، وأنت أبصَرُ ببرِّك وفُجورك، فبكى عمر حتى سقَط عن سريره.
قال الحارث بن إدريس: قلت لداود الطائي: أوصِني، فقال: "عسكر الموت ينتظرونك".
قال لقمان لابنه: "يا بني، أمرٌ لا تدري متى يلقاك، استعدَّ له قبل أنْ يفجاك".
وقال الحسن : "أيها الناس، أصبحتم والله في أجلٍ منقوص، وعمل محصى محروس، والموت فوق رؤوسكم، والنار بين أيديكم"
وحضر الحسن جنازةً ثم قال: "أيها الناس، اعمَلُوا لمثل هذا اليوم، ﴿وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ التوبة: 94 .


ثالثا : الاستعداد للموت

أ - الموت يأتي فجأة فيجب الاستعداد له :

يجب علينا أن نعلم أن الموت يأتي بغتةً، ولا يدري أحد من الناس متى وأين وكيف سينتهي أجله الذي كتبه الله تعالى.

1. قال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ لقمان: 34 .

2. روى الشيخان عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئٍ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيتُه مكتوبة عنده) .

3. قال الله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ المؤمنون: 99، 100.

4. قال جل شأنه: ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ الجمعة: 8 .

5. وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعِظه: ( اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هَرَمك، وصحتك قبل سقَمك، وغناك قبل فقرك، وفراغَك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك .

ب - وسائل الاستعداد للموت:

وسائل الاستعداد للموت كثيرة، ويمكن أن نوجزها في الأمور الآتية:

 . 1 المحافظة على فرائض الله تعالى وسنه رسول الله :

يجب على المسلم أن يستعد للموت بالمحافظة على أداء كل ما افترضه الله تعالى عليه، من الصلاة والزكاة والحج وصوم رمضان، وأن يتبع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في جميع الأقوال والأفعال.
قال سبحانه:﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ البقرة: 43 .

وقال جل شأنه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ البقرة: 183.

وقال سبحانه: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ آل عمران: 97 .

روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بُني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، الحج، وصوم رمضان)
وأمرنا الله تعالى باتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، بقدر المستطاع، ولا يكلف الله تعالى نفسًا إلا وسعها.

وقال تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ الحشر: 7 .

 . 2 الإكثار من ذكر الموت:

روى الحاكم عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنه يرق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هُجْرًا ) هُجْرًا: الكلام الباطل المخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.

روى الترمذي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذِكْرَ هاذم اللذات)) يعني الموت.

 . 3 الاستعداد للموت بالتوبة الصداقة:

قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ التحريم: 8 .

والتوبة النصوح كما قال الإمام ابن كثير هي التوبةً الصادقةً اجازمةً، التي تمحو ما قبلها من السيئات، وتلمُّ شعث التائب وتجمعه، وتكفه عما كان يتعاطاه من النداءات.

 . 4 حسن الظن بالله عند الموت:

روى مسلم عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: ( لا يموتن أحدُكم إلا وهو يُحسن الظن بالله عز وجل ).

وقال الإمام النووي (رحمه الله) هذا الحديث تحذيرٌ من القنوط، وحث على الرجاء عند الخاتمة.
روى ابن ماجه عن أنس بن مالك : أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال: ( كيف تجدك؟ )، قال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف .

. 5  استحضار ما بعد الموت من منازل

بذكر عذاب القبر ونعيمه، والبعث والحشر، والعرق، والمرور على الصراط، وصحيفة الأعمال، والميزان، والحوض والشفاعة، والجنة والنار، وما أعد الله لأهلهما، والوقوف للحساب أمام الله تعالى.

قال الله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ إبراهيم: 27. روى النسائي عن البراء أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر .

قال الله تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ الأنبياء: 47 .

وقال جل شأنه: ﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ القارعة: 6 – 11.
قال الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ'على التحكيم ﴾ يس: 65.

روى الترمذي عن المقداد بن الأسود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان يوم القيامة أُدنِيَت الشمس من العباد حتى تكون قِيد مِيل أو اثنين - قال سليم: لا أدري أي المِيلين عَنَى؛ أمسافة الأرض أم المِيل الذي تكتحل به العين؟! - قال: فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق بقدر أعمالهم؛ فمنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حِقْويه، ومنهم من يلجمه إنجازًا ) ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده إلى فيه؛ أي: يُلجمه إنجازًا  ) .

روى البخاري عن سهل بن سعد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني فَرَطُكم على الحوض، مَن مر عليَّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، ليَرِدَنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحقًا سُحقًا لِمن غيَّر بعدي  ) .

قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ الأنعام: 94 .
روى الشيخان عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاءَ وجهه؛ فاتقوا النار ولو بشق تمرة)  .

رابعا : فوائد ذكر الموت :

اعلم أن في ذكر الموت فوائد عديدة من ذلك :

1. أنه يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي.

2. يذهب الفرح والسرور بالدنيا، ويزهد فيها، ويهون المصائب.

3. التأثر في مشاهدة المحتضرين الذين تخرج أرواحهم، فإن في النظر إليهم ومشاهدة سكراتهم  .
4. عند نزع أرواحهم، وشخوص أبصارهم عند نزعها، وعجزهم عن الكلام، عند تسلل الروح من الجسد ، وتأمل صورهم بعد خروج الروح ما يقطع عن النفوس لذاتها ويطرد عن القلوب مسراتها ويمنع الجفون من النوم ويمنع الأبدان من الراحة، ويبعث على الجد والاجتهاد في العمل للآخرة.

5. يلين القلوب القاسية زيارة القبور، فإنها تبلغ من القلوب ما لا يبلغه الأول والثاني والثالث لأنها تذكر بالآخرة ، وَلَمْ أَرَى كَالْمَواتِ أَفْجَعَ مَنْظَرًا=وَلاَ وَاعِظِي جُلاَّسِهم كَالْمَقَابِرِ

6. زيارة المستشفيات والمستوصفات فإنها تلين القلوب وتحث الإنسان على حمد الله وشكره، وعلى الجد والاجتهاد فيما يعود نفعه على الإنسان في الآخرة ، وينبغي للإنسان أن يقوي ظنه بالله ويستحضر رحمته ورأفته ولطفه بعباده ولا سيما عند الاحتضار .

الجمعة، 2 فبراير 2018

قيم إجتماعية راقية ... ٣. الصداقة في الإسلام بقلم : محمد أبوغدير المحامي

أن الإنسان بمفرده يعجز عن أن يوفّر لنفسه مقومات بقائه وتطوّره واستمراره ، ومن فطرته مخالطة الآخرين من بني نوعه ليستعين بهم على توفير هذه المقومات ، ومن ثم كان توّاقاً إلى اتّخاذ الأصدقاء، ليكونوا عونا له لقضاء حاجاته وتنفيذ مهامه ، وسلواناً يخفّفون عنه المتاعب ويشاطرونه والضرّاء ويشاركونه السرّاء.

والصديق له أثرٌ بالغ على صديقه ً، لما طبع عليه الإنسان من سرعة التأثّر والانفعال بالقرناء والأخلّاء ، فالصديق الصالح يهدي إلى الرشـد والصلاح ، والصديق الفاسـد يقود إلى الغيّ والفسـاد ، وكم انحرف أشخاصٌ كانوا يعدّون مثاليين فكراً وسلوكاً، ولكن ما لبثوا أن ضلّوا في متاهة الغواية والفسـاد لتأثرهم بالأصدقاء والأخلّاء المنحرفين.

لذلك ينبغي أن نقف على : مفهوم الصداقة الحقيقية كما بينتها أحكام الإسلام ، وكيف حث على اختيار الصحبة الصالحة ، ومكانة الصديق الحقيقي في حياة المسلم ، ونقف عند صفات الصديق الصّالح  ، وفوائد مجالسة الأخيار .

أولا : مفهوم الصداقة  :

أ - الصداقة لغة واصطلاحا :

الصداقة لغة :
مشتقة من مادة صدق كما اشتق منها الصادق والصديق ، وجمع الأولى الصديقون ، وجمع الثانية الأصدقاء .
وأن الصداقة الحقيقية : تعني المشاعر الفياضة بين قلبين ، ويتألق صفاء تلك المشاعر على سلوك صاحبيهما ومعاملاتهما بتجاوب كامل وأمانة تامة وسعادة نفسية .

والصديق الحقيقي :
هو الذي يصدق بك وتصدق به بدون تكلف ولا تصنع ، بل بصدق النية وإخلاص القلب .

ومن التعريفات الحديثة للصداقة أنها :
علاقة اجتماعية وثيقة تقوم على مشاعر الحب والجاذبية المتبادلة بين شخصين أو أكثر .
وتتميز هذه الصداقة بثلاثة خصائص هي :
1- الانسجام المتبادل الذي تبرزه المشاعر والمعتقدات والسلوك بين الطرفين .
2-  الميل إلى المشاركة في نشاطات واهتمامات متنوعة وليس نشاط واحد .
3-  قدرة كل طرف من أطراف العلاقة على استثارة انفعالات قوية في الطرف الآخر .

ب - مفهوم الصداقة في القرآن والسنة :

وردت كلمة الصداقة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بمفاهيم تترادف مع الصداقة كالخلّة ، والأخلاء ، والخليل ، الصحبة والجليس الصالح :

1 . فجاء بمعنى الخلّة في قول الله سبحانه وتعالى : ( من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ) البقرة : 254 .

2 . كما جاء بمعنى الإخلاء في قوله تعالى : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض إلا المتقون ) الزخرف : 67

3 . وجاء بمعنى الخليل حيث قال تعالى : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً. يوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً. لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي ) الفرقان :27- 29 .

4 . كما ورد مفهوم الصداقة بمعنى الصحبة والجليس الصالح ، في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تُصاحبْ إلا مؤمنا، ولا يأكلْ طعامكَ إلا تَقِيّ ) حسن

ثانيا : مكانة الصديق والحث على الصحبة الصالحة

أ - مكانة الصديق في حياة المرء المسلم :

لا بد للمسلم العاقل أن يحدد من يتخذه صديقا ، لأن الفاسدين من الأصدقاء يكبونه في الفساد ويزيدون به عدد المفسدين ، بينما الأصدقاء الصالحين يصلحونه ويزيدونه خيرا وثراء وسعادة في الحياة الدنيا والحياة الأخرى ، ودلائل ذلك في الآتي :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل  ) .

وعن شأن الأخلاء يوم البعث والحساب ، قال الله سبحانه وتعالى : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقون ) الزخرف : 67 .
وقال تعالى على لسان جليس السوء وصحبة اللئيم : ( يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ) الفرقان : 28 .
وحذر الله سبحانه وتعالى أن الصحبة السوء لا تنفع يوم القيامة فقال : ( من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ) البقرة : 254 .

ب - الحث على اختيار الصحبة الصالحة :

وحث المسلم على اختيار الصحبة الصالحة و الارتباط بأصدقاء الخير الذين إذا نسيت ذكروك، وإذا ذكرت أعانوك.
ولقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة تحثُ المســلمين لاختيار الصحبة الصالحة ، منها ما رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (الرَّجُلُ عَلَى دين خَلِيله فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ  ) .
وعن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله، أي جلسائنا خير؟ قال: « من ذكَّركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله » . رواه أبو يعلى الموصلي.
ومنها ما رواه البخاري عن اَبَي بُرْدَةَ بْنَ اَبِي مُوسَى، عَنْ اَبِيهِ رضي الله عنه- قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ) ‏ مَثَلُ الجليس الصَّالِح و الجَليس السَّوْءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ، وَكِيرِ الْحَدَّادِ، لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ، أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحاً خَبِيثَةً  ) .
روى أبو داوود عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن أخو المؤمن، يكفُّ عليه ضيعته ويحوطه من ورائه )
هكذا فأن المسلم مطلوب منه أن يحسن اختيار أصدقائه، لأنه يتأثر بعملهم و أخلاقهم، فإن كانوا أصدقاء سوء تأثر بهم و بأخلاقهم السيئة، وإن لم يشاركهم أعمالهم السيئة، فأنه وافقهم عليها وهذا أثم كبير يقع عليه، ويصنف تبعاً لهم.

ثالثا : صفات الصديق الصّالح

هذه خمس صفات مهمة وأساسية في اختيار الأصدقاء، حتى لا نفجع يوماً في أصدقائنا إذا رأينا منهم ما لم نكن نتوقع أن نراه، وحتى نستطيع الوثوق فيمن نصادق وبيان هذه الصفات في الآتي :

1 . أن يكون تقيًا :

فالصداقة قائمة على الثقة، والثقة لا يمكن أن تكتمل إلا لمن خشي الله سبحانه؛ فهو الذي يحفظك في غيبتك، فيستر عرضك ويحفظ أمانتك ويصاحبك في الطاعات ويبعدك عن المنكرات. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي ) أخرجه أحمد وأبو داود .

2 . أن يكون إلفاً يؤلف  :

سهلاً في شخصيته يحب الناس ويحبه الناس، رقيق القلب، كريم السلوك، وفي الحديث ( المؤمن يأْلَف ويُؤْلَف، ولا خير فيمن لا يأْلَف ولا يُؤْلَف ) أخرجه احمد ، لذا فاحذر أهل القسوة والشـدة ، محبي الصراعات والاشـتباكات والعقوبات، واحذر أهل الأنانية وحب الذات
 .
3 . أن يستر عيوب صديقه وينشر فضائله :

فعلى المسلم أن يحذر من يتحدث بعيبه ويكثر نقده ولا يرى فيه خير ، وفي الحديث: «من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة ) أخرجه أحمد   .

4 . أن يكون صاحب مروءة وعطاء في المواقف :

وفي الحديث : ( أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس» ) أخرجه الطبراني ، فاحذر من يظهر في السراء ويختفي في الضراء واحذر الجبناء واحذر البخلاء، واحذر من يتركك في مواقف الشدة، ومن يخاصمك إذا اختلف معك.

5 . أن يكون واضحًا غير ماكر :

فاحذر أهل المكر وأهل الكذب، واحذر المرائين والمتلونين ، فقد أخرج الطبراني أن رسـول الله صلى الله عليه وسـلم قال : ( المكر والخديعة في النار ) .
كما اخرج البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يكيد أهل المدينة أحدٌ إلَّا انماع كما ينماع الملح في الماء ) يعني ذاب الملح في الماء .

6 . أن يكون ذو خلق قويم:

الصداقة في الإسلام ترتبط بالخلق القويم ، لذلك حذر النبي الكريم من جليس السوء ، وحث على ملازمة الجليس الصالح ، قال عليه الصلاة والسلام : ( إنَّما مثلُ الجليسِ الصَّالحِ والجليسِ السُّوءِ، كحاملِ المِسكِ ونافخِ الكيرِ. فحاملُ المسكِ، إمَّا أن يُحذِيَك، وإمَّا أن تَبتاعَ منه، وإمَّا أن تجِدَ منه ريحًا طيِّبةً. ونافخُ الكيرِ، إمَّا أن يحرِقَ ثيابَك، وإمَّا أن تجِدَ ريحًا خبيثةً) صحيح مسلم .

رابعا : فوائد مجالسة الأخيار

1 . مجالسة الأخيار جالبة لمحبة الله :

روى الأمام مالك في موطأه: َعَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقَ فَإِذَا فَتًى شَابٌّ بَرَّاقُ الثَّنَايَا وَإِذَا النَّاسُ مَعَهُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَسْنَدُوا إِلَيْهِ وَصَدَرُوا عَنْ قَوْلِهِ فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقِيلَ هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ .‏ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ هَجَّرْتُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي بِالتَّهْجِيرِ وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي -قَال- فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى قَضَى صَلاَتَهُ ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ لِلَّهِ .‏ فَقَالَ: آللَّهِ؟ فَقُلْتُ آللَّهِ .‏ فَقَالَ آللَّهِ؟ فَقُلْتُ آللَّهِ ‏.‏ فَقَالَ آللَّهِ؟ فَقُلْتُ آللَّهِ ‏.‏ قَالَ فَأَخَذَ بِحُبْوَةِ رِدَائِي فَجَذَبَنِي إِلَيْهِ وَقَالَ: أَبْشِرْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «‏ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَجَبَتْ مَحبِتي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيّ ).

2 . مجالسة الأخيار سبب في الحصول على البركة :

روى الأمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلاَئِكَةً سَيَّارَةً فُضْلاً يَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ -قَالَ- فَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ فَيَقُولُونَ جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ, قَالَ وَمَاذَا يَسْأَلُونِي قَالُوا يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ, قَالَ وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا لاَ أَىْ رَبِّ, قَالَ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا وَيَسْتَجِيرُونَكَ , قَالَ وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ, قَالَ وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا لاَ, قَالَ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا وَيَسْتَغْفِرُونَكَ -قَالَ- فَيَقُولُ قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا -قَالَ- فَيَقُولُونَ رَبِّ فِيهِمْ فُلاَنٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ، قَالَ فَيَقُولُ وَلَهُ غَفَرْتُ هُمُ الْقَوْمُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جليسهم ) .

3 .  . مجالسة الأخيار سبب تبصرك بعيوبك ويدلك على أوجه الضعف عندك :

 قال الحسن - رحمه الله -"المؤمن مرآة أخيه إن رأى فيه مالا يعجبـه سـدده وقومه وحاطه وحفظه في السر والعلانية".

4 . مجالسة الأخيار سبب  برؤيته يذكر الله - تعالى :

قال عليه الصلاة والسلام: "أولياء الله - تعالى - الذين إذا رأوا ذكر الله - تعالى -" قال قوس بن عقبة - رحمه الله -: "إني كنت لألقى الأخ من إخواني فلأكون بلقيه عاقلا أياما".

5 . مجالسة الأخيار سبب في دخولك ضمن الذين لا خوف عليهم يوم القيامة ولاهم يحزنون :

قال الله تعالى : (الأَخِلَّاءُ يَومَئِذٍ, بَعضُهُم لِبَعضٍ, عَدُوُّ إِلَّا المُتَّقِينَ، يَا عِبَادِ لا خَوفٌ عَلَيكُمُ اليَومَ وَلا أَنتُم تَحزَنُونَ) "الزخرف: 67، 68".

6 . مجالسة الأخيار سبب للإنتفاع بدعائهم لك بظهر الغيب في حياتك وبعد مماتك :

 قال - عليه الصلاة والسلام -"دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل"(رواه مسلم)،
وقال عبيد الله بن الحسين - رحمه الله - لرجل"استكثر من الصديق ـ يعني الصالح ـ فإن أيسر ما تصيب أن يبلغه موتك فيدعو لك".

7 . مجالسة الأخيار سبب لمحبة الله تعالى :

كما في الحديث القدسي قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -: (وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتبادلين في) . "رواه مالك" .

8 . مجالسة الأخيار سبب منفعة في الدين والدنيا :

كما قال - عليه الصلاة والسلام -"المؤمن إن ماشــيته نفعك وإن شـاورته نفعك وان شاركته نفعك وكل شيء من أمره منفعة"(رواه أبو نعيم) .

خامسا : قصص للصداقة الحقيقية

1 . عن خباب بن الأرت قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعداً مع عمار، وصهيب، وبلال، وخباب بن الأرت، في أناس من ضعفاء المؤمنين؛ فلما رأوهم، حقروهم، فخلوا به؛ فقالوا: إن وفود العرب تأتيك، فنستحي أن يرانا العرب قعودا مع هذه الأعبد، فإذا جئناك، فأقمهم عنا، قال: «نعم».
قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً، فدعى بالصحيفة ، ودعا علياً ليكتب ـ ونحن قعود في ناحية ـ؛ إذ نزل جبريل فقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ. وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ. وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا} [الأنعام: 25ـ54] الآية.
فرمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصحيفة، ودعانا، فأتيناه، وهو يقول: سلام عليكم؛ فدنونا منه، حتى وضعنا ركبنا على ركبته، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس معنا؛ فإذا أراد أن يقوم: قام، وتركنا؛ فأنزل الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28]. قال: فكنا بعد ذلك نقعد مع النبي، فإذا بلغنا الساعة التي كان يقوم فيها، قمنا، وتركناه؛ وإلا: صبر أبداً، حتى نقوم .

2 . قال ابن الجوزي – رحمه الله - : كان لنا أصدقاء ، وإخوان ، أعتد بهم ، فرأيت منهم من الجفاء ، وترك شروط الصداقة ، والأخوَّة : عجائب ، فأخذت أعتب .
ثم انتبهت لنفسي ، فقلت : وما ينفع العتاب ، فإنهم إن صلحوا : فللعتاب ، لا للصفاء .
فهممت بمقاطعتهم ، ثم تفكرتُ فرأيت الناس بي معارف ، وأصدقاء في الظاهر ، وإخوة مباطنين ، فقلت : لا تصلح مقاطعتهم .إنما ينبغي أن تنقلهم من " ديوان الأخوة " إلى " ديوان الصداقة الظاهرة " .فإن لم يصلحوا لها : نقلتَهم إلى " جملة المعارف " ، وعاملتهم معاملة المعارف ، ومن الغلط أن تعاتبهم

3 . عن أبي قلابة : أن أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه مر على رجل قد أصاب ذنباً، فكانوا يسبونه؛ فقال: أرأيتم، لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟
قالوا: نعم؛ قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم؛ قالوا: أفلا تبغضه؟ قال : إنما أبغض عمله، فإذا تركه، فهو أخي. وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: أدع الله تعالى في يوم سرائك، لعله أن يستجيب لك في يوم ضرائك. حلية الأولياء

 4 . عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي ذات يوم: يا يونس، إذا بلغت عن صديق لك ما تكرهه، فإياك أن تبادر بالعداوة، وقطع الولاية، فتكون ممن أزال يقينه بشك؛ ولكن إلقه، وقل له: بلغني عنك كذا وكذ، وأجدر أن تسمى المبلغ؛ فإن أنكر ذلك،
فقل له: أنت أصدق، وأبر؛ ولا تزيدن على ذلك شيئاً؛ وإن اعترف بذلك، فرأيت له في ذلك وجهاً بعذر، فاقبل منه؛ وإن لم يرد ذلك، فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ماله وجه من العذر، فاقبله؛ وإن لم يذكر لذلك وجهاً لعذر، وضاق عليك المسلك، فحينئذ أثبتها عليه سيئة أتاها؛ ثم أنت في ذلك بالخيار: إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه؛ والعفو أبلغ للتقوى، وأبلغ في الكرم، لقول الله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].
فإن نازعتك نفسك بالمكافأة، فاذكر فيما سبق له لديك، ولا تبخس باقي إحسانه السالف بهذه السيئة، فإن ذلك: الظلم بعينه؛ وقد كان الرجل الصالح يقول: رحم الله من كافأني على إساءتي، من غير أن يزيد، ولا يبخس حقاً لي؛ يا يونس: إذا كان لك صديق، فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب، ومفارقته سهل؛ وقد كان الرجل الصالح، يشبه سهولة مفارقة الصديق: بصبي يطرح في البئر حجراً عظيماً، فيسهل طرحه عليه، ويصعب إخراجه على الرجال البرك؛ فهذه وصيتي لك، والسلام .


أن الإنسان بمفرده يعجز عن أن يوفّر لنفسه مقومات بقائه وتطوّره واستمراره ، ومن فطرته مخالطة الآخرين من بني نوعه ليستعين بهم على توفير هذه المقومات ، ومن ثم كان توّاقاً إلى اتّخاذ الأصدقاء، ليكونوا عونا له لقضاء حاجاته وتنفيذ مهامه ، وسلواناً يخفّفون عنه المتاعب ويشاطرونه والضرّاء ويشاركونه السرّاء.

والصديق له أثرٌ بالغ على صديقه ً، لما طبع عليه الإنسان من سرعة التأثّر والانفعال بالقرناء والأخلّاء ، فالصديق الصالح يهدي إلى الرشـد والصلاح ، والصديق الفاسـد يقود إلى الغيّ والفسـاد ، وكم انحرف أشخاصٌ كانوا يعدّون مثاليين فكراً وسلوكاً، ولكن ما لبثوا أن ضلّوا في متاهة الغواية والفسـاد لتأثرهم بالأصدقاء والأخلّاء المنحرفين.

لذلك ينبغي أن نقف على مفهوم الصداقة الحقيقية كما بينتها أحكام الإسلام وكيف حث على اختيار الصحبة الصالحة ، ومكانة الصديق الحقيقي في حياة المسلم ، ونقف عند صفات الصديق الصّالح  ، وفوائد مجالسة الأخيار ، ثم نعرض بعض القصص الراقية للصداقة .

أولا : مفهوم الصداقة  :

أ - الصداقة لغة واصطلاحا :
الصداقة لغة :
مشتقة من مادة صدق كما اشتق منها الصادق والصديق ، وجمع الأولى الصديقون ، وجمع الثانية الأصدقاء .
وأن الصداقة الحقيقية : تعني المشاعر الفياضة بين قلبين ، ويتألق صفاء تلك المشاعر على سلوك صاحبيهما ومعاملاتهما بتجاوب كامل وأمانة تامة وسعادة نفسية .

والصديق الحقيقي:
هو الذي يصدق بك وتصدق به بدون تكلف ولا تصنع ، بل بصدق النية وإخلاص القلب .

ومن التعريفات الحديثة للصداقة أنها :
علاقة اجتماعية وثيقة تقوم على مشاعر الحب والجاذبية المتبادلة بين شخصين أو أكثر .
وتتميز هذه الصداقة بثلاثة خصائص هي :
1- الانسجام المتبادل الذي تبرزه المشاعر والمعتقدات والسلوك بين الطرفين .
2-  الميل إلى المشاركة في نشاطات واهتمامات متنوعة وليس نشاط واحد .
3-  قدرة كل طرف من أطراف العلاقة على استثارة انفعالات قوية في الطرف الآخر .

ب - مفهوم الصداقة في القرآن والسنة :

وردت كلمة الصداقة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بمفاهيم تترادف مع الصداقة كالخلّة ، والأخلاء ، والخليل ، الصحبة والجليس الصالح .
1 . فجاء بمعنى الخلّة في قول الله سبحانه وتعالى : ( من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ) البقرة : 254 .
2 . كما جاء بمعنى الإخلاء في قوله تعالى : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض إلا المتقون ) الزخرف : 67
3 . وجاء بمعنى الخليل حيث قال تعالى : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً. يوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً. لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي ) الفرقان :27- 29 .
4 . كما ورد مفهوم الصداقة بمعنى الصحبة والجليس الصالح ، في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تُصاحبْ إلا مؤمنا، ولا يأكلْ طعامكَ إلا تَقِيّ ) حسن

ثانيا : مكانة الصديق والحث على الصحبة الصالحة

أ - مكانة الصديق في حياة المرء المسلم :

لا بد للمسلم العاقل أن يحدد من يتخذه صديقا ، لأن الفاسدين من الأصدقاء يكبونه في الفساد ويزيدون به عدد المفسدين ، بينما الأصدقاء الصالحين يصلحونه ويزيدونه خيرا وثراء وسعادة في الحياة الدنيا والحياة الأخرى ، ودلائل ذلك في الآتي :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل  ) .

وعن شأن الأخلاء يوم البعث والحساب ، قال الله سبحانه وتعالى : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقون ) الزخرف : 67 .
وقال تعالى على لسان جليس السوء وصحبة اللئيم : ( يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ) الفرقان : 28 .
وحذر الله سبحانه وتعالى أن الصحبة السوء لا تنفع يوم القيامة فقال : ( من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ) البقرة : 254 .

ب - الحث على اختيار الصحبة الصالحة :

وحث المسلم على اختيار الصحبة الصالحة و الارتباط بأصدقاء الخير الذين إذا نسيت ذكروك، وإذا ذكرت أعانوك.
ولقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة تحثُ المســلمين لاختيار الصحبة الصالحة ، منها ما رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (الرَّجُلُ عَلَى دين خَلِيله فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ  ) .
وعن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله، أي جلسائنا خير؟ قال: « من ذكَّركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله » . رواه أبو يعلى الموصلي.
ومنها ما رواه البخاري عن اَبَي بُرْدَةَ بْنَ اَبِي مُوسَى، عَنْ اَبِيهِ رضي الله عنه- قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ) ‏ مَثَلُ الجليس الصَّالِح و الجَليس السَّوْءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ، وَكِيرِ الْحَدَّادِ، لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ، أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحاً خَبِيثَةً  ) .
روى أبو داوود عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن أخو المؤمن، يكفُّ عليه ضيعته ويحوطه من ورائه )
هكذا فأن المسلم مطلوب منه أن يحسن اختيار أصدقائه، لأنه يتأثر بعملهم و أخلاقهم، فإن كانوا أصدقاء سوء تأثر بهم و بأخلاقهم السيئة، وإن لم يشاركهم أعمالهم السيئة، فأنه وافقهم عليها وهذا أثم كبير يقع عليه، ويصنف تبعاً لهم.

ثالثا : صفات الصديق الصّالح

هذه خمس صفات مهمة وأساسية في اختيار الأصدقاء، حتى لا نفجع يوماً في أصدقائنا إذا رأينا منهم ما لم نكن نتوقع أن نراه، وحتى نستطيع الوثوق فيمن نصادق وبيان هذه الصفات في الآتي :

1 . أن يكون تقيًا :
فالصداقة قائمة على الثقة، والثقة لا يمكن أن تكتمل إلا لمن خشي الله سبحانه؛ فهو الذي يحفظك في غيبتك، فيستر عرضك ويحفظ أمانتك ويصاحبك في الطاعات ويبعدك عن المنكرات. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي ) أخرجه أحمد وأبو داود .

2 . أن يكون إلفاً يؤلف  :
سهلاً في شخصيته يحب الناس ويحبه الناس، رقيق القلب، كريم السلوك، وفي الحديث ( المؤمن يأْلَف ويُؤْلَف، ولا خير فيمن لا يأْلَف ولا يُؤْلَف ) أخرجه احمد ، لذا فاحذر أهل القسوة والشـدة ، محبي الصراعات والاشـتباكات والعقوبات، واحذر أهل الأنانية وحب الذات
 .
3 . أن يستر عيوب صديقه وينشر فضائله :
فعلى المسلم أن يحذر من يتحدث بعيبه ويكثر نقده ولا يرى فيه خير ، وفي الحديث: «من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة ) أخرجه أحمد   .

4 . أن يكون صاحب مروءة وعطاء في المواقف :
وفي الحديث : ( أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس» ) أخرجه الطبراني ، فاحذر من يظهر في السراء ويختفي في الضراء واحذر الجبناء واحذر البخلاء، واحذر من يتركك في مواقف الشدة، ومن يخاصمك إذا اختلف معك.

5 . أن يكون واضحًا غير ماكر :

فاحذر أهل المكر وأهل الكذب، واحذر المرائين والمتلونين ، فقد أخرج الطبراني أن رسـول الله صلى الله عليه وسـلم قال : ( المكر والخديعة في النار ) .
كما اخرج البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يكيد أهل المدينة أحدٌ إلَّا انماع كما ينماع الملح في الماء ) يعني ذاب الملح في الماء .

6 . أن يكون ذو خلق قويم:

الصداقة في الإسلام ترتبط بالخلق القويم ، لذلك حذر النبي الكريم من جليس السوء ، وحث على ملازمة الجليس الصالح ، قال عليه الصلاة والسلام : ( إنَّما مثلُ الجليسِ الصَّالحِ والجليسِ السُّوءِ، كحاملِ المِسكِ ونافخِ الكيرِ. فحاملُ المسكِ، إمَّا أن يُحذِيَك، وإمَّا أن تَبتاعَ منه، وإمَّا أن تجِدَ منه ريحًا طيِّبةً. ونافخُ الكيرِ، إمَّا أن يحرِقَ ثيابَك، وإمَّا أن تجِدَ ريحًا خبيثةً) صحيح مسلم .

رابعا : فوائد مجالسة الأخيار

1 . مجالسة الأخيار جالبة لمحبة الله :

روى الأمام مالك في موطأه: َعَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقَ فَإِذَا فَتًى شَابٌّ بَرَّاقُ الثَّنَايَا وَإِذَا النَّاسُ مَعَهُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَسْنَدُوا إِلَيْهِ وَصَدَرُوا عَنْ قَوْلِهِ فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقِيلَ هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ .‏ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ هَجَّرْتُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي بِالتَّهْجِيرِ وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي -قَال- فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى قَضَى صَلاَتَهُ ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ لِلَّهِ .‏ فَقَالَ: آللَّهِ؟ فَقُلْتُ آللَّهِ .‏ فَقَالَ آللَّهِ؟ فَقُلْتُ آللَّهِ ‏.‏ فَقَالَ آللَّهِ؟ فَقُلْتُ آللَّهِ ‏.‏ قَالَ فَأَخَذَ بِحُبْوَةِ رِدَائِي فَجَذَبَنِي إِلَيْهِ وَقَالَ: أَبْشِرْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «‏ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَجَبَتْ مَحبِتي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيّ ).

2 . مجالسة الأخيار سبب في الحصول على البركة :
روى الأمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلاَئِكَةً سَيَّارَةً فُضْلاً يَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ -قَالَ- فَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ فَيَقُولُونَ جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ, قَالَ وَمَاذَا يَسْأَلُونِي قَالُوا يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ, قَالَ وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا لاَ أَىْ رَبِّ, قَالَ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا وَيَسْتَجِيرُونَكَ , قَالَ وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ, قَالَ وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا لاَ, قَالَ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا وَيَسْتَغْفِرُونَكَ -قَالَ- فَيَقُولُ قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا -قَالَ- فَيَقُولُونَ رَبِّ فِيهِمْ فُلاَنٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ، قَالَ فَيَقُولُ وَلَهُ غَفَرْتُ هُمُ الْقَوْمُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جليسهم ) .

خامسا : قصص للصداقة الحقيقية

1 . عن خباب بن الأرت قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعداً مع عمار، وصهيب، وبلال، وخباب بن الأرت، في أناس من ضعفاء المؤمنين؛ فلما رأوهم، حقروهم، فخلوا به؛ فقالوا: إن وفود العرب تأتيك، فنستحي أن يرانا العرب قعودا مع هذه الأعبد، فإذا جئناك، فأقمهم عنا، قال: «نعم».
قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً، فدعى بالصحيفة، ودعا علياً ليكتب ـ ونحن قعود في ناحية ـ؛ إذ نزل جبريل فقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ. وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ. وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا} [الأنعام: 25ـ54] الآية.
فرمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصحيفة، ودعانا، فأتيناه، وهو يقول: سلام عليكم؛ فدنونا منه، حتى وضعنا ركبنا على ركبته، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس معنا؛ فإذا أراد أن يقوم: قام، وتركنا؛ فأنزل الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28]. قال: فكنا بعد ذلك نقعد مع النبي، فإذا بلغنا الساعة التي كان يقوم فيها، قمنا، وتركناه؛ وإلا: صبر أبداً، حتى نقوم .

2 . قال ابن الجوزي – رحمه الله - : كان لنا أصدقاء ، وإخوان ، أعتد بهم ، فرأيت منهم من الجفاء ، وترك شروط الصداقة ، والأخوَّة : عجائب ، فأخذت أعتب .
ثم انتبهت لنفسي ، فقلت : وما ينفع العتاب ، فإنهم إن صلحوا : فللعتاب ، لا للصفاء .
فهممت بمقاطعتهم ، ثم تفكرتُ فرأيت الناس بي معارف ، وأصدقاء في الظاهر ، وإخوة مباطنين ، فقلت : لا تصلح مقاطعتهم .إنما ينبغي أن تنقلهم من " ديوان الأخوة " إلى " ديوان الصداقة الظاهرة " .فإن لم يصلحوا لها : نقلتَهم إلى " جملة المعارف " ، وعاملتهم معاملة المعارف ، ومن الغلط أن تعاتبهم

3 . عن أبي قلابة : أن أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه مر على رجل قد أصاب ذنباً، فكانوا يسبونه؛ فقال: أرأيتم، لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟
قالوا: نعم؛ قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم؛ قالوا: أفلا تبغضه؟ قال : إنما أبغض عمله، فإذا تركه، فهو أخي. وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: أدع الله تعالى في يوم سرائك، لعله أن يستجيب لك في يوم ضرائك. حلية الأولياء

 4 . عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي ذات يوم: يا يونس، إذا بلغت عن صديق لك ما تكرهه، فإياك أن تبادر بالعداوة، وقطع الولاية، فتكون ممن أزال يقينه بشك؛ ولكن إلقه، وقل له: بلغني عنك كذا وكذ، وأجدر أن تسمى المبلغ؛ فإن أنكر ذلك،
فقل له: أنت أصدق، وأبر؛ ولا تزيدن على ذلك شيئاً؛ وإن اعترف بذلك، فرأيت له في ذلك وجهاً بعذر، فاقبل منه؛ وإن لم يرد ذلك، فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ماله وجه من العذر، فاقبله؛ وإن لم يذكر لذلك وجهاً لعذر، وضاق عليك المسلك، فحينئذ أثبتها عليه سيئة أتاها؛ ثم أنت في ذلك بالخيار: إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه؛ والعفو أبلغ للتقوى، وأبلغ في الكرم، لقول الله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].
فإن نازعتك نفسك بالمكافأة، فاذكر فيما سبق له لديك، ولا تبخس باقي إحسانه السالف بهذه السيئة، فإن ذلك: الظلم بعينه؛ وقد كان الرجل الصالح يقول: رحم الله من كافأني على إساءتي، من غير أن يزيد، ولا يبخس حقاً لي؛ يا يونس: إذا كان لك صديق، فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب، ومفارقته سهل؛ وقد كان الرجل الصالح، يشبه سهولة مفارقة الصديق: بصبي يطرح في البئر حجراً عظيماً، فيسهل طرحه عليه، ويصعب إخراجه على الرجال البرك؛ فهذه وصيتي لك، والسلام .

5 - يحكى انه كان هناك صاحبان يمشيان في الصحراء وفي أثناء سيرهما ، اختصما !فصفع احدهما الآخر فتألم الصاحب لصفعة صاحبه فسكت ولم يتكلم بل كتب على الرمل ) اليوم اعز أصحابي صفعني على وجهي )
وواصلا المسير ووجدا واحة فقررا أن يستحما في الماء .. ولكن الذي أنصفع وتألم من صاحبه غرق إثناء السباحة فأنقذه صاحبه الذي صفعه ولما أفاق من الغرق ابتسم ثم قام ونحت على الصخر ( اليوم اعز أصحابي أنقذ حياتي (
فسأله صاحبه : عندما صفعتك كتبت على الرمل ! لكن عندما أنقذت حياتك من الغرق كتبت على الحجر . فلماذا ؟
فأبتسم وأجابه :عندما يجرحنا من نحب علينا أن نكتب ما حدث على الرمل لتمسحها رياح التسامح والغفران ولكن عندما يعمل الحبيب شي رائع علينا أن ننحته على الصخر حتى يبقى في ذاكرة القلب حيث لا رياح تمحوهة.

قيم إجتماعية راقية ... ٢ _ الإحسان إلى الجار بقلم : محمد أبوغدير المحامي

 الجيران هم أقرب الناس إلى الإنسان ـ بعد أهله وقرابته - وأكثرهم معرفة بأحواله، وقد يكونوا في حالات كثيرة أقرب وأكثر إعانة لهم من الأقرباء والأصهار ، لذلك كان القيام بحق الجار من أوجب الواجبات ومن أجل الفرائض في الإسلام.

والجار الحقيقي جزء لا يتجزأ من النظام الاجتماعي الإسلامي الفريد الذي لحمته التراحم والتعاطف والبر والتقوى ، وسداه التعاون والتكافل ، ومبناه على الأمر بالمعروف والنهي عن الإثم والعدوان .

ولكن هذا الحق العظيم قد أهمله كثير من الناس اليوم ، وانشغلوا عنه بخصوصياتهم وحب ذواتهم، وقعدوا عن القيام به بسبب أثرتهم وأنانيتهم، ولم يرعوه حق رعايته بسبب جهلهم وضعف إيمانهم .

لذلك كان من الأهمية بشان التعاون مع الجار والإحسان إليه أن نقف على مفهوم الجار من حيث اللغة والاصطلاح وبيان حده ومراتبه ، ثم فضل الإحسان إليه ، ووسائل التعاون معه وأعلاها الإحسان إليه بوسائله المتعددة ، وأن يتمتع بكافة حقوقه الشرعية وعلى رأسها حرمة التعدي عليه بالأذى قولا أو فعلا ، ونختم بذكر صور راقية للإحسان مع الجيران .
وبيان ذلك في الآتي


أولا : مفهوم الجار :


أ - معنى الجار لغة وإصلاحا :

. 1 الجار لغة :
كما جاء في المعجم الوسيط الجارُ : ذو دلالات شتى نتطرق اليها فيما يلي :
الجارُ : المُجاور في المسكن ، والشَّريك في العَقَار أَو التِّجارة ، والجارُ المُجيرُ والمستجير والمُجار ، والْجَارُ كذلك هُوَ النَّزِيلُ بَيْنَ الْقَبِيلَةِ فِي جِوَارِهَا.
. 2 الجار اصطلاحا :
هو الشخص الذي يجاورك في السكن أ، سواءٌ كان من ذو رحم أم لا ، مسلمًا كان أو كافرًا .

ب - حد الجار :

اختلف العلماء في من يشمله اسم الجوار على أقوال كثيرة:
1ـ كل من يسمع صوت مؤذن الحي الذي يؤذن بدون مكبر صوت، فإنهم يعتبرون جيرانًا.
2ـ وقيل: من سمع إقامة الصلاة، فهو جار.
3ـ وقيل: من صلى معك صلاة الفجر في المسجد فهو جار.
4ـ وقيل: من جمعتهم محلة أو حي، فهم جيران.
5ـ وقيل: حد الجوار أربعون دارًا من كل ناحية. وهذا قول عائشة والأوزاعي والحسن البصري والزهري وغيرهم.
6 ـ والراجح أن ما اعتبره العرف جارًا فإنه جار، له حق الجوار من الإكرام وبذل الندى وكف الأذى ونحو ذلك.

ج - صور أخرى للجوار:

الجار ليس هو فقط من جاورك في السكن ، بل هناك صور أخرى تدخل في مفهوم الجوار، فهناك الجار في العمل، والسوق، والمزرعة، ومقعد الدراسة،... وغير ذلك من صور الجوار .

د- مراتب الجيران ثلاثة :

1ـ جار له ثلاثة حقوق، وهو الجار المسلم القريب ، له حق الجوار ، وحق الإسلام ، وحق القرابة .
2 ـ جار له حقان، وهو الجار المسلم. له حق الجوار، وحق الإسلام .
3ـ جار له حق واحد، وهو الجار الكافر .


ثانيا : فضل الإحسان إلى الجار :


فالإحسان إلى الجار خلق كريم ، يهيِّئ القلوب إلى الخير، وحين يشعر الجار بسلام مع جاره ويراه يحسن إليه، يطمئن قلبه ، وترتاح نفسه، ويَنشرح صدره.

- 1 المسلم الحق هو الذي يُحسن إلى جاره :
فقد أخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( كن ورِعًا تكن أعبد الناس، وكن قنِعًا تكن أشكر الناس، وأحبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلمًا ).

- 2 الإحسان إلى الجار من علامات أهل الإيمان :
فقد أخرج الإمام مسلم، عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليُحسن إلى جاره ).
وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليُكرم جاره )

- 3من يحسن إلى جاره يحبه الله ورسوله، :
أخرج الطبراني عن عبدالرحمن بن أبي قراد السلمي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إن أحببتُم أن يُحبكم الله ورسوله، فأدوا إذا ائتمنتُم، واصدقوا إذا حدَّثتم، وأحسنوا جوار مَن جاوركم ) .

- 4 من يحسن الى جاره يزاد في العمر ويعمر داره :
فقد أخرج الإمام أحمد - بسند صحيح - عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إنه من أعطي من الرزق، فقد أعطي حظه من الدنيا والآخرة، وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار، يَعمُران الديار، ويَزيدان في العمر ).

- 5من يحسن إلى جاره يدخله الله الجنة :
فقد أخرج البيهقي "في شُعب الإيمان" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أن رجلاً قال : يا رسول الله دُلَّني على عمل إذا عمِلت به، دخلت الجنة، فقال : ( كن محسنًا )، فقال: يا رسول الله، كيف أعلم أني محسن؟ قال: ( سل جيرانك، فإن قالوا: إنك محسن، فأنت محسن، أو قالوا: إنك مسيء، فأنت مسيء ).



ثالثا : وسائل التعاون مع الجار :


وتتنوع وسائل التعاون مع الجيران لتشمل عامة الفضائل التي حث عليها الإسلام ولم تصل إلى مرتبة الفريضة التي يأثم تاركها ، كما تشمل كافة حقوق الجار التي أمر بها الإسلام ، وبيان هذه الوسائل وصورها في الآتي :


أ - من وسائل التعاون مع الجار الإحسان إليه :

ومن صور الإحسان ما يأتي :

. 1 تعهُّده بالهدية بين الحين والآخر :
فالهدية إلى الجار طريق إلى المحبة والأُلفة، وهي تأسِر القلب وتملك الفؤاد ، أخرج الإمام مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا أبا ذر ، إذا طبختَ مرقةً ، فأكثِر ماءها، وتعاهد جيرانك ).
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( يا نساء المسلمات، لا تَحقرنَّ جارة لجارتها، ولو فِرسِن شاة))؛ متفق عليه ، الفرسن : ما يكون في ظِلف الشاة، وهو شيء يسير زهيد .
وقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( إذا طبخت مَرقة، فأكثر ماءها وتعاهَد جيرانك ) ؛ صححه الألباني .

. 2 الصبر على أذى الجار:
فربما يبتلى المرء بجار سيِّئ الجوار، معتد أثيم، فعليه أن يصبر على آذاه ، ولقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نصبر على أذى الجار، ولا نعامله بالمثل، فقد أخرج أبو داود - بسند حسن - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكا إليه جارًا له، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات: ((اصبر))، ثم قال في الرابعة - أو الثالثة -: ((اطرح متاعك في الطريق))، ففعل، قال: فجعل الناس يمرون به، ويقولون: ما لك؟ فيقول: آذاه جاره"، فجعلوا يقولون: لعَنه الله، فجاءه جاره، فقال: رُدَّ متاعك، لا والله لا أُؤذيك أبدًا ) .فانظر كيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر هذا الرجل بالصبر، ولم يأمره أن يعامل جاره بالمثل.

. 3 تنازل الجار عن بعض حقوقه لأخيه :
ومن صور الإحسان إلى الجار؛ تعاون الجيران فيما بينهم، والتنازل للجار عن بعض الحقوق التي تنفعه ولا تضر بالمتنازل، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يمنع جار جاره أن يَغرز خشبةً في جداره) ، وأن هذا التعاون مظهر من مظاهر الأخوة الإسلامية وتكامل المجتمع المسلم .

. 4 حل مشكلات الجار وقضاء مصالحه :
ومن صور الإحسان إلى الجار حل مشكلاته فينبغي للجار أن يكون في حاجة أخيه؛ ليكون الله في حاجته؛ فقد أخرج البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته ).

. 5 عرض العقار على الجار قبل بيعه لغيره :
فإذا رغب الرجل في بيع دار، فإنه يعرض الدار المباعة على جاره أولاً قبل غيره، وكذلك لو كانت قطعة أرض، وهذا من حق الجار عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه ، وفيه : ( من كانت له أرض، فأراد بيعها؛ فليعرضها على جاره ) ، وهذا الأمر أطيب لخاطره ولقلبه، والتفريط في هذا الأمر يفتح باب المشاحنات.


ب - من وسائل التعاون مع الجار حرمة إيذائه :

حذَّر الإسلام أشد التحذير من إيذاء الجار ، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم الوعيد والإنذار لمن آذى الجار وبين ذلك في الآتي :

- 1ذنب الاعتداء على الجار مضاعف:
فقد أخرج الإمام أحمد عن أبي ظَبية الكَلاعي، قال: سمعت المِقْدَاد بن الأسود يحدِّث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألهم عن الزنا، فقالوا: حرام، حرمه الله ورسوله، فقال: (
لأن يزني الرجل بعشر نسوة، خير له من أن يزني بامرأة جاره)، قال: وسألهم عن السرقة، فقالوا: حرام حرمها الله ورسوله، فقال: (لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات، أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره)

- 2أذى الجار سبب دخول النار:
أخرج الإمام أحمد وابن حبان - بسند صحيح - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رجل: يا رسول الله، إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: ((هي في النار))، قال: يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها، وأنها تتصدق بالأثوار من الأقِط، ولا تؤذي جيرانها، قال: ( هي في الجنة) .

- 3أذى الجار سبب لعدم دخول الجنة:
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يدخل الجنة مَن لا يأمن جاره بوائقه)).

- 4 وأن من يؤذي جاره يكون أول من سيخاصمه أمام الله يوم القيامة هو جاره:فقد أخرج الطبراني وأحمد عن عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أول خصمين يوم القيامة جاران)).


ج - ومن وسائل التعاون مع الجار أن يتمتع بحقوقه ، ومن صور حقوق الجار ما يأتي :

. 1 تفقد الجار وقضاء حوائجه :
ومن حق الجار إن يتفقد أحواله وأن تقضى حوائجه ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفقد جيرانه فكانت تأتيه الهدية من أصحابه فيبعث بها إلى جاره، ويبعث بها الجار إلى جار آخر، وهكذا تدور على أكثر من عشرة دور حتى ترجع إلى الأول يقول: ( ما آمن بي من بات شبعانًا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم ) .
وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منكِ بابًا".

. 2 ستر الجار وصيانة عرضه :
وبحكم الجوار قد يطَّلع الجار على بعض أمور جاره فينبغي أن يوطن نفسه على ستر جاره مستحضرًا أنه إن فعل ذلك ستره الله في الدنيا والآخرة، أما إن هتك ستره فقد عرَّض نفسه لجزاء من جنس عمله: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فصلت : 46
وكافة الحقوق الأخرى التي يتمتع بها المسلم هي حقوق للجار المسلم ، وكذلك الحقوق التي أقرها لأهل الذمة هي كذلك حقوق للجار غير المسلم والتي يطول بيانها في هذا المقام .

ج - ومن وسائل التعاون التقاء الجيران بشكل دوري :

ومن الأمور المعينة على القيام بحق الجار ـ وبخاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الشواغل والصوارف والمغريات ـ: التقاء الجيران بشكل دوري، كل شهر أو شهرين عند أحدهم أو على التناوب فيما بينهم ، وذلك لتحقيق الأهداف الآتية :

. 1 التعارف والتآلف، وتوثيق المحبة والصلة بينهم : والوقوف على أحوال بعضهم البعض، ومشاركتهم في أفراحهم وأحزانهم، وتفقد غائبهم، وعيادة مريضهم، وإعانة محتاجهم، وتقويم معوجهم، ونصيحة بعضهم لبعض .

. 2 الاجتماع في مدارسة أحوال الحي وما يحتاج إليه من خدمات وإصلاحات، ومعالجة ما قد يكون فيه من مشكلات ومنكرات من تقصير في الصلاة، أو تجمعات مشبوهة، أو تسكع ومعاكسات، ودوران بالسيارات، أو تعديات وسرقات، أو غير ذلك .

. 3 العناية بأمر الناشئة والشباب، والحرص على تهيئة البيئة الصالحة لتربيتهم وإعدادهم، وحمايتهم من أنواع المنكرات والفواحش التي قد تنتشر في بعض الأحياء ، إذ يجب أن يكون الحي مكملاً لدور المنزل والمدرسة، ومعينًا على الإصلاح والتربية، يكون مسجد الحي عامرًا بحلقات التعليم والتحفيظ، وجلسات الوعظ والذكر، ومصدر إشعاع وتوجيه لكل من يرتاده أو يعيش حوله من أهل الحي .

رابعا : مراتب حق الجار :

من خلال بيان صور الإحسان وحقوق الجار السالفة يتبين أن حقوق الجار على ثلاث مراتب: أدناها كف الأذى عنه، ثم احتمال الأذى منه، وأعلاها وأكملها: إكرامه والإحسان إليه.

الأولى : وهي كف أذاه عن الجار، فهي أقل ما يجب على الجار تجاه جاره، فإنه إذا لم يفعل ذلك فقد تعدى عليه وظلمه فلا أقل من أن يكف أذاه عنه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ) رواه البخاري ومسلم

الثانية: فهي احتمال الأذى منه، والتغاضي عنه، والتغافل عن زلته ، كما قال ألله تعالى : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) آل عمران 134 .

الثالثة : فهي إكرام الجار والإحسان إليه بالمعنى واسع الذي تدخل فيه أنواع كثيرة من المكارم والفضائل التي أمر بها الإسلام ، وذلك على التفصيل السابق حال بيان حقوق الجار .

خامسا : صور راقية للإحسان مع الجيران

. 1 مالك بن دينار اسلم جاره اليهودي :
جاء في الإحياء أن مالك بن دينار - رحمه الله تعالى - كان له جار يهودي، فحول اليهودي مستحمه إلى جدار البيت الذي فيه مالك، وكان الجدار متهدِّمًا، فكانت تدخل منه النجاسة، ومالك ينظف البيت كلَّ يوم ولم يقل شيئًا، وأقام على ذلك مدة وهو صابر على الأذى، فضاق صدر اليهودي من كثرة صبره على هذه المشقة، فقال له: يا مالك، آذيتك كثيرًا وأنت صابر ، ولم تخبرني ، فقال مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما زال جبريل يوصيني بالجار ؛ حتى ظننت أنه سيورِّثه )، فندِم اليهودي وأسلم؛ "

. 2 سهل بن عبد الله التستري اسلم جاره المجوسي :
كان لسهل بن عبد الله التستري جار مجوسي، وكان في نفس البيت في الطابق الأعلى، فانفتَحت فتحة في كنيف المجوسي، فكان يقع منها الأذى في دار سهل ، فكان يضع كل يوم الجفنة تحت الفتحة، فينزل فيها الأذى، ثم يأخذ ذلك بالليل ثم يَطرحه بعيدًا، فمكث - رحمه الله - على هذا الحال زمانا طويلاً إلى أن أتى سهلاً المرَضُ، فاستدعى سهل جاره المجوسي، وقال له: ادخل ذلك البيت وانظر ما فيه فرأى الفتحة والقذر، فقال: ما هذا؟ قال سهل: هذا منذ زمن طويل يسقط من دارك، وأنا أتلقاه بالنهار وأُلقيه بالليل، ولولا أنه حضَرني أجلي ما أخبرتك، وأنا أخاف أن لا تتَّسع أخلاق غيري لذلك، فافعل ما ترى، فقال المجوسي: أيها الشيخ، أنت تعاملني بهذه المعاملة منذ زمن طويل، وأنا مقيم على كفري، أيها الشيخ، مد يدك، فأنا أشهد أنْ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم مات سهل - رحمة الله عليه.

. 3 أبو الأسود الدؤلي باع جاره :
كان أبو الأسود الدؤلي واسع الحكمة والعلم وهو من نقط حروف اللغة العربية، وقيل أنَّ لأبي الأسود دار باعها ورحل عنها؛ فسأله سائلٌ: "بعت دارك؟" فأجاب: "بعت جاري ولم أبع داري"، أي أنَّه باع منزله لأن له جار سيء ينغص عليه مسكنه، فالبيوت كما يقال بجيرانها، وقد أصبحت مقولة الدؤلي مثلاً يردده الناس في الظروف المماثلة فيقال: "بعت جاري ولم أبع داري".

. 4 بجيرانها تغلو الديار وترخص :
قائل هذه الأبيات مجهول بالنسبة لنا، لكن من الواضح أنَّه تعرض لأمر مماثل من أمر أبي الأسود الدؤلي، فهجر مسكنه وباع داره لأن جاره سيء المعاملة والمعشر، فقال: يلومنني أنْ بعتُ بالرخصِ منزلي ولم يعلموا جاراً هناك ينغِّصُ ، فقلتُ لهم بعض الملام فإنَّما بجيرانها تغلوا الديارُ وترخصُ .

5 . ألف دينار للبيت وألف للجوار :
وقيل أن رجلاً أراد أن يبيع بيته لضيق حاله وطلب ألف دينارٍ ثمناً له، فقال له أحدهم أن البيت لا يستحق هذا الثمن بل نصفه، فأجاب: "بلى البيت لا يستحق أكثر من خمسمائة دينار، لكني أبيعه بألف؛ خمسمائة دينار ثمن البيت وخمسمائة دينارٍ ثمن جوار أبي دلف، وقد ورد في التراث عدد من القصص

قيم اجتماعية راقية ... ١ _ بر الوالدين بقلم :محمد أبوغدير المحامي



الوالدان هما سبب وجود الأبناء في الحياة وهما سبب سعادتهم ، فكم سهرت الأم في تربية أبنائها ورعايتهم ، وكم شقي الأب وتعب لكسب الرزق الحلال وجمع المال من أجل إطعام الأبناء وكسوتهم وتعليمهم ومساعدتهم على تحقيق أحلامهم .
لذلك أمر الله الأبناء بالتعامل مع الوالدين بالإحسان والمعروف حتى ولو كانا مشركين ، وكان بر الوالدين من أجل الأعمال وأعظم حقوق الله على العباد ، وأولى من الجهاد ، وأن البر بالوالدين مستم لا ينتهي بموتهما أو بموت أحدهما ، بل يستمر ما استمرت حياة الإبن .
لذلك كان من الأهمية بشان دراسة بر الوالدين ان نقف على مفهومه في اللغة وما اصطلح عليه العلماء ، ونبين منزلته في الإسلام ، وبيان أن بر الوالدين يبدأ بحسن صحبة الوالد ولا ينتهي بموته وإنما تمتد البر حتى بعد وفاته ، وذلك يستوجب بيان الوسائل المتعددة للتعاون مع الوالدين وبرهما بعد موتهما ، وأخيرا نعرض لصور ناصعة لبر السلف لوالديهم ، وإليك بيان ما سبق .

أولا : مفهوم بر الوالدين ومنزلته في الإسلام :

أ - معنى كلمة البرّ في اللغة:

أيّ الفضل والخير، من بَرَّ، يَبَرُّ بِرّا، والبارّ هو التقيّ أو الصادق، والبرّّ عكس العقوق،

وبرّ الوالدين: يعني إحسان الطاعة إليهم والرفق يهما

ب – معنى بر الوالدين في الاصطلاح:

هو الاعتناء بأمر الوالدين، والقيام بمصالحهما من حيث خدمتهما، وقضاء الدين عنهما، والنفقة عليهما، وغير ذلك من الأمور الدينية والحياتيّة.

ج - برّ الوالدين في الإسلام

مكانة الوالدين عظيمة في الإسلام إذ أوجب برّ الوالدين ومصاحبتهما بالمعروف والاحسان إليهما، حتّى لو أمروا أولادهما بالشرك بالله ، ومن يقوم بهذا العمل العظيم ينال الأجر من الله سبحانه وتعالى .

 . 1 يعتبرّ برّ الوالدين من أعظم حقوق الله على العباد :
حيث أمر الله عزّ وجل عباده برعاية الوالدين ، فقد جعل سبحانه وتعالى البرّ المرتبة الثانية بعد حقه في التوحيد ، ودليل ذلك قوله تعالى : ( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) الإسراء: 233 .

 . 2 أوجب الله على الناس شكره ثم شكر الوالدين :
فقال تعالى: ( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ*وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) لقمان:14-15 .

. 3  بر الوالدين أولى من الجهاد :
من باب إكرام الوالدين وجعل الإسلام رعايتهما جهادًا يعادل الجهاد في سبيل الله ، فلا يخرج أحد إلى القتال وأبواه أو أحدهما يحتاج إلى عونه ، روى أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يبايعه على الجهاد والقتال ، فسأله النبي صلى الله عليه و سلم هل من والديك أحد ؟ قال الرجل : كلاهما حي يا رسول الله ، قال -صلى الله عليه و سلم- : ( ارجع إلى والديك وأحسن صحبتهما ) رواه البخارى ومسلم .

 . 4 برّ الوالدين من أفضل الأعمال :
والدليل على ذلك الحديث الشريف، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (سألتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى اللهِ ؟ قالَ الصَّلاةُ على وقتِها قلتُ : ثمَّ أيٌّ ؟ قالَ ثمَّ برّ الوالدينِ قلتُ : ثمَّ أيٌّ ؟ قالَ ثمَّ الجهادُ في سبيلِ اللهِ) صحيح مسلم . استمرار برّ الوالدين في ذرية الإنسان وأولاده من بعده.

ثانيا : بر الوالدين يبدأ ولا ينتهي :

بر الأبناء للوالدين هي الصحبة الحسنة للوالدين في حياتهما ، ولا ينتهي البر بموت الوالدين أو بموت أحدهما ، بل يستمر إلى ما بعد الموت ، تلك الصحبة التي يرضي بها الأبناء ربهم ويرجون بها حسن الثواب في الآخرة .

أ - أول البر حسن الصحبة :

والصحبة تعني السعي الجاد نحو رد الجميل لوالديهما ، والعمل على رعايتهما ، وبخاصة إذا كبرا في السن واحتاجا إلى العون والرعاية ، كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه و سلم ، فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال : أبوك(.
وروي في صحيح الجامع عن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يوصيكم بأمهاتكم , إن الله يوصيكم بأمهاتكم , إن الله يوصيكم بأمهاتكم , إن الله يوصيكم بآبائكم , إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب .
وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر ، قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم-: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" ، قلنا : "بلى يا رسول الله "، قال رسول الله : ( إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ، ووأد البنات ) رواه البخاري
روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن الله عز وجل حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات. . . .   )

ب - بر الوالدين يستمر بعد وفاة الوالدين :

لا ينتهي البر بالوالدين بموتهما أو بموت أحدهما ، بل يستمر إلى ما بعد الموت ، ويكون بالاستغفار لهما ، والوفاء بالعهود والمواثيق التي عقداها في حياتهما وإكرام أصدقائهما وصلة أرحامهما .
روي إن رجلاً جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه و سلم- فقال : يا رسول الله هل بقى من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ( نعم الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما ) مسند أحمد .

ثالثا : وسائل التعاون مع الوالدين وبرهما بعد موتهما :

إن التضحيات العظيمة التي يقدمها الآباء لابد أن يقابلها التزامات من الأبناء يتحقق بها هي التعاون معهما وبرهما والإحسان اليهما في حياتهما وبعد مماتهما وبيان ذلك في الآتي :

أ - آداب التعاون مع الوالدين :

. 1  اهتمام الأبناء بالوالدين وقضاء حوائجهما ، كما اعتنيا بأبنائهم واستجابا لكل طلباتهم من قبل ، وكذلك معاملتهما بإحسان كما قال تعالى : ( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) الإسراء: 233 .

. 2  مشاركة الوالدين في أمور الأبناء ، وليستشعر الأبناء أنهم لازالوا في حاجة إلى والديهم وأنهما ذو قيمة عظيمة وعالية لدى الأبناء ، وأن يشكروا صنيع الوالدين ، كم قال الله تعالى : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) لقمان:14 .

. 3  أن يتحمل الأبناء نقد الوالدين لهم مهما كان عنيفا أو قاسيا ، ولا تعاملهما الند بالند ، وليعلم الأبناء أن ما وصلوا إليه من مكانة كان بفضل الوالدين ولا تغتروا بأنفسهم ، ولا يستخفوا برأي أسداه إليه الآباء ولا يسخروا منه وأن يحترموا أقوال الآباء حتى لو لم يكن سديدا .

. 4  وعلى الأبناء أن يراعوا مشاعر الوالدين ، وإياهم أن يعاملوا آبائهم بخشونة ، أو أن يرفعوا صوتهم عليهم - وخاصة عند كبر سنهم - حتى لا يشعروا بالإحباط ، كما يقول تعالى  واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ( .

. 5  وعلى الأبناء عند حديث الوالدين لهما أن لا ينشغلوا بهواتفهم أو أي مؤثر خارجي عن سماعهم للوالدين ، حتى لا يشعرا بعدم اهتمام الأبناء بقولهم ، لأن ذلك يحزنهم ، كما يقول تعالى : ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ( .

 . 6 وطاعة الأبناء للوالدين فيما يأمران واجبة ، وذلك بالقدر الذي لا يلحق بالأبناء ضرراً، ولا يتضمن معصية الله تعالى ، وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ) لقمان : 15 .

. 7  الدعاء لهما في حياتهما : يأمر الله بذلك فيقول سبحانه : ( وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) 24 الإسراء .
ومن دعاء نوح عليه السلام : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَاراً ) نوح:28 .

ب - برّ الوالدين بعد موتهما :

ولا ينقطع البر للوالدين بموتهما ، إنما يمتد ليشمل الاستغفار لهما ، والدعاء لهما بالرّحمة والمغفرة ، يقضي ما عليهما من ديون أو نذور ، وأن ينفّذ وصيّتهما ، وبيان ذلك في الآتي :

. 1  أن يكثر من الاستغفار لوالديه :وذلك لقول الله سبحانه وتعالى في ذكر دعاء إبراهيم : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) سورة إبراهيم، 40-41 .
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إنّ الله ليرفع الدّرجة للعبد الصّالح في الجنّة، فيقول: يا ربّ أنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك) رواه أحمد .

. 2  أن يدعو لهما بالرّحمة والمغفرة ، وما شاء من الأدعية، وذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له) رواه مسلم والترمذي .

 . 3 أن يقضي ما عليهما من ديون أو نذور ، وذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (نفس المؤمن معلقة بدَينه، حتّى يقضى عنه) رواه أحمد ، ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال: (يغفر للشهيد كلّ شيء إلا الدّين) رواه مسلم .
وأن يقضي ما عليهما من نذور، مثل نذر الصّيام، أو الحجّ، أو العمرة، أو غير ذلك ممّا يمكن للمسلم أن ينوب عن غيره فيه.

 . 4 أن يقضي ما عليهما من كفارة القتل الخطأ، أو اليمين، أو غير ذلك ، لأنّ هذه الواجبات تدخل في قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه: ( أنّ امرأة نذرت أن تصوم شهراً، فلم تصم حتّى ماتت، فجاءت قرابة لها ، إمّا أختها أو ابنتها إلى النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - فذكرت ذلك له، فقال : أرأيتك لو كان عليها دَين كنتِ تقضينه؟ قالت : نعم، قال: فدَين الله أحقُّ أن يقضى ) متفق عليه .

. 5  أن ينفّذ وصيّتهما إن كان لهما وصيّة، والوصيّة تكون بمقدار الثّلث أو أقلّ، ويجب تنفيذ هذه الوصيّة.

 . 6 أن يصل الأرحام التي توصل إلا عن طريقهما ، وذلك لحديث أبي بردة رضي الله عنه قال: (قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر، فقال: أتدري لِمَ أتيتك؟ قال: قلت: لا، قال: سمعت رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - يقول: من أحبّ أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده، وإنّه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاءٌ ووُدٌّ، فأحببت أن أصل ذاك) رواه ابن حبّان .

 . 7 أن يكرم أصدقاءهما بعد موتهما ، وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - أنّه قال: (إنّ أبرَّ البرّ صلةُ الولدِ أهلَ وُدِّ أبيه) رواه مسلم. أن يتصدّق عنهما، وذلك لحديث سعد بن عبادة رضي الله عنه، أنّ أمّه توفيت، فقال: (يا رسول الله! إنّ أُمي تُوفِّيتْ وأنا غائب عنها، أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال: نعم، قال: فإنّي أشهِدُك أنّ حائطي المخراف صدقةٌ عليها) متفق عليه .

رابعا : صور ناصعة لبر السلف لوالديهم:

كان السلف الصالح من هذه الأمة أحرص الناس على البر بوالديهم ، ومن ذلك الآتي  :

. 1  كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه فقال : السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته ، فتقول: وعليك السلام يا ولدي ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرا ، فتقول : رحمك الله كما بررتني كبيراً.

. 2  أما عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقد طلبت والدته في إحدى الليالي ماء ، فذهب ليجيء بالماء ، فلما جاء وجدها نائمة ، فوقف بالماء عند رأسها حتى الصباح ، فلم يوقظها خشية إزعاجها ، ولم يذهب خشية أن تستيقظ فتطلب الماء فلا تجده .

. 3  ابنُ الحسن التميمي رحمه الله يهمُّ بقتل عقرب، فلم يدركها حتى دخلت في جحر في المنزل، فأدخل يده خلفها وسد الجحر بأصابعه فلدغته ، فقيل له : لم فعلت ذلك؟ قال: خفت أن تخرج فتجيء إلى أمي فتلدغها.

. 4  أما ابن عون المزني نادته أمه يوماً فأجابها وقد علا صوتُه صوتَها ليسمعها، فندم على ذلك وأعتق رقبتين.

. 5  روي أن أسامة بن زيد كان له نخل بالمدينة ، وكانت النخلة تبلغ نحو ألف دينار ، وفى أحد الأيام اشتهت أمه الجمار ، وهو الجزء الرطب في قلب النخلة ، فقطع نخلة مثمرة ليطعمها جمارها ، فلما سئل في ذلك قال : ليس شيء من الدنيا تطلبه أمي أقدر عليه إلا فعلته .

. 6  وروي أن على بن الحسين كان كثير البر بأمه ، ومع ذلك لم يكن يأكل معهما في إناء واحد ، فسئل : إنك من أبر الناس بأمك ، ولا نراك تأكل معها ؟! فقال : أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها ، فأكون قد عققتها .

الخاتمة :
وخلاصة ما سبق أن الله تعالى حث على بر الوالدين بعد الإيمان به سبحانه ، وجعله من أفضل الأعمال و أعظم حقوق الله على العباد وأنه أولى من الجهاد ،
وأن الإسلام يربى الابن على البر صغيرا وببلوغ يفرض عليه ولا ينتهي البر بموت الوالد بل يستمر ،
وحدد الإسلام آداب التعاون مع الوالدين ، ووسائل البر والإحسان وفي حياتهما بطاعتهما والتواضع لهما ومعاملتهما برفق ولين ، الدعاء لهما في حياتهما ، إحسان التعامل معهما حال كبرهما ، وبرهما بعد موتهما بإكثار الاستغفار لهما وأن يدعو لهما بالرّحمة ، وأن يقضي ما عليهما من ديون أو نذور أو كفارات ، أن ينفّذ وصيّتهما ، وأن يكرم أصدقاءهما ويصل الأرحام التي توصل إلا عن طريقهما .

سنة الإستبدال بقلم : محمد أبوغدير المحامي



قال الله تعالى : ( وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ) من الآية 38 سورة محمد :

إن لله عز وجل سننًا لا تتبدل ولا تتخلف بإذن الله، هذه السنن من أهم دعائم بقاء الأمم واستمرارها وتمكنها وظهورها، وهذه السنن لا تعرف جورًا ولا محاباة، فهي جارية على خلق الله جميعًا، مؤمنهم وكافرهم، فأيما أمة أو جماعة أو أفراد استوفوا شروطها وعملوا بمقتضياتها جرت عليهم السنن، وجودًا وعدمًا، سلبًا وإيجابًا .

ومن أعظم هذه السنن سنة الاستبدال، التي جعلها الله عز وجل لحفظ دينه ونصرة شريعته ، وسنة الاستبدال وثيقة الصلة بوظيفة أمة الإسلام، أمة الرسالة الخاتمة،التي شرفها الله عز وجل وخصها في حمل خاتم رسالاته  وإبلاغها للبشرية لقوله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) آل عمران:110 .

فإذا فقدت الأمة المسلمة صفات أمة الرسالة الخالدة، وأصبحوا غير مؤهلين لها، فهمًا ووعيًا وعملًا ودعوةً وجهادًا وصبرًا وهمة؛ يستبدلهم الله بقوم آخرين، ويفقدون بذلك ريادة العالم وقيادته فأصبحوا ذيلًا بعد أن كانوا رأسًا ،تحقيقًا لسنة الله عز وجل : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) محمد:38

أولا : السنن مفهومها وخصائصها وأهمية دراستها :

أ - مفهوم السنن :

1 .   تعريف السنن في اللفة :

قال الراغب الأصفهاني :" السنن جمع سُنّة, وسنة الوجه : طريقته, وسنة النبي طريقته التي كان يتحراها, وسنة الله قد تقال لطريقة حكمته وطريقة طاعته نحو قول الله تعالى : ( سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) الفتح : 23

2 .  تعريف السنن اصطلاحا :

قال أبو البقاء : السنة شرعا اسم للطريقة المرضية المسلوكة في الدين من غير افتراض ولا وجوب ،

والمراد بالمسلوكة في الدين ما سلكها رسول الله أو غيره ، لقوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ).

ب -  أنواع السنن الإلهية

للسنن الإلهية أنواع كثيرة منها :

1. سنة التغيير: قال تعالى ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) سورة الرعد11.

2. سنة المداولة: قال الله تعالى: ( وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) سورة آل عمران140.

3. سنة التدافع: قال تعالى (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ) سورة البقرة251 .

4. سنة العقوبات : كما قال تعالى: ( فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ )  سورة العنكبوت40

5. سنة الإصلاح : قال تعالى ( إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) سورة هود88 .

ج - خصائص السنن الإلهية :

للسنن الإلهية خصائص ثلاث هي :

1 .  الثبات: أي لا تتبدل ولا  لقوله تعالى﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ فاطر : 43.

2 .  العموم: أي أنها تشمل كل البشر والخلائق دون استثناء وبلا محاباة: لقوله تعالى﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا﴾ النساء 123.

 3 .  الاطراد : أي التكرار أينما وجدت الظروف المناسبة مكانا وزمانا وأشخاصا لقوله تعالى  : ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ﴾ آل عمران 138 .

د – أهمية دراسة السنن الإلهية:

 1 - دراسة السنن الإلهية فريضة شرعية وضرورة واقعية :فقد تضمن كتاب الله تعالى الكثير من أحوال الخلق وطبائعهم والسنن الإلهية في البشر وفي الآفاق والأنفس ، وعن آياته في السماوات والأرض ، وأمرنا بالنظر والتفكر فيها، الامر الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا .

 2 - وبها نفهم التاريخ ونحلل أحداثه  :فمن خلالها تعرف عوامل البناء والهدم ، والخوف والأمن ، الإستقرار الإضمحلال والسقوط  .

3 -  وهي من أسباب النصر والتمكين والفلاح ، كما له سنن في التغيير والاستبدال وفي والنظر إليها اطمئنان إلى وعد الله تعالى بنصر المؤمنين ، وبالتدمير على المعاندين .

 4 - وسيلة لاجتماع الكلمة ووحدة للصف ، لما فيها ما يعين على الخروج من الاختلاف والنزاع والتشتت ، والوصول إلى آفاق العلم الذي لا جدال فيه ولا اختلاف معه .

5 - ففي السير على هداها تحقيق لمعنى الاستخلاف في الأرض بمعرفة شروطه وأحكامها وموانع حدوثه، ويجعلنا قادرين على نستخير الواقع لصالحنا والاستفادة منه ، مما ييسر لنا مهمة الاستخلاف في الأرض وبناء الحضارة.

ثانيا : مفهوم الإستبدال :

أ - معنى الاستبدال في اللفة :

الباء والدال واللام هي الحروف الأصلية في كلمة الإستبدال وهي تعني في اللغة ترجيح شيء على شيء آخر
وقيل معناه أيضا : جعل شيء مكان شيء آخر ، سواء كان ذلك المجعول عوضاً أم لم يكن ، فجعل المال مكان الدار التي تشتريها استبدال، وهكذا.

ب - معنى الاستبدال في الاصطلاح :

مفهوم هذه السنة : أن المجتمع الذي يترك مسؤولياته ويبتعد عن أوامر الله تعالى فسوف يستبدله الله بغيره ممن يحملون المسؤولية وأعباء الرسالة الإلهية .

أو هو بإختصار شديد : تبديل قوم بآخرين أفضل منهم ، لحمل أعباء الرسالة الإلهية ،

ج - الاستبدال في القرآن الكريم :

ورد في القرآن العديد من الآيات التي تتحدّث عن الاستبدال كفعل منسوبٍ إلى الله تعالى، ومفعوله هو المسلمون من خلال تبصرته سبحانه وتعالى للمسلمين أنهم أحد الأسباب التي تمرّ من خلالها المشيئة الإلهيّة التي لا بدّ من أن تتحقّق ، وليس السبب الوحيدة لتحقيق إرادة الله تعالى ، ومن هذه الآيات :

 1 -  قوله تعالى: ﴿هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ سورة محمد :الآية 38.

  2 - وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ سورة التوبة الآية 39.
وكلتا الآيتين وردت في سياق التحريض على نصرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحثّ المسلمين على الإمساك براية التوحيد بقوّة.

 3 -  وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ سورة المائدة 54.
وهذه الآية أتت بقانون عام يحمل إنذاراً لجميع المسلمين، فأكّدت أنّ من يرتد عن دينه فهو لن يضر اللّه بارتداده هذا أبداً، ولن يضرّ الدين ولا المجتمع الإسلاميّ أو تقدّمه السريع، لأنّ اللّه كفيل باستبدالهم بغيرهم ممن تتوافر فيهم السمات الواردة في الآية السالف ذكرها .

ثالثا : أسباب الإستبدال :

1 . الارتداد عن دين الله :

وهذا السبب متعلق بالجانب العقائدي ، قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )  سورة المائدة 54. فالآية الكريمة تحذر أن كل من يرتد عن دين الله تعالى والإيمان الصادق به وبتعاليمه وبأنبيائه ورسله؛ فلا يطيعه في أمره ولا يلتزم بأحكامه ولا يعمل بإرادته؛ بل يستغني ويتولى معرضًا عن الدين الحنيف والملة الحقة، فسوف يستبدل الله به من هو أحق منه بهذه المَكْرُمة .
والإستبدال لا يحدث بسبب الخروج عن جميع أركان الإيمان أو الإسلام ، وإنما يكفي فقط إهمال الأمة لركن واحد من هذه الأركان لتكون مرتدة ؛ لأن هذه الأركان مرتبطة ببعضها البعض ويستحيل أن تنفك .

2 . ترك تعاليم الله وشريعته ومنها الانفاق في سبيل الله :

قال الله تعالى : ( هَا أَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ) محمد 38 ،
وهذا السبب متعلق بالجانب السلوكي، وهذا هو حال الأعم الأغلب للأمة الإسلامية فالكثير من مفردات الشريعة الاسلامية من عبادات ومعاملات أصبحت مغيبة و لا أثر لها وهذا سبب حي وجوهري للإستبدال .

3  . ترك جهاد أعداء الله :

قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير ) التوبة 39 ، 40
يقول السيد قطب في ظلال القرآن : وما يحجم ذو عقيد عن النفرة للجهاد في سبيله، إلا وفي هذه العقيدة دخل، وفي إيمان صاحبها بها وهن ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من شعب النفاق) ، والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة ، فهو كذلك عذاب الدنيا ، عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والتضحية، وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل.

4 . فقدان صفات أمة الرسالة الخالدة:

أمة الإسلام هي أمة الرسالة الخاتمة، التي شرفها الله عز وجل وخصها في حمل خاتم رسالاته، وإبلاغها للبشرية: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ }  سورة آل عمران:110.
فإذا فقدت الأمة المسلمة صفات أمة الرسالة الخالدة، وأصبحوا غير مؤهلين لها، فهمًا ووعيًا وعملًا ودعوةً وجهادًا وصبرًا وهمة؛ يستبدلهم الله بقوم آخرين، ويفقدون بذلك ريادة العالم وقيادته، تحقيقًا لسنة الله عز وجل لقوله تعالى: { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ْ} محمد:38 .

5 . حب الدنيا وكراهية الموت:

وحب الدنيا أن يتمسك الإنسان بالدنيا ويحبها ويرتبط بها، ويكره أن يموت، ويكره لقاء الله عز وجل والموت والشهادة في سبيل الله عز وجل، فإذا وصلت الأمة إلى هذه الحالة كانت النكبات والكوارث والمصائب على رأسها، فالدنيا خطيرة وكانت سنة الإستبدال .
أخرج أبو داود رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه وأرضاه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها»، قالوا: «أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟!»، قال: «لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة منكم من قلوب أعدائكم، وليلقين في قلوبكم الوهن»، قالوا : ( وما الوهن يا رسول الله؟»، قال صلى الله عليه وسلم: «حب الدنيا وكراهية الموت )   .

رابعا : سمات المجتمع البديل الذي سيتحمل أعباء الرسالة :

قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) الآية 54 من سورة المائدة ، الآية فيها رسالة للمؤمنين، مفادها أنَّ من يترك الصف المسلم فيرتد وينكص على عقبيه، فإنَّ الله عزَّ وجل سيبدل هذا الصف بأناس أكثر رسوخاً وإيماناً، وأكثر قوّةً وجهاداً ، وقد وصف القرآن الكريم فئة جيل النَّصر بست صفات هي :

 1 - محبَّة الله لهم  :

فمحبَّة الله هي أسمى نعمة يتوق لها المؤمنون ويتطلعون إليها، والمؤمن الحق لا يبغي أجراً من الناس، بل يتشوّق لنيل رضا الله عليه، فهل هناك أسمى وأكرم من محبَّة الله لعباده المؤمنين!! ، ومن علامات المحبَّة أنَّ الله تعالى يوفقهم لأداء الطَّاعات، وييسر لهم الخيرات ، كما أنَّه يحسن لهم الثواب ويرضى عنهم ويثني عليهم ، ويختارهم للقيام بواجب الإصلاح والتغيير، والسّعي لاستئناف حكم الله في الأرض، رغم ما يتعرَّضون له

2 -  محبتهم لله تعالى:

ومحبَّة المؤمنين لله تعالى هي السبب الذي يستجلب محبَّة الله التي تحدثنا عنها، ومن مظاهرها: التوجه إليه وحده بالعبادة والمداومة عليها، واتّباع نبيّه صلَّى الله عليه وسلَّم في كلِّ تعاليم الدين برغبة وشوق دون ملل أو ضجر. ويبتغون مرضات الله ولا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقوبته، وحبّهم لله نابع من عقولهم، ثمَّ يتسامى إلى جوارحهم وعواطفهم، فعندها يجعلون حياتهم لله . قال تعالى : {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} التوبة: 24.

3 - التَّذلّل للمؤمنين:

فقد وصفهم الله بأنَّهم أذلة لإخوانهم المؤمنين، وهو وصف للمبالغة في حبّهم لهم ورفقهم ولين جانبهم. فهم لا يستعلون أو يتكبرون عليهم، بل هم رحماء فيما بينهم، يضربون أروع الأمثلة على وحدة الصف المسلم وتماسكه، ووحدته وقوة تواده وتراحمه، فذلة المؤمن لأخيه المؤمن ترفع منزلته وتعلي شأنه، لأنَّ التَّواضع للمؤمنين يعني الرّفعة وعلو الشَّأن.

 4 - العزَّة على الكافرين:

فهم أشداء على الكفَّار، ينظرون إليهم نظرة العزيز الغالب، وليس الضَّعيف الخانع، لأنَّهم مستعلون بإيمانهم، متوكلين على ربِّهم، ولهذا فهم لا يتنازلون عن ثوابتهم، ولا يستكينون لأعدائهم، ولا يرضون بأن يكونوا حراساً وخدماً لهم، فالمؤمن عزيز قويّ بإيمانه، وبحبه الله وطاعته له.

5 -  الجهاد في سبيل الله:

المؤمنون يجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمته ودينه، وليس للهوى والشيطان وحظ النفس، وهذه من أكثر صفات المؤمنين الصادقين خصوصية ، وأعظم هذا الجهاد بذل النَّفس والمال في سبيل الله، خلافاً للمنافقين، الذين يملؤون السَّاحة صياحاً وتنظيراً لكنَّهم عند الجهاد لا يخرجون، بل يخذلون ويثبطون، وإن خرجوا ففي سبيل منفعتهم ومصلحتهم، مع الحرص على عدم خسارة نفوسهم وأموالهم، .

6 - عدم الخوف من النَّاس:

فهم يقولون كلمة الحق ويجهرون بها، ولا يخافون لومة لائم، مهما كان نوعها، ومن أي كان مصدرها، لأنَّهم لا يخشون إلاَّ الله، وهم قد ضمنوا حبّ ربّ النّاس، فلا يخافون منهم، فدينهم راسخ، وإيمانهم ثابت، وهم لا يعملون رغبة بالجزاء من الناس أو الثناء من قبلهم، بل يعملون لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
إنَّ الصَّفَ المسلم الذي يتحلَّى بهذه الصِّفات العظيمة، هو الذي يجلب النَّصر والعزَّة للأمَّة، وهو الذي يحقّق التَّمكين للدِّين، فيحرّر الأوطان، والإنسان، من ظلم المحتل والمفسد والمستبد وحزب الشيطان.

خامسا : واقع الأمة مع سنة التداول :

وسنة الإستبدال - على النحو السالف بيانه - أنه إذا فقدت الأمة المسلمة صفات أمة الرسالة الخالدة، وأصبحوا غير مؤهلين لها، فهمًا ووعيًا وعملًا ودعوةً وجهادًا وصبرًا وهمة؛ يستبدلهم الله بقوم آخرين، ويفقدون بذلك ريادة العالم وقيادته، ويصبحوا ذيلًا بعد أن كانوا رأسًا، تحقيقًا لسنة الله عز وجل: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} محمد:38.

ولقد فرطت الدول العربية والإسلامية في مجدها وحضارتها الإسلامية ، فسقطت الخلافة ، وتربصت الدول الكبرى الصليبية والصهيونية بموجب معاهدات سرية أو علنية أبرمتها مع حكام عرب ومسلمين ضعفاء وعملاء ، كان ظاهر هذه الاتفاقيات التعاون وباطنها التهاون ، فتربص الحكام الظلمة بتوجيهات هذه الدول بهويتنا الإسلامية وأمتنا الدوائر .

وهنالك تقارير معاصرة صدرت يتضح منها بوضوح تام أنَّ أعداء الإسلام يريدون محق الهوية الإسلامية الصحيحة وإزالتها، فلقد ثبت أن أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل عام 1967 في محاضرة له بجامعة بريستون الأمريكية قال : ( يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة، وفي ذلك الخطر الحقيقي على إسرائيل، ولذا كان من أول واجباتنا أن نبقي العرب على يقين راسخ بنسبهم القومي لا الإسلامي ) ، وأن الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون قال في مذكِّراته : ( ليس أمامنا بالنسبة للمسلمين إلاَّ أحد حلَّين : الأول : تقتيلهم والقضاء عليهم ، والثاني : تذويبهم في المجتمعات الأخرى المدنيَّة العلمانيَّة  .

لقد أخبرنا القرآن عن أعداء الإسلام بقوله : (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة)، فلا غرابة أن نرى سعيهم الحثيث للقضاء على الإسلام ، فلا غرابة أن يقع ذلك بإيعاز من منافقين عرب اتخذوهم أولياء من دون المؤمنين، وبتحريض منهم نحيت الشريعة الإسلامية والحكم عن مناحي الحياة ، وحورب الدعاة إلى الله والمصلحون فقتل بعضهم غيلة وألقوا جلهم في السجون بلا جريرة ، وقام الطغاة المستبدين بإذلال الشعوب وحرمانهم من حقوقهم وحرياتهم ، فلم يعد لهم صوت يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر  ، فصدق المولى سبحانه حيث قال : ( بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً..) النساء/ 138، 139.

وتبقى الحقيقة أن هذا الدين ماضٍ في طريقه ليحدث الله تعالى الغالب في الأرض ما شاء من أقدار ، يتشرف بنصره من شاء الله له الرفعة ، ويخذل عنه وعن نصره من سقط من عين الله تعالى ، فعندما يسقط من يسقط ويتراجع من يتراجع يتولى الله تعالى يستبدل الله بآخر، ليبقى للحق مدافعوه ، ويبقى الباطل في حال انزعاجٍ دائمٍ مِن كَرِّ الحق عليه، هذه هي حقيقة الأمور حتى لو بدا لوهلة أن الباطل مطمئن ، ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) الأنبياء:18 .

فالأمان أن يقف المؤمن في جانب الحق حتى لو بدا ضعيفاً أو منكسرًا إلى حين ، فكل هذه الموازين مؤقتة والأمور تتغير، وسنة الله باقية : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )  سورة المائدة 54.

من الأخلاق الراقية ... ٤ _' التـقـوى بقلم : محمد أبوغدير المحامي



التقوى من درر الأخلاق الإسلامية الراقية ، فهي زاد القلوب والأرواح به تقتات وتتقوى وعليه تستند في الوصول والنجاة ، وبها يتقي المسلم غضب الله وسخطه وعقابه وقاية تقيه ، وهي تشمير للطاعة، ونظر في الحلال والحرام ، وورع من الزلل، ومخافة وخشية من الكبير المتعال سبحانه

وتقوى المؤمن مفتاحٌ لكلّ خير، ومنبعٌ المكارم والفضائل، وهي زاده يوم يلقى ربه، فإذا تخلق بها في حياتها لدنيا فإنّها لا تحجزه عن محارم الله فقط وتبعثه على فعل الطاعات بمثابة شجرةٍ في قلب العبد متى أينعت عمّت بركة ثمارها عليه في دنياه وآخرته، وإنّما سيترك الكثير من أمور الحلال خشية الوقوع في الحرام .

 قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) 29 : الأنفال

لذلك ينبغي على المؤمن أن يعي معنى التقوى لغةً واصطلاحًا ومن أقوال علماء السلف ، ويتدبر آيات الله تعالى ليقف على مفهومها في القرآن ، ويتعرف على صفات المتقين فيسعى جاهدا بالتحلي بهذي الصفات الجليلة ، ومن تم ينال ثمراتها وفوائدها ، وفي هذه السطور بيان لذلك من خلال الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح .

أولا : مفهوم التقوى :

وذلك من حيث تعريف التقوى لغة ، واصطلاحا ، وعند علماء السـلف :

أ - التقوى لغة  :

وردت كلمة التقوى في معجم لسان العرب بمعنى الوقاية والصيانة والحذر والحماية .

ب - التقوى اصطلاحا :

1 . هي :أن تجعل ما بينك وبين ما حرم ألله حاجباً وحاجزاً .

2 . وهي : أن يجعل المسلم بينه وبين غضب الله وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك ، بامتثال أوامر الله واجتناب النواهي .

  3. وهي كذالك : زاد القلوب والأرواح فبها تقتات وبه تتقوى وعليها تستند في الوصول والنجاة .

ج - تعريف التقوى عند علماء السلف  :

1 . عرف علي بن أبي طالب التقوى فقال : هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل .

 2 . وقد سأل عمر رضي الله عنه أُبَي بن كعب فقال له: ما التقوى؟ فقال أُبَي : يا أمير المؤمنين أما سلكت طريقاً فيه شوك؟ قال: نعم.. قال: ما فعلت؟ ، قال عمر : أشمّر عن ساقي وأنظر إلى مواضع قدمي وأقدم قدما وأؤخر أخرى مخافة أن تصيبني شوكة ، فقال أُبَي بن كعب: تلك التقوى..!

3 . قال ابن القيم – رحمه الله – في التقوى في تعريفها الشرعي: حقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً أمراً ونهياً، فيفعل ما أمر الله به إيماناً بالآمر وتصديقاً بوعده ، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالناهي وخوفاً من وعيده.

ثانيا : مفهوم التقوى في القرآن :

والتقوى تُطلَق في القرآن الكريم على عدد من المعاني  منها : الخشية والهيبة ، الطاعة والعبادة ، التنزه عن الذنوب ، وبيان ذلك في الآتي :

 1 - تأتي بمعنى الخشية والهيبة :
كما قال تعالى : ( وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) البقرة: 41، أي اخشوني وهابوني، وكذلك في قوله : (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون ) البقرة : 281 ، أي خافوا هذا اليوم وما فيه ( ويخافون يوماً كان شره مستطيرا )

2 . تأتي بمعنى الطاعة والعبادة :
كقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ) البقرة : 102 ،  يعني أطيعوه حق الطاعة واعبدوه حق العبادة ، وهو قول مجاهد : أن يطاع فلا يُعصَى وأن يُذكر فلا يُنسى وأن يُشكر فلا يُكفَر .

3 -  تطلق على التنزه عن الذنوب:
 هي الحقيقة في تعريف التقوى في الاصطلاح ، قال عز وجل :)  ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ( النور : 25، فذكر الطاعة والخشية ثم ذكر التقوى بعدها يعلمنا أن حقيقة التقوى شيء إضافي غير الطاعة والخشية في هذا النص وهو تنزيه القلب عن كل قبيح.

ثالثا: صفات المتقين :

وصف الله تعالى المتقين في القرآن الكريم بصفات كثيرة منها أنهم  يؤمنون بالغيب إيماناً جازماً، ويعظمون شعائر الله، ولا يقترفون الكبائر ولا يصرون على الصغائر، ويتحرون العدل ويحكمون به، يدعون ما لا بأس به حذراً مما به بأس، يعفون ويصفحون، ويتبعون الصادقين من الأنبياء والمصلحين، وبيان ذلك في الآتي :

 1 . الإيمان بالغيب إيماناً جازماً :
قال الله تعالى : ( هدىً للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) البقرة : 2 .

2 . يعظمون شعائر الله:
قال الله تعالى: ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب(  الحج : 32. 

 3 . لا يقترفون الكبائر ولا يصرون على الصغائر:
وإذا وقعوا في ذنب سارعوا إلى التوبة منه ، قال الله تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} سورة الأعراف :201  ، سارعوا مباشرة إلى التوبة والإنابة إذا أصابتهم صغيرة.

 4 . يتحرون العدل ويحكمون به :
قال الله تعالى : { ولا يجرمنّكم شنآن قوم ٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} ، المائدة : 8 ، رغم نزول هذه الآية في المشركين يبرون وهم مبغضون لأجل شركهم وكفرهم ومع ذلك أمرنا الله أن نعدل فيهم.

5 .  يتحرون الصّدق في الأقوال والأعمال
 : قال الله تعالى : { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} الزمر 33 ، الذي جاء بالصدق هو محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي صدق به قيل هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه .{ أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} البقرة 177 ، هذا بيان أن المتقي يصدق.

 6 . يدعون ما لا بأس به حذراً مما به بأس:
روى الترمذي وأحمد وابن حبان عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك  ) ،
وتمام التقوى أن تتقي الله حتى تترك أحياناً ما ترى بعض الحلال خشية أن تكون حراماً، النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى تمرة فيريد أن يأكلها فيتركها لأنه يخشى أن تكون سقطت من تمر الصدقة .

7 . يعفون ويصفحون:
قال الله تعالى : ) وأن تعفوا أقرب للتقوى(  البقرة  : 237 .

 8 . المتقون يتبعون الصادقين من الأنبياء والمصلحين :
قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} التوبة: 119  ، فأهل الصدق هم أصحاب المتقين وإخوانهم ورفقاءهم وأهل جلوسهم وروّاد منتدياتهم.

رابعا : ثمرات وفوائد التقوى :

إنَّ الله تعالى أكرم أهل التَّقوى فأسبغ عليهم ثمارًا وفضائل كثيرة نذكر منها ، أنها فرقانً يميِّز به المؤمن بين الحقِّ والباطل ، وهي السبيل إلى رحمة الله وهداه ومغفرته ، وأنها فرج من كل هم وسعة لكل ضيق وتيسير لأموره ، وتكفير السيِّئات وتعظيم الأجور والحسنات ، طريق لنيل ولاية الله ومحبة الله ومعيته ولوراثة الجنة والنجاة من النار ، وبيان ذلك فيما يلي:

 1 . التقوى فرقانا :
أي أنَّ صاحبها يرزقه الله بصيرةً وفرقانًا يميِّز به بين الحقِّ والباطل, والخير والشَّرِّ  ، وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ) الأنفال:28 ، 29 .

 . 2 التقوى سبيل إلى رحمة الله والهدى والمغفرة :
قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) الحديد .
قال ابن القيِّم - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: «ضمن الله تعالى لهم بالتَّقوى ثلاثة أمور: أحدها: أعطاهم نصيبين من رحمته؛ نصيبًا في الدُّنيا, ونصيبًا في الآخرة, وقد يضاعف لهم نصيب الآخرة فيصير نصيبين. الثَّاني: أعطاهم نورًا يمشون به في الظُّلمات. الثَّالث: مغفرة ذنوبهم, وهذه غاية التَّيسير, فقد جعل الله تعالى التَّقوى سببًا لكلِّ يسر, وترك التَّقوى سببًا لكلَ عسير .

 3 . التقوى فرج لكل هم وسعة لكل ضيق وتيسير لأموره :
أنَّ الله تعالى يجعل للمتَّقي من كلِّ همٍّ فرَجًا, ومن كلِّ ضيقٍ سعةً  مخرجًا, ومن كلِّ بلاءٍ عاقبة, ومنها أيضًا تحصيل الرِّزق له, وتيسير الأمور عليه, قال تعالى: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ) سورة الطلاق : 18 .
وقال تعالى: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ) سورة: 4 ،الطلاق ، قال الرَّبيع بن خثيم: «يجعل له مخرجًا من كلِّ ما ضاق على النَّاس».

4. التقوى تكفير السيِّئات وتعظيم الأجور والحسنات :
قال تعالى: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ) الطلاق : آية4 ،5  ، قال ابن كثير: أي يذهب عنه المحذور ، ويجزل له الثَّواب على العمل اليسير .

5 . التقوى طريق لنيل ولاية الله تعالى :-
نيل ولاية الله تعالى الَّتي لا تنال إلاَّ بطاعته وخشيته سبحانه, وتحصل له بها البشرى في الدُّنيا والآخرة, قال تعالى: ( أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ) 62 ، 73 : يونس .
فكلُّ من كان تقيًّا كان لله وليًّا, ومن كان عن التَّقوى متخلِّيًا لم يكن لله وليًّا ولو كان بالدَّعوى متحلِّيًا,  قال تعالى : ( وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) 34 :

6 . التقوى سبيل حسن العاقبة :
حصول العاقبة الحسنة والطَّيِّبة لهم في الدُّنيا والآخرة: لقوله تعالى( وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) 83 : القصص .وإنَّ ثمار التَّقوى كثيرة وغزيرة, ومتنوِّعة متعدِّدة, لا يمكن ذكرها وحصرها في هذا المقال ، وإنَّما ذكرنا بعضها على سبيل المثال حتَّى يحسن بها الامتثال فيسعد صاحبها في الحال والمآل, واللهَ نسأل أن يرزقنا التَّقوى في كلِّ الأحوال

7 . بالتقوى ننال محبة الله ومعيته :-
بالتَّقوى ينال العبد محبَّة الله, ويكون الله معه, قال سبحانه: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) 4 : التوبة , وقال تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) 194 : البقرة .

 8 . التقوى نجاة من النار بعد ورودها:-
نجاة العبد من النَّار بعد الورود عليها يوم القيامة بحيث يرد التَّقيُّ عليها ورودًا ينجو به من عذابها, بينما الظَّالمون يردونها ورودًا يصيرون جثيًّا فيها بسبب الظُّلم ، قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا )71 ، 72 : مريم .

9 .  التقوى سبب لوراثة الجنة :
أنَّها تكون سببَ كونه من ورثة جنَّة النَّعيم, قال تعالى: ( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ) 63 : مريم .

خامسا : قصص عن تقوى الصالحين :

 1. قال رسول الله صلى الله عليه  ) اشترى رجل من رجل عقاراً فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب فقال له الذي اشترى العقار : خذ ذهبك إنما اشتريت منك الأرض ولم أشتر الذهب ، وقال الذي له الأرض إنما بعتك الأرض وما فيها ، فتحاكما إلى رجل ، فقال الذي تحاكما إليه : ألكما ولد ؟ قال أحدهما : لي غلام ، وقال الآخر : لي جارية ، قال : أنكحا الغلام الجارية ، وأنفقا على أنفسهما منه ". رواه البخاري ومسلم  .

 2 . عن انس رضي الله عنه قال :" بينما رسول الله جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما : يا رب خذ لي مظلمتي من أخي . فقال الله : كيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء . قال : إن ذلك ليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل من أوزارهم  ، فقال الله للطالب : ارفع بصرك فانظر ، فرفع فقال : يا رب أرى مدائن من ذهب وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق هذا أو لأي شهيد هذا ، قال : لمن أعطى الثمن . قال : يا رب ومن يملك ذلك ؟ قال : أنت تملكه . قال : بماذا ؟ قال : بعفوك عن أخيك  قال : يا رب ، إني قد عفوت عنه . قال الله : فخذ بيد أخيك وأدخله الجنة " . فقال رسول الله عند ذلك :" اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المسلمين " ، رواه الحاكم والبيهقي .

 3 . قال رسول الله صلى الله عليه :( بينما رجل يمشي بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة : اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة ( أرض ذات حجارة سوداء ) فإذا شرجه ( هي مسيل الماء ) من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته فقال له : يا عبد الله ما اسمك قال : فلان ـ للاسم الذي سمع في السحابة ـ فقال له : يا عبد الله لم تسألني عن اسمي . فقال : إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها فقال : أما إذا قلت هذا : فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثاً وأرد فيها ثلثه ). رواه مسلم  .