الورَع خلق راقٍ عظيم, به يرقى الإنسان ويترفّع عن كل خُلق ذميم، فهو يحرُس صاحبَه ويمنعه من الوقوع في المحرمات، أو التقصير والتفريط في أداء الواجبات، ويدفعه إلى اجتناب الشبهات.
وهو طوْق النجاة في الدنيا والآخرة، فإذا غاب من الحياة فإن الإنسان لا يُبالي من أينَ أتَته دُنياه، وبأيّ طريقٍ وصَلَت لُقمتُه، وعلى أيّ حال كانت مُتعته، وعلى أيّ محرّمٍ كانت شهوتُه!
مفهوم الورع
الورع لغة: التَّحَرُّج والكَفُّ عن المحارِم والتحرجّ من ارتكابها, والورِع هو الرجلُ التَّقِي المتَحَرِّج, والقلب الورع هو التقي المتعفف المتحرّج.
والورع اصطلاحًا: عرفه القرافي بقوله: ترك ما لا بأس به؛ حذرًا مما به البأس.
وقيل: هو اجتناب الشبهات خوفًا من الوقوع في المحرمات.
الورع عن علماء السلف: قال المناوي: الورع ترك ما يريبك، ونفي ما يعيبك, وقال ابن القيم: هو ترك ما يخشى ضرره في الآخرة. وقال الجرجاني: هو اجتناب الشبهات خوفا من الوقوع في المحرمات.
وقال يحيى بن معاذ: الورع على وجهين: ورع في الظاهر: أن لا يتحرك الإنسان إلا لله، وورع الباطن: أن لا تدخل قلبك سوى الله.
وصية النبي صلى الله عليه وسلم
جاءت وصايا النبي صلى الله عليه وسلم بمعاني الورع دون لفظه في كثيرة من أحاديثه، منها:
أ – النهي عن المتشابهات: قَالَ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ) أخرجه البخاري ومسلم .
فسّر الإمام أحمد الشبهة بأنها منزلةٌ بين الحلال والحرام، وقال: من اتقاها فقد استبرأ لدينه.
ب – ترك ما لا تطمئن له نفس المؤمن: كقوله صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ: (الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ, وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ) أخرجه مسلم.
والمسلم يجد لصدره انفساحًا، ولفؤاده انشراحًا مع البر ودروبه، ويجد في صدره ضيقًا، وفي قلبه حرجًا حين التلبس بالإثم ودواعيه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» أخرجه أحمد .
ج – ترك المؤمن ما لا يعنيه: قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: «وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة، فقال: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» أخرجه الترمذي وابن ماجه .
فهذا يعم الترك لما لايعني من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.
هـ – التعفف عن الحرام: فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس: اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم» أخرجه ابن الجارود والحاكم .
فضل الورع
للورع فضائل عظيمة وعديدة تضمنتها السنة النبوية:
– إستبراء للدين والعرض: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وَإنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَام » متفق عليه.
-أرقى أنواع العبادة: وليس أدلَّ على ذلك من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه، حيث قال: “يا أبا هريرة كن ورعاً تكن أعبدَ الناس”رواه ابن ماجة.
– من درجات المتقين: عن عطية بن عروة السعدي الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس” رواه الترمذي.
– خير خصال الدين: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع” رواه الطبراني .
– سبيل إلى الثواب: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاث مَنْ كنَّ فيه استوجب الثواب واستكمل الإيمان: خُلُقٌ يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن محارم الله، وحِلم يردُّ به جهل الجاهل” رواه البزار .
– اقتداء بالرسول: عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق فقال: ( لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها ) رواه البخاري ومسلم.
– إيمان وإحسان: عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة! كن ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلمًا، وأقل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب).
وقال صلى الله عليه وسلم: (فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع).
– بالورِع يستجاب الدعاء: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ المؤمنون: 51، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون) البقرة: ١٧٢، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟) أخرجه البخاري ومسلم .
– في الورع اتقاء عذاب الله والفوز برضوانه يوم القيامة: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيأتي أناس من أمتي يوم القيامة نورهم كضوء الشمس»، قلنا من أولئك يا رسول الله؟ فقال: «فقراء المهاجرين، والذين تتقى بهم المكاره، يموت أحدهم وحاجته في صدره، يحشرون من أقطار الأرض» أخرجه أحمد .
درجات الورع
قال الغزالي: الورع على أربع درجات:
ورع العدول: وهو الذي يوجب الفسق باقتحامه، وتسقط العدالة به، ويثبت اسم العصيان، والتعرض للنار بسببه، وهو الورع عن كلِّ ما تحرمه فتاوى الفقهاء .
ورع الصالحين: وهو الامتناع عما يتطرق إليه احتمال التحريم، ولكن المفتي يرخص في التناول بناء على الظاهر، فهو من مواقع الشبهة على الجملة.
ما لا تحرِّمه الفتوى ولا شبهة في حلِّه: ولكن يُخاف منه أداؤه إلى محرم، وهو ترك ما لا بأس به مخافة مما به بأس، وهذا ورع المتقين.
ما لا بأس به أصلًا ، ولا يخاف منه أن يؤدي إلى ما به بأس: ولكنه يتناول لغير الله ، وعلى غير نية التقوِّي به على عبادة الله ، أو تتطرَّق إلى أسبابه المسهلة له كراهية ، أو معصية ، والامتناع منه ورع الصديقين.
من قصص أهل الورع
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الحسن بن علي رضي الله عنهما أخذ تمرةً من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بالفارسية: كخ كخ، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر غلامٌ يخرج به الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنتُ تكهّنت لإنسان في الجاهليةِ وما أُحسِن الكهانةَ إلا أنني خدعتُه فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه, فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرةً فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريتُ منك الأرضَ ولم ابتع منك الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولدٌ؟ قال أحدهما: لي غلامٌ، وقال الآخر: لي جاريةٌ، قال: أنكحوا الغلامَ الجاريةَ، وأنفقوا على أنفسكما منه وتصدقا.
وعن ابن شهاب: قال ثعلبة بن أبي مالك: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطًا بين نساءٍ من نساء المدينة، فبقي مرطٌ جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين! أعطِ هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك، يريدون أم كلثوم بنت علي، لأن عمر تزوجها فتكون حفيدة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر: أم سليط أحقّ، وأمُّ سليط هي من نساء الأنصار، ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر رضي الله عنه: فإنها كانت تزفر – تخيط – لنا القرب يوم أحد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق