التقوى من درر الأخلاق الإسلامية الراقية ، فهي زاد القلوب والأرواح به تقتات وتتقوى وعليه تستند في الوصول والنجاة ، وبها يتقي المسلم غضب الله وسخطه وعقابه وقاية تقيه ، وهي تشمير للطاعة، ونظر في الحلال والحرام ، وورع من الزلل، ومخافة وخشية من الكبير المتعال سبحانه
وتقوى المؤمن مفتاحٌ لكلّ خير، ومنبعٌ المكارم والفضائل، وهي زاده يوم يلقى ربه، فإذا تخلق بها في حياتها لدنيا فإنّها لا تحجزه عن محارم الله فقط وتبعثه على فعل الطاعات بمثابة شجرةٍ في قلب العبد متى أينعت عمّت بركة ثمارها عليه في دنياه وآخرته، وإنّما سيترك الكثير من أمور الحلال خشية الوقوع في الحرام .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) 29 : الأنفال
لذلك ينبغي على المؤمن أن يعي معنى التقوى لغةً واصطلاحًا ومن أقوال علماء السلف ، ويتدبر آيات الله تعالى ليقف على مفهومها في القرآن ، ويتعرف على صفات المتقين فيسعى جاهدا بالتحلي بهذي الصفات الجليلة ، ومن تم ينال ثمراتها وفوائدها ، وفي هذه السطور بيان لذلك من خلال الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح .
أولا : مفهوم التقوى :
وذلك من حيث تعريف التقوى لغة ، واصطلاحا ، وعند علماء السـلف :
أ - التقوى لغة :
وردت كلمة التقوى في معجم لسان العرب بمعنى الوقاية والصيانة والحذر والحماية .
ب - التقوى اصطلاحا :
1 . هي :أن تجعل ما بينك وبين ما حرم ألله حاجباً وحاجزاً .
2 . وهي : أن يجعل المسلم بينه وبين غضب الله وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك ، بامتثال أوامر الله واجتناب النواهي .
3. وهي كذالك : زاد القلوب والأرواح فبها تقتات وبه تتقوى وعليها تستند في الوصول والنجاة .
ج - تعريف التقوى عند علماء السلف :
1 . عرف علي بن أبي طالب التقوى فقال : هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل .
2 . وقد سأل عمر رضي الله عنه أُبَي بن كعب فقال له: ما التقوى؟ فقال أُبَي : يا أمير المؤمنين أما سلكت طريقاً فيه شوك؟ قال: نعم.. قال: ما فعلت؟ ، قال عمر : أشمّر عن ساقي وأنظر إلى مواضع قدمي وأقدم قدما وأؤخر أخرى مخافة أن تصيبني شوكة ، فقال أُبَي بن كعب: تلك التقوى..!
3 . قال ابن القيم – رحمه الله – في التقوى في تعريفها الشرعي: حقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً أمراً ونهياً، فيفعل ما أمر الله به إيماناً بالآمر وتصديقاً بوعده ، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالناهي وخوفاً من وعيده.
ثانيا : مفهوم التقوى في القرآن :
والتقوى تُطلَق في القرآن الكريم على عدد من المعاني منها : الخشية والهيبة ، الطاعة والعبادة ، التنزه عن الذنوب ، وبيان ذلك في الآتي :
1 - تأتي بمعنى الخشية والهيبة :
كما قال تعالى : ( وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) البقرة: 41، أي اخشوني وهابوني، وكذلك في قوله : (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون ) البقرة : 281 ، أي خافوا هذا اليوم وما فيه ( ويخافون يوماً كان شره مستطيرا )
2 . تأتي بمعنى الطاعة والعبادة :
كقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ) البقرة : 102 ، يعني أطيعوه حق الطاعة واعبدوه حق العبادة ، وهو قول مجاهد : أن يطاع فلا يُعصَى وأن يُذكر فلا يُنسى وأن يُشكر فلا يُكفَر .
3 - تطلق على التنزه عن الذنوب:
هي الحقيقة في تعريف التقوى في الاصطلاح ، قال عز وجل :) ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ( النور : 25، فذكر الطاعة والخشية ثم ذكر التقوى بعدها يعلمنا أن حقيقة التقوى شيء إضافي غير الطاعة والخشية في هذا النص وهو تنزيه القلب عن كل قبيح.
ثالثا: صفات المتقين :
وصف الله تعالى المتقين في القرآن الكريم بصفات كثيرة منها أنهم يؤمنون بالغيب إيماناً جازماً، ويعظمون شعائر الله، ولا يقترفون الكبائر ولا يصرون على الصغائر، ويتحرون العدل ويحكمون به، يدعون ما لا بأس به حذراً مما به بأس، يعفون ويصفحون، ويتبعون الصادقين من الأنبياء والمصلحين، وبيان ذلك في الآتي :
1 . الإيمان بالغيب إيماناً جازماً :
قال الله تعالى : ( هدىً للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) البقرة : 2 .
2 . يعظمون شعائر الله:
قال الله تعالى: ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب( الحج : 32.
3 . لا يقترفون الكبائر ولا يصرون على الصغائر:
وإذا وقعوا في ذنب سارعوا إلى التوبة منه ، قال الله تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} سورة الأعراف :201 ، سارعوا مباشرة إلى التوبة والإنابة إذا أصابتهم صغيرة.
4 . يتحرون العدل ويحكمون به :
قال الله تعالى : { ولا يجرمنّكم شنآن قوم ٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} ، المائدة : 8 ، رغم نزول هذه الآية في المشركين يبرون وهم مبغضون لأجل شركهم وكفرهم ومع ذلك أمرنا الله أن نعدل فيهم.
5 . يتحرون الصّدق في الأقوال والأعمال
: قال الله تعالى : { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} الزمر 33 ، الذي جاء بالصدق هو محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي صدق به قيل هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه .{ أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} البقرة 177 ، هذا بيان أن المتقي يصدق.
6 . يدعون ما لا بأس به حذراً مما به بأس:
روى الترمذي وأحمد وابن حبان عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) ،
وتمام التقوى أن تتقي الله حتى تترك أحياناً ما ترى بعض الحلال خشية أن تكون حراماً، النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى تمرة فيريد أن يأكلها فيتركها لأنه يخشى أن تكون سقطت من تمر الصدقة .
7 . يعفون ويصفحون:
قال الله تعالى : ) وأن تعفوا أقرب للتقوى( البقرة : 237 .
8 . المتقون يتبعون الصادقين من الأنبياء والمصلحين :
قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} التوبة: 119 ، فأهل الصدق هم أصحاب المتقين وإخوانهم ورفقاءهم وأهل جلوسهم وروّاد منتدياتهم.
رابعا : ثمرات وفوائد التقوى :
إنَّ الله تعالى أكرم أهل التَّقوى فأسبغ عليهم ثمارًا وفضائل كثيرة نذكر منها ، أنها فرقانً يميِّز به المؤمن بين الحقِّ والباطل ، وهي السبيل إلى رحمة الله وهداه ومغفرته ، وأنها فرج من كل هم وسعة لكل ضيق وتيسير لأموره ، وتكفير السيِّئات وتعظيم الأجور والحسنات ، طريق لنيل ولاية الله ومحبة الله ومعيته ولوراثة الجنة والنجاة من النار ، وبيان ذلك فيما يلي:
1 . التقوى فرقانا :
أي أنَّ صاحبها يرزقه الله بصيرةً وفرقانًا يميِّز به بين الحقِّ والباطل, والخير والشَّرِّ ، وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ) الأنفال:28 ، 29 .
. 2 التقوى سبيل إلى رحمة الله والهدى والمغفرة :
قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) الحديد .
قال ابن القيِّم - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: «ضمن الله تعالى لهم بالتَّقوى ثلاثة أمور: أحدها: أعطاهم نصيبين من رحمته؛ نصيبًا في الدُّنيا, ونصيبًا في الآخرة, وقد يضاعف لهم نصيب الآخرة فيصير نصيبين. الثَّاني: أعطاهم نورًا يمشون به في الظُّلمات. الثَّالث: مغفرة ذنوبهم, وهذه غاية التَّيسير, فقد جعل الله تعالى التَّقوى سببًا لكلِّ يسر, وترك التَّقوى سببًا لكلَ عسير .
3 . التقوى فرج لكل هم وسعة لكل ضيق وتيسير لأموره :
أنَّ الله تعالى يجعل للمتَّقي من كلِّ همٍّ فرَجًا, ومن كلِّ ضيقٍ سعةً مخرجًا, ومن كلِّ بلاءٍ عاقبة, ومنها أيضًا تحصيل الرِّزق له, وتيسير الأمور عليه, قال تعالى: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ) سورة الطلاق : 18 .
وقال تعالى: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ) سورة: 4 ،الطلاق ، قال الرَّبيع بن خثيم: «يجعل له مخرجًا من كلِّ ما ضاق على النَّاس».
4. التقوى تكفير السيِّئات وتعظيم الأجور والحسنات :
قال تعالى: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ) الطلاق : آية4 ،5 ، قال ابن كثير: أي يذهب عنه المحذور ، ويجزل له الثَّواب على العمل اليسير .
5 . التقوى طريق لنيل ولاية الله تعالى :-
نيل ولاية الله تعالى الَّتي لا تنال إلاَّ بطاعته وخشيته سبحانه, وتحصل له بها البشرى في الدُّنيا والآخرة, قال تعالى: ( أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ) 62 ، 73 : يونس .
فكلُّ من كان تقيًّا كان لله وليًّا, ومن كان عن التَّقوى متخلِّيًا لم يكن لله وليًّا ولو كان بالدَّعوى متحلِّيًا, قال تعالى : ( وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) 34 :
6 . التقوى سبيل حسن العاقبة :
حصول العاقبة الحسنة والطَّيِّبة لهم في الدُّنيا والآخرة: لقوله تعالى( وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) 83 : القصص .وإنَّ ثمار التَّقوى كثيرة وغزيرة, ومتنوِّعة متعدِّدة, لا يمكن ذكرها وحصرها في هذا المقال ، وإنَّما ذكرنا بعضها على سبيل المثال حتَّى يحسن بها الامتثال فيسعد صاحبها في الحال والمآل, واللهَ نسأل أن يرزقنا التَّقوى في كلِّ الأحوال
7 . بالتقوى ننال محبة الله ومعيته :-
بالتَّقوى ينال العبد محبَّة الله, ويكون الله معه, قال سبحانه: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) 4 : التوبة , وقال تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) 194 : البقرة .
8 . التقوى نجاة من النار بعد ورودها:-
نجاة العبد من النَّار بعد الورود عليها يوم القيامة بحيث يرد التَّقيُّ عليها ورودًا ينجو به من عذابها, بينما الظَّالمون يردونها ورودًا يصيرون جثيًّا فيها بسبب الظُّلم ، قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا )71 ، 72 : مريم .
9 . التقوى سبب لوراثة الجنة :
أنَّها تكون سببَ كونه من ورثة جنَّة النَّعيم, قال تعالى: ( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ) 63 : مريم .
خامسا : قصص عن تقوى الصالحين :
1. قال رسول الله صلى الله عليه ) اشترى رجل من رجل عقاراً فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب فقال له الذي اشترى العقار : خذ ذهبك إنما اشتريت منك الأرض ولم أشتر الذهب ، وقال الذي له الأرض إنما بعتك الأرض وما فيها ، فتحاكما إلى رجل ، فقال الذي تحاكما إليه : ألكما ولد ؟ قال أحدهما : لي غلام ، وقال الآخر : لي جارية ، قال : أنكحا الغلام الجارية ، وأنفقا على أنفسهما منه ". رواه البخاري ومسلم .
2 . عن انس رضي الله عنه قال :" بينما رسول الله جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما : يا رب خذ لي مظلمتي من أخي . فقال الله : كيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء . قال : إن ذلك ليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل من أوزارهم ، فقال الله للطالب : ارفع بصرك فانظر ، فرفع فقال : يا رب أرى مدائن من ذهب وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق هذا أو لأي شهيد هذا ، قال : لمن أعطى الثمن . قال : يا رب ومن يملك ذلك ؟ قال : أنت تملكه . قال : بماذا ؟ قال : بعفوك عن أخيك قال : يا رب ، إني قد عفوت عنه . قال الله : فخذ بيد أخيك وأدخله الجنة " . فقال رسول الله عند ذلك :" اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المسلمين " ، رواه الحاكم والبيهقي .
3 . قال رسول الله صلى الله عليه :( بينما رجل يمشي بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة : اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة ( أرض ذات حجارة سوداء ) فإذا شرجه ( هي مسيل الماء ) من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته فقال له : يا عبد الله ما اسمك قال : فلان ـ للاسم الذي سمع في السحابة ـ فقال له : يا عبد الله لم تسألني عن اسمي . فقال : إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها فقال : أما إذا قلت هذا : فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثاً وأرد فيها ثلثه ). رواه مسلم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق